مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «في رِحابِ سورة المُزَّمِّل» «الحلقة السادسة»

تمهيد:

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا [الكهف:1] فجعله كتابا قيما للبشارة والإنذار لا يأتيه الباطل من كل جهة من جهاته، لأنه من لدن حكيم خبير، لذا فهو معجز في كل تفصيلاته وأجزاءه، ومن معجزاته البلاغية دقة تراكيبه وأساليبه ومعانيه، وجمالية تصويره للمواقف والمشاهد.

وفي هذه الحلقة سنقف عند سورة المزمل، وما احتوته آياتها البديعة من دروس وعبر في قالب معجز وكلام مبين، وما أثار انتباهي استهلال السورة الكريمة بأداة النداء «يا»، كما هو الحال في سورة المدثر التي تطرقنا إليها في الحلقة السابقة، وقبل الغوص في خبايا سورة المزمل ومعرفة ما تجود به آياتها من درر وأساليب بلاغية، سنتحدث عن حرف النداء الذي شغل مساحة واسعة في الخطاب القرآني، واختلفت أطرافه وتشعبت سياقاته وتراكيبه.

النداء في القرآن الكريم:

كتاب الله تعالى يضم في ثناياه الكثير من الأساليب والتراكيب في صور بديعة ومعانٍ دقيقة وسياقات بليغة، وفي هذا المقام نجد ذكر النداء وتكراره في القرآن الكريم بشكل كبير، ذلك أنه خطاب موجه للرسل والعباد كافة وهو أسلوب احتوى الكثير من التوجيهات والأوامر والنواهي، وتنوعت سياقاته في كتاب الله العزيز فهو تارة نداء للأنبياء بأسمائهم أو صفاتهم كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا المُزَّمِّل»[المزمل: 1]، أو لأشخاص محددين مثل السيدة مريم عليها السلام يقول تعالى: « فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب » [ آل عمران: 37]، أو هامان في قوله عز وجل: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَاب»[غافر: 36] أو نداء فرعون في قومه يقول جل علاه: «وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ ياقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُون» [الزخرف: 51]، وتارة أخرى يكون النداء موجها للناس في قوله تعالى: « ياأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون » [ البقرة: 21 ] أو العباد عامة: « ياعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُون » [العنكبوت: 56]، أو إلى بني آدم: « يا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون » [ الأعراف: 27]، ومرة للمؤمنين في قوله تعالى:«ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون » [البقرة: 183]، ونداء أولي الألباب في قوله تعالى: « وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون» [البقرة: 179] وأخرى للنفس المطمئنة: « ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة» [ الفجر: 27] ونداء للكافرين: « قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون » [ الكافرون: 1-2]، بالإضافة إلى نداء أهل الكتاب في قوله تعالى: «ياأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولا» [النساء: 47]، ونداء بني إسرائيل في قوله تعالى: «يابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِين» [البقرة: 47]، وأحيانا يكون النداء موجها لأشياء في الطبيعة مثل الأرض والسماء كقوله تعالى: « وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِين »[ هود: 44] وغيرها.

ولم يرد النداء في القرآن الكريم إلا بالأداة «يا»، قال ابن هشام: « ليس في التنزيل نداء بغير يا »[1] ، وقد اقترنت هذه الأداة بلفظة «أيها» فجاءت بصيغة «يا أيها» وذلك في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ثم إن هذه الصيغة ذات العناصر المتكاثفة في النداء هي أكثر أساليب النداء ورودا في القرآن الكريم، وسر ذلك كما ذكروا هو أهمية المقاصد التي نادى الحق خلقه ليسمعهم إياها.[2] ووردت بصيغة المؤنث في قوله تعالى: «ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة »[الفجر: 27].

وكان من الطبيعي أن يتردد النداء ويتكرر في الكثير من الآيات القرآنية، حيث يعد أحد أعمدة الخطاب البليغ، ذلك أن مقاصده جليلة؛ فالخطاب موجه من الله تعالى لأنبيائه، وفي مواضع أخرى لفئات مختلفة المؤمنة منها والمشركة، فكان النداء الوسيلة التي خاطب الله بها عباده، وذلك: « لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة: لأن كل ما نادى اللَّه له عباده- من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك مما أنطق به كتابه- أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان- عليهم أن يتيقظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها، وهم عنها غافلون، فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. »[3]

لقد تعددت سياقات النداء في القرآن الكريم، وفي سورة المزمل ورد نداء النبي عليه السلام بصفته وليس باسمه يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل» [الزمل: 1]، والشأن كذلك في سورة المدثر في قوله عز وجل:« يَا أَيُّهَا المُدَّثِّر»، ففي آيات سورة المزمل يحث الله سبحانه وتعالى نبيه على العبادة والذكر، ويعلمه ما يجب أن يكون عليه مع ربه، بينما في سورة المدثر يأمره بنشر هذه الدعوة والامتثال لأوامره تعالى، وفي هذه النداء مؤانسة وملاطفة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا المقام يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور:« فإذا نودي  المنادى بوصف هيئته من لِبسة أو جِلسة أو ضِجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته، ومنه قول النبي  صلى الله عليه وسلم  لعلي بن أبي طالب وقد وجده مضطجعاً في المسجد وقد علق تراب المسجد بجنبه  «قُم أَبا تراب»،  وقوله لحذيفة بن اليمان يوم الخندق « قم يا نَوْمانُ »، وقولِه لعَبْد الرحمن بن صخر الدوسي وقد رآه حاملاً هِرّة صَغيرةً في كمه « يا أبا هُريرة »، فنداء النبي بــ  «يا أيها المزمل» نداء تلطف وارتفاق ومثله قوله تعالى: « يا أيها المدثر» [المدثر : 1 ]»[4]

وسنقتصر على ذكر نماذج من بعض الآيات التي جاء فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته، حسب ما اقتضته السورة التي نحن بصددها، وفي ذلك يقول عز وجل:

– «ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم»[المائدة: 41].

– ياأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين» [المائدة: 67].

– ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون» [الأنفال: 65].

– ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم» [الأنفال: 70].

– ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير» [التوبة: 73].

– «وَقَالُواْ ياأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُون»[الحجر: 6].

– ياأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا» [الأحزاب:1].

– « ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم »[الممتحنة: 12].

– « ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا» [الطلاق: 1].

– « ياأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم »[التحريم: 1].

– « ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير»[التحريم: 9].

– « ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّل » [المزمل: 1].

– « ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّر » [المدثر:1].

أحرف النداء:

النداء لون من ألوان الخطاب له حروفه الخاصة التي تميزه عن باقي الحروف اللغوية الأخرى، فهو يُنطق بامتداد الصوت لبث كوامن النفس وجلب الانتباه، وفي ذلك يقول الشيخ محمد محمد أبو موسى: «وأكثر هذه المواقع تجري في السياقات المليئة ذات الحس الطاغي والموقف المفعم، وترى الأداة في كثير منها كأنها صيحة أو صرخة يطلقها الشاعر والبليغ المبين على حد ما نجد كلمات كثيرة في اللغة تمثل في كثير من المواقف قمة الإحساس، والحاجات الملحة إلى لفت من يسمعه وإيقاظه».[5]،  ويقوم النداء على ثلاثة أركان  هي: أداة النداء والمنادى والأمر المنادى من أجله، وقد اختلف النحويون في عدد أدوات النداء، فذكر سيبويه أنها خمسة وهي: يا، وأيا، وهَيا، وأي، والألف.[6]

فيما ذكرت ثمانية وهي: يا، والهمزة، وأي، وآ، وآي، وأيا، وهيا، ووا. فالهمزة وأي لنداء القريب، وغيرهما لنداء البعيد.[7]

وقسم علماء النحو أدوات النداء إلى قسمين:

القسم الأول: الهمزة وأي لنداء القريب، فأما ما يستعمل للنداء القريب، فعلة ذلك أن المصغي قريب لا يحتاج إلى مد الصوت عند ندائه، وفسر ابن يعيش ذلك بقوله:« لأنّها تُفيد تنبيهَ المدعوّ، ولم يُرَد منها امتدادُ الصوت لقُرب المدعوّ ».[8]

أما الأداة أي فيقول عنها الأوسي: « لا تصلح أن تكون أداة لنداء البعيد، وإنما هي تصلح أن تكون أداة لتنبيه القريب، وذلك لأن سكون الياء فيها لا يعين على مد الصوت ورفعه بها».[9]

ويتضمن القسم الثاني الأدوات التالية: يا، والهمزة، وأي، وآ، وآي، وأيا، وهيا، ووا، وتستعمل لنداء البعيد، وذكر الرماني أن «يا» من حروف النداء وهي أم حروفه.[10] لأنها تدخل في النداء الخالص، وفي النداء المشوب بالندبة، أو الاستغاثة، أو التعجب، كما تتعين وحدها في نداء اسم الله تعالى، لبعد مكانته مع قربه الشديد منا: « وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد » [ق: 16]، وتتعين أيضا في نداء «أيُّها»، وتتعين هي و «وا» في باب الندبة».[11]

ثم تأتي «أيا» وهي من الحروف العوامل، ينبه بها المنادى، وذلك إذا كان بعيدا منك أو نائما او متراخيا، تقول: «أيا زيد، أيا عبد الله». [12] قال ذو الرمة:[13]

أَيَا ظَبْيةَ الوعساء بَيْنَ جُلَاجِلٍ /// وبيْنَ النَّقا أأَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمِ

و«هيا» مجراها مجرى «أيا»، تقول من ذلك: «هيا زيد، وهيا عبد الله»، والهاء بدل من الهمزة، كما أبدلوها في هرقت الماء، وهبرت الثوب.[14]

وقد تستعمل «يا» لنداء القريب وذلك  لعلة بلاغية  وفيها إعلام بشأن المنادى ومكانته إِذَا نُوديَ بِهَا القَرِيبُ الْفَطِنُ[15]،  قال الزّمخْشريُّ: فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معنىّ به جداً.[16]

وقد ينزل البعيد منزلة القريب فينادى بالهمزة أو أي تنبيها على أنه لا يغيب عن القلب، بل هو مالك الفؤاد واللب، فكأنه حاضر الجثمان، ليس بِناءٍ عن العميان[17]،  كقول الضبي في رثاء ابنه:

أَأُبَيُّ لَا تَبْعدْ وَلَيْسَ بِخَالِدٍ /// حَيٌّ وَمَنْ تُصِبِ المَنُونُ بَعِيدُ [18]

كما قد يعكس فينزل القريب منزلة البعيد فينادى بإحدى أدواته إما: [19]

أ- للدلالة على أن المنادى رفيع القدر عظيم الشأن فيجعل بعد المنزلة كأنه بعد في المكان: كقول أبي بكر بن النطاح في مدح أبي دلف العجلي:[20]

أَبَا دُلَفٍ بُورِكْتَ في كُلِّ بَلْدَةٍ /// كَمَا بُورِكَتْ في شَهْرِهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ

ب- للإشارة إلى أنه وضيع، منحط الدرجة: وعليه قول الفرزدق يهجو جريرا:[21]

أُوْلَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ /// إِذَا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيرُ المَجَامِعُ

ج- للإشعار بأن السامع غافل لاه، فتعتبره كأنه غير حاضر في مجلسك: وعليه قول البارودي:[22]

يا أَيُّهَا السَّادِرُ المُزْوَرُّ مِنْ صَلَفٍ ///مَهْلًا فَإِنَّكَ بِالأَيَّامِ مُنْخَدِعُ

الأغراض البلاغية للنداء:

1- التحسر والتوجع: ومنه قوله تعالى: « أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين »[الزمر: 56].[23]

 ومنه في رثاء معن بن زائدة:[24]

فَيَا قَبْرَ مَعْنٍ كيفَ وارَيْتَ جودَهُ/// وقَدْ كانَ منه البرُّ والبحرُ مُتْرَعا

2- التعجب كقول طرفة:[25]

يَا لَكِ من قُبَّرَةٍ بمَعْمَرٍ /// خَلا لَكِ الجَوُّ،  فَبِيضي واصْفِرِي

3- الاختصاص: ويكون بحذف النداء؛ مثل أيها الرجل؛ أي دون الرجال، وهذا هو أحد الفروق بين النداء والاختصاص، إذ في المنادى قد يذكر حرف النداء.[26]

4- الندبة: ومن قول المتنبي:[27]

وا حَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قلبُهُ شَبِمُ /// وَمَنْ بِجِسْمي وَحَالِي عندَهُ سَقَمُ

5- الإغراء والتحذير: ومنه قوله تعالى: « فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا » [الشمس: 13].

6- الزجر والملامة، كقوله:

أَفُؤَادِي مَتَى المَتابُ أَلَمَّا /// تَصِحَّ والشّيبُ فَوقَ رَأْسِي أَلَمَّا

7- الاستغاثة: كما تقول: يا للشباب، يا لذوي الغيرة، يا لحماة الوطن، يا للذابين عن الدين.[28]

ومما لا شك فيه فقد استهلت سورة المزمل بحرف النداء «يا» الذي تحدثنا عنه في هذا المقال فكان المنطلق لتتبع آيات السورة وكشف خباياها، كما حملت السورة في ثناياها دروسا كثيرة سنقف عليها في الحلقات المقبلة، مع بيان ما تضمنته من أساليب بلاغية أغنت السورة بفوائد جليلة ومعانيَ عظيمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ابن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام،  تحقيق: د. مازن المبارك / محمد علي حمد الله، ص: 18،  دار الفكر دمشق، الطبعة: السادسة، 1985.

[2] دلالات التراكيب دراسة بلاغية، محمد محمد أبو موسى، ص: 263، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية: 1408هـ/ 1987م.

[3] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله، 1/90، دار الكتاب العربي بيروت، الطبعة: الثالثة – 1407 هـ.

[4] التحرير والتنوير، الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، 29/255-256.

[5] دلالات التراكيب دراسة بلاغية، محمد محمد أبو موسى، ص: 262.

[6] الكتاب، عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي ، أبو بشر، الملقب سيبويه، تحقيق: عبد السلام محمد هارون،  2/229، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الثالثة، 1408 هـ – 1988 م.

[7] معجم البلاغة العربية، الدكتور بدوي طبانة، ص: 660، الطبعة الثالثة.

[8] شرح المفصل للزمخشري، يعيش بن علي بن يعيش ابن أبي السرايا محمد بن علي، أبو البقاء، موفق الدين الأسدي الموصلي، المعروف بابن يعيش وبابن الصانع، قدم له: الدكتور إميل بديع يعقوب، 1/361، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة: الأولى، 1422 هـ – 2001 م.

[9] أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، الدكتور قيس إسماعيل الأوسي، ص: 227.

[10] معاني الحروف مذيلا  بالإعجاز اللغوي لحروف القرآن المجيد، الإمام أبي الحسن علي بن عيسى الرماني، تحقيق الشيخ عرفان بن سليم العشا حسونة الدمشقي، ص: 70، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت.

[11] الأساليب الإنشائية في النحو العربي، عبد السلام محمد هارون، ص: 137. مكتبة الخانجي- القاهرة، الطبعة الخامسة: 1421 هـ/ 2001م.

[12] معاني الحروف، الرماني، ص: 160.

[13] ديوان ذي الرمة،  شرح أبي نصر الباهلي رواية ثعلب، أبو نصر أحمد بن حاتم الباهلي، تحقيق: عبد القدوس أبو صالح، 2/767، مؤسسة الإيمان جدة، الطبعة: الأولى، 1982 م – 1402 هـ.

[14] معاني الحروف، الرماني، ص: 160.

[15] البرهان في علوم القرآن، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، 2/415، الطبعة: الأولى، 1376 هـ – 1957 م، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه.

[16] الكشاف، 1/89.

[17] علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»، أحمد بن مصطفى المراغي، ص:81.

[18] شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، الخطيب التبريزي، كتب حواشيه: غريد الشيخ، وضع فهارسه: أحمد شمس الدين 1/648، دار الكتب العلمية: بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1421هـ/ 2000م.

[19] علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»، أحمد بن مصطفى المراغي، ص:81.

[20]  معاهد التنصيص على شواهد التلخيص، عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، 1/209، عالم الكتب بيروت.  

[21] ديوان الفرزدق، شرحه وضبطه وقدم له الأستاذ علي فاعور،  ص: 360، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة الاولى: 1407هـ/ 1987م.

[22] ديوان محمود سامي البارودي، تحقيق: علي الجارم ومحمد شفيق معروف، ص: 338، دار العودة- بيروت.

[23] البلاغة فنونها وأفنانها، ص: 171.

[24] شرح ديوان الحماسة، يحيى بن علي بن محمد الشيبانيّ التبريزي، أبو زكريا، 1/388،  دار القلم بيروت.

[25] ديوان طرفة بن العبد، تحقيق: مهدي محمد ناصر الدين، ص: 49، دار الكتب العلمية، الطبعة: الثالثة، 1423 هـ – 2002 م.

[26] البلاغة فنونها وأفنانها، الدكتور فضل حسن عباس، ص: 171.

[27] ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح العلامة عبد الرحمن البرقوقي، تحقيق: الدكتور عمر الطباع، 2/242.

[28] البلاغة فنونها وأفنانها، ص: 172.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق