مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «في رحاب سورة المُزَّمِّل» «الحلقة السابعة»

موضوع سورة المزمل بعض الأوامر الووصايا السلوكية للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين مقرونة بالوعد، ومعالجةٌ للكافرين بالوعيد مع تأكيد أن رسالة الإسلام رسالة تذكير، لا رسالة سَوْق بالإجبار.[1]

وتشتمل السورة على دروس جمة سنتحدث عنها من خلال المحاور التالية:

1- نداء الرسول عليه الصلاة والسلام بوصفه بصفة تزمله نداء ملاطفة ورحمة لقيام الليل: وتجلت في الآيات حيث يقول عز من قائل: «ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّل قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً  نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً  أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً». [ المزمل:الآيات: 1-4]

جاء في لسان العرب: وزَمَّلَه فِي ثَوْبِهِ أَي لَفَّه. والتَّزَمُّل: التلفُّف بالثوب، وقد تَزَمَّل بالثّوب وَبثيابه أَي تَدَثَّر، وزَمَّلْته بِهِ؛ قال امرؤ القيس:[2]

كأَنَّ أَباناً، فِي أَفانين وَدْقِه، /// كَبِيرُ أُناسٍ فِي بِجادٍ مُزَمَّلِ

وأَراد مُزَمَّل فِيهِ أَو بِهِ ثم حذف الجار فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول، وفي التَّنْزِيلِ العزيز: «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ»؛ قال أَبو إِسحاق: المُزَّمِّل أَصله المُتَزَمِّل وَالتاء تدغم في الزاي لقربها منها، يقال: تَزَمَّل فلان إذا تَلفَّف بثيابه. وَكلّ شيء لُفِّف فقد زُمِّلَ. وَفِي حديث قتلى أُحُد: زَمِّلوهم بثيابهم أَي لُفُّوهم فيها، وفي حديث السَّقِيفَةِ: فإذا رجل مُزَمَّل بين ظَهْرانَيْهم أَي مُغَطًّى مُدَثَّر، يعني سَعْدَ بْنَ عُبَادة.[3]

وهو خطاب من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأداة النداء «يا» الموضوعة للمنادى البعيد، إشارة إلى بعد المنزلة بين الرب وعباده مهما كان العبد ذا قرب من الله بخضوعه وعبادته، واصطفاء الله له، ولو كان أفضل الأنبياء والمرسلين، وإشارة إلى أن الخائف المتزمل القابع بحجرته مبتعد يحتاج إلى مثل هذا النداء، وتنبيها على الاهتمام بالمطلوب بعد هذا النداء.[4]

وكثر مثل هذا في الاشتمال على اللباس، ففيه استعارة فقد شبه إجراء التبليغ بتحمل الحمل الثقيل بجامع المشقة، أو كناية عن المقصر والمتهاون بالأمر وتعريضا له، وقد كان هذا النداء في ابتداء الوحي بالنبوة، وعلى هذا فالآية فيها ملاطفة مع رسول الله ناداه ربه بصفة تلبس بها وهي التزمل: التلفف، وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان:

إحداهما: الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له: «قم أبا تراب» إشعارا أنه غير عاتب عليه وملاطفة له، وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة: « قم يا نومان» وكان نائما ملاطفة له وإشعارا بترك العتب والتأنيب، فقول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم « يا أيها المزمل قم الليل» فيه تأنيس وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.[5]

والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل، وذكر الله تبارك وتعالى فيه، لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل بذلك العمل واتصف بتلك الصفة، فهاتان فائدتان. [6]

ويلمح الأديب في النداء يا أيُّها المُزَّمِّل معنى الملاطفة الرفيقة الجادة، التي تضمنت الإشارة إلى مهمات الرسالة التي لا يتفق معها الإخلاد إلى السكون والراحة.[7]

وقوله: «قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً» فـ «قم» فعل أمر من قام يقوم قوما وقياما، والقيام هو ضد الجلوس، ويأتي القيام بمعنى العزم، يقال لغة: قام يفعل كذا، أي: عزم على فعله. وقام بالأمر، أي: فعله، وقام فلان الليل، أي: بقي صاحيا فيه لم ينم، ويكنى عن عبادة الله فيه بعبارة: « قام الليل» وخصت هذه العبادة غالبا بعبادة الصلاة في الليل. ودل الاستثناء بقوله تعالى: « إلا قليلا» على أن المراد بأداة التعريف «أل» في الليل الاستغراق، فهي مثل لفظ «كل» إذ الاستثناء دليل على أن المستثنى منه عام مستغرق كل أفراده أو أجزائه. [8]

 وقوله «قم» أي في خدمتنا بحمل أعباء نبوتنا والازدمال بالاجتهاد في الاحتمال، واترك التزمل فإنه مناف للقيام [9]، وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافىء، لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.[10]

ولما كان الاجتهاد في الخدمة دالاًّ على غاية المحبة، وكانت النية خيراً من العمل، وكان الإنسان مجبولاً على الضعف، وكان سبحانه لطيفاً بهذه الأمة تشريفاً لإمامها صلى الله عليه وسلم، رضى منا سبحانه بصدق التوجه إلى العمل وجعل أجورنا أكثر من أعمالنا، فجعل إحياء البعض إحياء للكل، فأطلق اسم الكل وأراد البعض فقال: «الليل» أي الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزلنا عليك من كلامنا فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البر والبحر والسر والجهر، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده، وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة، وهي عمادها، فذكرها دال على ما عداها.[11]

والقليل المستثنى لا بد أن يكون أقل من نصف الليل، أي: فهو الثلث أو نحوه، وقد بدأ الأمر الرباني بالأفضل من المقادير الموضوعة للتخيير، وهو قيام نحو ثلثي الليل.

وبعد هذا أذن النص بالاكتفاء بقيام واحد من أزمنة ثلاثة من الليل:

– الأول: الاكتفاء بنصف الليل، وجاء بيان هذا بعبارة: «نصفه» بدلا من الليل.

– الثاني: الاكتفاء بأنقص من نصف الليل، وجاء بيان هذا بعبارة: « أو انقص منه قليلا» ويصدق هذا بالثلث أو بما هو أكثر من الثلث وأقل من النصف.

– الثالث: الاكتفاء بما زاد على النصف ولو كان أقل من الثلثين، وجاء بيان هذا بعبارة: «أو زد عليه»[12]

ومن الأساليب البلاغية التي وردت في هذه الآية المطابقة الحاصلة بين «انقص منه قليلا»، و«أو زد عليه» وذلك لتأكيد المعنى السابق حول الأفضلية في القيام.

ولما أمر بالقيام وقدر وقته وعينه، أمر بهيئة التلاوة على وجه عام للنهار معلم بأن القيام بالصلاة التي روحها القرآن فقال: «ورتل القرآن ترتيلا» فقوله: «زد» فعل أمر، و«عليه» متعلقان بـ «زد»،« ورتل القرآن» فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، وترتيلا مفعول مطلق.[13]  والرَّتَلُ: اتّساق الشيء وانتظامه على استقامة، يقال: رجل رَتَلُ الأسنان، والتَّرْتِيلُ: إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة. قال تعالى:«وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا»[المزمل: 4]، «وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا»[الفرقان: 32] .[14] وجاء الأمر بترتيل القرآن مؤكدا بالمفعول المطلق: ترتيلا بعد الأمر بقيام الليل، لأن قيام الليل بعبادة الصلاة يشتمل على تلاوة آيات وسور من القرآن مأمور بترتيلها ترتيلا بعناية، ولا يفوتنا ما في إيحاء نبرات كلمة ترتيلا من ترسل وأناة وتجويد. فمن أغراض ترتيل القرآن تفهم آياته وتدبر معانيها، إذ هي ثرة المعاني، ثقيلة الوزن في الأفهام، لا يستطيع تاليها أن يدرك بسرعة ما فيها من كنوز معان ثقيلة، لما فيها من إيجاز، وما فيها من جوامع الكلم، والقواعد الكلية، والمطويات في المثاني، ولهذا جاء فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف القرآن بأنه لا تفنى عجائبه.[15] والحكمة فى الترتيل التدبر فى معانى القرآن والألفاظ بموعظة، والخوف عند آية الوعيد، والرجاء عند آية الوعد ونحو ذلك.[16]

ومن الأساليب البلاغية التي وردت في هذه الآية جناس الاشتقاق في قوله: «ورتل» و«ترتيلا» وذلك لتأكيد المعنى بذكر الفعل ومصدره لتحقيق صنعة الترتيل وبيانها وإيضاحها فجانس بينهما.

2- نزول الوحي وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بتحمل إبلاغه: واختزل ذلك في الآيات التالية: « إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً  إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً  إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً» [المزمل: الآيات: 5-9].

ففي قوله تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» الجملة اعتراض بين الأمر بقيام الليل وبين تعليله بقوله الآتي: «إن ناشئة الليل» إلخ وقيل: مستأنفة، وعبارة الزمخشري: «وهذه الآية اعتراض، ويعني بالقول الثقيل: القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي؛ التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين، خاصة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه متحملها بنفسه ومحملها أمته، فهي أثقل عليه وأبهظ له، وأراد بهذا الاعتراض: أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة؛ التي ورد بها القرآن؛ لأن الليل وقت السُّبات، والراحة، والهدوء، فلا بدّ لمن أحياه من مضادة لطبعه، ومجاهدة لنفسه» [17]، وإن واسمها، وجملة «سنلقي» خبرها، و«عليك» متعلقان بـ «نلقي»، و«قولا» مفعول به، و«ثقيلا» نعت، أي: كلاما عظيما جليلا مهيبا ذا خطر، وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل.[18]

وحقيقة الإِلقاء: رمي الشيء من اليد إلى الأرض وطرحه، ويقال : شيء لَقى، أي مطروح، استعير الإِلقاء للإِبلاغ دفعة على غير ترقب. [19]. ومن بلاغة الآية الاستعارة التصريحية في قوله: «سنلقي».

والثقل الموصوف به القول ثقل مجازي لا محالة، مستعار لصعوبة حفظه لاشتماله على معان ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه فيكون حفظ ذلك القول عسيراً على الرسول الأمّي تنوء الطاقة عن تلقّيه.

وقوله: « إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً » ثقله متعلق ابتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم لقوله قبله: «إنا سنلقي عليك» وهو ثقل مجازي في جميع اعتباراته وهو ثقيل صعب تلقيه ممن أنزل عليه. قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربَّد له جِلده؛ أي تغير بمثل القشعريرة. وقالت عائشة: « رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفَضُّ عرقاً ».[20]

ويستعار ثقل القول لاشتماله على معان وافرة يحتاج العلم بها لدقة النظر وذلك بكمال هديه ووفرة معانيه . قال الفراء : «ليس بالخفيف ولا السَّفْساف لأنَّه كلام ربنا تبارك وتعالى» [21]. وحسبك أنه حوى من المعارف والعلوم ما لا يفي العقل بالإِحاطة به فكم غاصت فيه أفهام العلماء من فقهاء ومتكلمين وبلغاء ولغويين وحكماء فشابه الشيء الثقيل في أنه لا يقوى الواحد على الاستقلال بمعانيه، وتأكيد هذا الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به وإشعار الرسول صلى الله عليه وسلم بتأكيد قربه واستمراره، ليكون وروده أسهل عليه من ورود الأمر المفاجىء. [22]

وعندما أفهمَ أن هذا التهجد في غاية العظمة، أكد ذلك حاثا على عدم الرضى بدون الأفضل الأجمل الأكمل بقوله: مؤكدا ليخف أمر القيام على النفس: «إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا»  فالجملة تعليل لما تقدم وإن واسمها وهي ضمير فصل أو مبتدأ، و«أشدّ» خبر إن أو خبر هي والجملة خبر إن، و«وطئا» تمييز، و«أَقْوم» عطف على «أشد» و«قيلا» تمييز أي قولا. [23]، فالناشيء هو ما يوجد متزايدا شيئا فشيئا، كالنبات يربو، والكائن الحي ينمو، وكأوقات الليل أو النهار تتراكم، والناشئة مؤنث الناشيء، وجاء في تفسير ناشئة الليل أنها ساعاته وآناؤه، لأنها تنشأ نشوءا متزايدا رابيا، والمراد من ساعات الليل وآنائه أعمال العبادة فيها، وهو على تقدير: إن الأعمال في ناشئة الليل، وهو مجاز بالحذف، فهو من قبيل المجاز المرسل، وجاء في تفسير ناشئة الليل أنها أعمال العبادة التي تُنْشأ في الليل، كالصلاة التي تنشأ في الليل، والذكر وتلاوة القرآن، فقيام الليل هو من ناشئة الليل، وهذا من إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له، ويسمى عند علماء البلاغة مجازا عقليا، وقد جرى هنا إطلاق لفظ الناشئة وهو اسم فاعل، على الأعمال المنشأة في الليل، والمنشأة اسم مفعول، فهو من إسناد اسم الفاعل إلى غير ما هو له.[24]

وإيثار لفظ «ناشئة» في هذه الآية دون غيره من نحو: قيام أو تَهَجُد، لأجل ما يحتمله من هذه المعاني ليأخذ الناس فيه بالاجتهاد. والوطء: أصله وَضْع الرِّجْل على الأرض، وهو هنا مستعار لمعنى يناسب أن يكون شأناً للظلام بالليل، فيجوز أن يكون الوطء استعير لفعل من أفعال المصلي على نحو إسناد المصدر إلى فاعله، أي وَاطِئاً أنتَ، فهو مستعار لتمكن المصلي من الصلاة في الليل بتفرغه لها وهدوء باله من الأشغال النهارية تمكّن الواطىء على الأرض فهو أمكن للفعل. والمعنى: أشد وقعاً ويجوز أن يكون الوطء مستعاراً لحالة صلاة الليل وأثرها في المصلي، أي أشد أثر خير في نفسه وأرسخ خيراً وثواباً، والأقوم: الأفضل في التقوي الذي هو عدم الاعوجاح والالتواء واستعير «أقوم» للأفضل الأنفع. و«قيلاً »: القَول، وأريد به قراءة القرآن لتقدم قوله: « إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً» [المزمل: 5] فالمعنى: أن صلاة الليل أعون على تذكر القرآن والسلامة من نسيان بعض الآيات، وأعون على المزيد من التدبر .[25]

ولما بين سبحانه من أول السورة إلى هنا ما به صلاح الدين الذي عصمة الأمر وبه صلاح الدارين، وأظهر ما للتهجد من الفضائل، فكان التقدير حتماً: فواظب عليه لتناول هذه الثمرات، قال معلّلاً محققاً له مبيناً ما به صلاح الدنيا التي هي فيها المعاش، وصلاحها وسيلة إلى صلاح المقصود، وهو الدين وهو الذي ينبغي له لئلا يكون كلاًّ على الناس ليحصل من الرزق ما يعينه على دينه ويوسع به على عيال الله من غير ملل ولا ضجر ولا كسل ولا مبالغة، مؤكداً لما للنفس من الكسل عنه .[ 26]  يقول تعالى: «إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً » فالآية تحمل على الاستعارة التصريحية فالسبح مصدر سبح وقد استعير من السباحة في الماء للتصرّف في مناحي العيش وحوائج الناس أي إن لك في النهار تصرفا وتقلبا في المهمات كما يتردد السابح في الماء، قال الشاعر: [27]

أَباحُوا لكم شرقَ البلاد وغربَها /// ففيها لكم يا صاحِ سبح من السَّبح

وقرىء سبخا بالخاء المعجمة ومعناه خفه من التكاليف، والتسبيخ التخفيف، وهو استعارة من سبخ الصوف إذا نفشه ونشر أجزاءه، ومعناه انتشار الهمّة وتفرّق الخاطر في الشواغل، ويقال لقطع القطن سبائخ الواحدة سبيخة.[28] ومنه قول الأخطل:[29]

فَأَرْسَلُوهُنَّ يُذْرِينَ التُّرَابَ كَمَا /// يُذْرِي سَبَائِخَ قُطْنٍ نَدْفُ أَوْتَارِ

فـ «إن» حرف مشبه بالفعل، و«لك» خبر إن المقدّم، و«في النهار» حال لأنه كان في الأصل صفة لسبحا، و«سبحا» اسم إن، و«طويلا» اسمها المؤخر.[30]

ومن الأساليب البلاغية التي وردت في هذه الآيات نجد المطابقة بين لفظتي الليل والنهار، وذلك في قوله تعالى: «إن ناشئة الليل» وقوله «إن لك في النهار» حيث طابق بين الليل والنهار.

وأما وصف السَّبح بــ « طويل» في هذه الآية فهو مجاز عقلي لأن الطويل هو مكان السبح وهو الماء المسبوح فيه. وبعدَ هذا ففي قوله «طويلاً » ترشيح لاستعارة السَّبح للعمل في النهار.[31]  وفي هذه الآية إرشاد إلى أن تكون الحركة لتحصيل مطالب الحياة، وكسب الأرزاق، وابتغاء المعايش، برفق وسماحة وتلطف، وكذلك الحركة للقيام بوظائف الرسالة الدعوية والتربوية ونحوهما.[32]

وإذا اتجه الإنسان لتحصيل مطالب حياته ومعايشه بحركة السبح، أفيترك وهو يسبح ذكر ربه؟

وقد جاء الجواب الرباني على هذا التساؤل النفسي، بقول الله عز وجل في الآىتين: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً» [المزمل: 8-9]، فقوله تعالى: «واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا» عطف على ما تقدم، و«اسم ربك» مفعول «اذكر» أي دم عليه ليلا ونهارا على أيّ حال ووجه، و«تبتَّل» فعل أمر، و«إليه» متعلقان به، و«تبتيلا» مفعول مطلق.[33]

ولفظ «اسم» هو نكرة تصدق بأي اسم من أسماء الله الحسنى، ولما كان استغراقها متعذرا أو شاقا جدا، كان المطلوب ذكر الاسم الملائم لحركة حياة السابح من أسماء الله الحسنى.

وأسماء الله الحسنى باستثناء الاسم العلم «الله» هي أسماء دالات على صفاته، ولا شك أن ذكر الأسماء الدالات على الصفات تجعل الذاكر في حالة مراقبة لله عز وجل عند كل عمل يعمله، أو يخطر له أن يعمله، فإذا كان يعمل في كسب الرزق فليذكر اسم الله الرزاق، واسم الله الغني، واسم الله الكريم، وإذا خطر له أن يرتكب معصية، فليذكر من أسماء الله المنتقم، الجبار، العدل، وإذا توجه للقيام بعمل فليقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا فعبارة و«اذكر اسم ربك» صالحة لكل ذلك وأشباهه.[34]

والتَّبَتُّلُ : شدة البَّتل، وهو مصدر تبتّل القاصر الذي هو مطاوع بَتَّله، فـ «تبتل» وهو هنا للمطاوعة المجازية يقصد من صيغتها المبالغة في حصول الفعل حتّى كأنه فعله غيره به فَطاوعه، والتبتل : الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله ، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي بـ « إلى» الدالة على الانتهاء.[35]، قال امرؤ القيس :[36]

مَنَارَةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ

والتبتيل: مصدر بتَّل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التّقطيع، وجيء بهذا المصدر عوضاً عن التبتل للإِشارة إلى أن حُصول التبتل، أي الانقطاع يقتضي التبتيل أي القطْع. ولما كان التبتيل قائماً بالمتبتل تعين أن تبتيله قطعه نفسه عن غير من تبتل هو إليه، فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى، فالجمع بين « تبتل» و « تبتيلاً » مشير إلى إراضة النفس على ذلك التبتل. وفيه مع ذلك وفاء بِرعي الفواصل التي قبله. [37]. ومن الأساليب البلاغية التي وردت في الآية جناس الاشتقاق بين لفظتي «تبتل» و «تبتيلا» فيهما تأكيد الفعل بالمصدر، فأعلم بالتأكيد بالمصدر المرشد إلى الجمع بين التفعل والتفعيل بشدة الاهتمام وصعوبة المقام.[38]

ولما كان الواجب على كل أحد شكر المنعم، بين أنه سبحانه الذي أنعم بسكن الليل الذي أمر بالتهجد فيه ومنتشر النهار الذي أمر بالسبح فيه، فقال واصفاً الرب المأمور بذكره «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»، وأما رب المشرق فيكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو رب المشرق والمغرب[39] ، والفاء الفصيحة أي: إن عرفت ذلك وآمنت به فاتخذه، و«اتخذه» فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به أول، و«وكيلا» مفعول به ثان[40].  ومن بديع الكلام نجد الطباق في هذه الآية بين لفظتي المشرق والمغرب.

ولما علم بهذا أنه المختص بتدبير الكائنات، المتفرد بإيجاد الموجودات، كان أهلا لأن يفرد بالعبادة، فقال مستأنفا «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» إشارة إلى كماله تعالى في ذاته، والكمال محبوب لذاته. وفيه دليل على أن من لم يفوض كل الأمور إلى ربه لم يكن راضيا بألوهيته، ولا معترفا بربوبيته. وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سيكفيه شر الكفار وأعداء الدين.[41]  وفي الآية كذلك أسلوب قصر، إذ قصر الألوهية عليه عز وجل وجاءت الآية عقب وصف الله سبحانه وتعالى بـ« رب المشرق والمغرب».

إن المتدبر لهذا الدرس من دروس سورة المزمل يلاحظ مبلغ الاهتمام بأعمال العبادة التي تصل المؤمن بربه، وتعده للقيام بواجب جهاد الدعوة وأعمال الجهاد الأخرى، فمجاهدة النفس عمل سابق ومتقدم على القيام بواجبات جهاد الآخرين.[42]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/164.

[2] ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ص: 25، الطبعة الرابعة، دار المعارف.

[3] لسان العرب، ابن منظور، 11/311.

[4] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/157.

[5] تفسير مبهمات القرآن الموسوم بصلة الجمع وعائد التذييل لموصول كتابي الاعلام والتكميل، للإمام أبي عبد الله محمد بن علي البلنسي، دراسة وتحقيق: عبد الله عبد الكريم محمد،  2/ 657 658، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى: 1411 هـ/1991م.

[6] نفسه، ص: 658.

[7] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/157.

[8] نفسه، 1/158.

[9] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، 21/3.

[10] في ظلال القرآن، سيد قطب، ص: 3744.

[11] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 21/3-4.

[12] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/159.

[13] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين درويش، 8/111.

[14] المفردات في غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، 1/341، دار القلم، الدار الشامية – دمشق بيروت، الطبعة: الأولى – 1412 هـ.

[15] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/161.

[16] التفسير المظهري، المظهري، محمد ثناء الله، تحقيق: غلام نبي التونسي،10/105، مكتبة الرشدية الباكستان، الطبعة: 1412 هـ.

[17] الكشاف، الزمخشري، 4/638.

[18] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/111-112.

[19] التحرير والتنوير، الشيخ الطاهر ابن عاشور، 29/261.

[20] نفسه، 29/261.

[21] معاني القرآن، أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي الفراء، تحقيق: أحمد يوسف النجاتي / محمد علي النجار / عبد الفتاح إسماعيل الشلبي، 3/197، دار المصرية للتأليف والترجمة مصر، الطبعة: الأولى.

[22] التحرير والتنوير، 29/261-262.

[23] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/112.

[24] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/164.

[25] التحرير والتنوير، 29/263.

[26] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 21/12-13.

[27] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/113.

[28] نفسه، 8/113.

[29] ديوان الأخطل، تحقيق مهدي محمد ناصر الدين، ص: 140، الطبعة الثانية: 1414هـ/1994م، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.

[30] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/112.

[31] التحرير والتنوير، 29/265.

[32] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/167.

[33] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/112.

[34] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/169.

[35] التحرير والتنوير، 29/265.

[36] ديوان امرئ القيس، ص: 17.

[37] التحرير والتنوير، 29/265- 266.

[38] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 21/14.

[39] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/169.

[40] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/112.

[41] التفسير المنير، الزحيلي، 29/195.

[42] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/171.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق