مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «تأملات بلاغية في سورة المدثر» «الحلقة الخامسة»

الأساليب البلاغية في سورة المدثر:

وفي فواتح السور قال أهل البيان: «من البلاغة حسن الابتداء، وهو أن يتأنق في أول الكلام، لأنه أول ما يقرع السمع، فإن كان محررا أقبل السامع على الكلام ووعاه، وإلا أعرض عنه، ولو كان الباقي في نهاية الحسن، فينبغي أن يؤتى بأعذب لفظ وأجزله، وأرقه وأسلسه، وأحسنه نظما وسبكا، وأصحه معنى، وأوضحه وأخلاه من التعقيد والتقديم والتأخير الملبس، أو الذي لا يناسب. وقد أتت جميع فواتح السور على أحسن الوجوه، وأبلغها وأكملها، كالتحميدات وحروف الهجاء والنداء وغير ذلك». [1]

ويشير ابن أبي الأصبع إلى السر في افتتاحات السور الذي يتجلى فيه إعجاز القرآن الكريم بقوله:«إن إعجازه بأسلوبه البياني ونظمه العجيب واشتماله على الألوان البلاغية التي تشمل صفات الأدب الخالدة من مبادئ وافتتاحات، وفواصل ومقاطع وتشبيهات واستعارات».[2]

وافتتحت سورة المدثر بصيغة الخطاب المباشر من الله لرسوله بـ «يا أيها المدثر» ولم تُصرِّح باسم الرسول الأعظم، و«يا» أكثر أدوات النداء استعمالا، ولهذا قيل: إنها مشتركة بين النداء البعيد والقريب، ولكن كثيرا من العلماء ذهب إلى أنها وضعت لنداء البعيد[3]، قال الزمخشري: هي لنداء البعيد أو من هو بمنزلته من نائم أو ساهٍ، فإذا نودي بها من عداهم فلحرص المنادى على إقبال المدعو عليه ومُفاطنته لما يدعوه له.[4]، والتعبير بالأداة الصالحة للقرب والبعد يراد به غاية القرب بما عليه السياق وإن كان التعبير بالأداة فيه نوع ستر لذلك مناسبة للتدثر، واختير التعبير بها لأنه لا يقال بعدها إلى ما جل وعَظُم من الأمور، وكان الدثار لم يعم بدنه الشريف بما دل عليه التعبير بالإدغام دون الإظهار الدال على المبالغة لأن المراد إنما كان ستر العين ليجتمع القلب، فيكفي في ذلك ستر الرأس وما قاربه من البدن، والإدغام شديد المناسبة للدثار[5]، ثم انتقل الخطاب إلى  الأسلوب الإنشائي، ممثلا في أفعال الأمر من قبيل: [قم، أنذر، كبر، اهجر، اصبر]  وابتدىء بالأمر بالإنذار لأن الإنذارَ يجمع معانيَ التحذير من فعل شيء لا يليق وعواقبه، فالإِنذار حقيق بالتقديم قبل الأمر بمحامد الفعال لأن التخلية مقدمة على التحلية ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأن غالب أحوال الناس يومئذٍ محتاجة إلى الإِنذار والتحذير.[6]

ومن الأساليب البلاغية التي وردت في سورة المدثر فن الإبهام في قوله تعالى: «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» وفيه يقول محيي الدين درويش: الإبهام فن من فنون البلاغة، وهو: أن يقول المتكلم كلاما يحتمل معنيين متغايرين لا يتميز أحدهما عن الآخر، والفرق بينه وبين الاشتراك المعيب أن الاشتراك لا يصح إلا في لفظة مفردة لها مفهومان لا يعلم أيهما أراد المتكلم، والإبهام لا يكون إلا في الجمل المؤتلفة المفيدة ويختص بالفنون كالمدح والهجاء والعتاب والاعتذار والفخر والرثاء والنسيب وغير ذلك، ومنه نوع آخر يقع لأحد أمرين: إما لامتحان جودة الخاطر وإما لامتحان قوة الإيمان وضعفه، وهذه الآية التي نحن بصددها من هذا النوع أي امتحان قوة الإيمان وضعفه فإنه معنى «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» مبهم أشدّ الإبهام. [7]

ومن الأساليب البلاغية قوله تعالى: «ورَبَّكَ فَكَبِّرْ» فن طريف، وقد وضع له علماء البديع اسم «ما لا يستحيل بالانعكاس» وسماه بعضهم «القلب» وبعضهم الآخر سماه «المقلوب المستوي» وهو: أن يكون الكلام بحيث إذا قلبته، وابتدأت من حرفه الأخير إلى الحرف الأول، كان الحاصل هو هذا الكلام عينه، وهو قد يكون في النظم، وقد يكون في النثر، أما في النظم فمنه قول القاضي الأرَّجاني:[8]

مَوَدَّتُهُ تَدُومُ لِكُلِّ هَوْلٍ /// وَهَلْ كلٌّ مَوَدَّتُهُ تَدُومُ [9]

وقد يكون ذلك في شطر بيت كقول القائل:[10]

وَلَمَّا تَبَدَّى لَنَا وَجْههُ ///أَرَانَا الإِلَهُ هِلَالًا أَنَارَا

والشاهد في المصراع، الثاني أما في النثر فقال الله تعالى: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ)، (رَبَّكَ فَكَبِّرْ)، ويحكى عن العماد الكاتب: أنه لقي القاضي الفاضل يوما، وهو راكب فرسا، فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له القاضي: دام علا العماد، وهذا كله مستاغ لا تكلف فيه، فلذلك أتى مستملحا جاريا في حدود الطبع.[11]

وفي قوله تعالى: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ» إن أريد الثياب الحقيقة الظاهرة على البدن فالكلام جار على الحقيقة وليس فيه شيء من فنون البلاغة لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة، وإن أريد القلب كان الكلام كناية على حد قول امرئ القيس:[12]

وإِنْ تَكُ قدْ ساءَتْكِ مِنِّي خَليقةٌ /// فَسُلِّي ثِيابي مِنْ ثِيابِكِ تَنْسُلِ

أي: قلبي من قلبك، وقيل كنى عن النفس بالثياب، قال عنترة: [13]

فَشَككْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ ثيابَهُ /// لَيْسَ الكَريمُ عَن القَنَا بِمُحَرَّمِ

وقيل كنى بها عن الجسم، قالت ليلى وقد ذكرت إبلا: [14]

رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ فَلَا نَرَى /// لَهَا شَبَهًا إلَّا النَّعَامَ المنضَّرَا

أي ركبوها فرموها بأنفسهم.[15]

ومن الأساليب البلاغية التي جاءت في السورة «نفي الشيء بإيجابه»  في قوله تعالى: «فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ»، وهو كما قال محيي الدين درويش: أن يثبت المتكلم شيئا في ظاهر كلامه بشرط أن يكون المثبت مستعارا، ثم ينفي ما هو من سببه مجازا، والمنفي حقيقة في باطن الكلام، وقد تحدثنا عنه طويلا في البقرة عند قوله: «لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا»، وفي غافر عند قوله: «وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ»، وهنا تعريف أكثر إيضاحا، وهو: أن تذكر كلاما يدل ظاهره أنه نفي لصفة موصوف، وهي نفي للموصوف أصلا [16]، واعتاد البلاغيون أن يمثلوا له بقول امرئ القيس:[17]

عَلى لاحِبٍ لا يُهْتَدى بِمَنارِهِ /// إذا سافَهُ العَوْدُ الدَّيَافِيُّ جَرْجَرَا

فقوله: لا يهتدى لمناره، أي: إن له منارا، إلا أنه لا يهتدى به، وليس المراد ذلك، بل المراد: أنه لا منار له يهتدى به، وهنا ليس المعنى أنهم يشفع لهم، فلا تنفعهم شفاعة من يشفع لهم، وإنما المعنى نفي الشفاعة، فانتفى النفع، أي: لا شفاعة شافعين لهم، فتنفعهم من باب: «على لاحب لا يهتدي بمناره» أي: لا مُنار له فيهتدى به، وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات ينتفع بها.[18]

ومن الأساليب البلاغية أيضا التشبيه التمثيلي  في قوله تعالى: «كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفرة، فرّت من قَسْورة»  لأن وجه الشبه منتزع من متعدد [19]، فالمشبه ضمير «هم» الذي يرجع إلى أهل النار، والمشبه به «حمر مستنفرة»، وأداة التشبيه كأن، ووجه الشبه منتزع في الآية.

وقد شبههم تعالى بالحمر المستنفرة وفي ذلك مذمة ظاهرة، وتهجين لحالهم، وشهادة عليهم بالبله، وقلة العقل، ولا ترى مثل نفار حمر الوحش، واطّرادها في العدو إذا رابها رائب.[20]

ومن أنواع المحسنات المعنوية التورية وهي مصدر مثل تحلية وتخلية وتعمية وتنقية، يقال: ورى الخبر تورية إذا ستره وأظهر غيره وهي: «أن يذكر اللفظ المفرد ويكون له معنيان، أحدهما قريب والآخر بعيد، ويكون البعيد هو المراد، ولا بد لها من قرينة تبين المعنى المراد، وهذه القرينة تدرك بالتأمل»[21]، فالتورية إذن هي ذكر لفظ مفرد له معنيان أولهما قريب غير مقصود وثانيهما بعيد وهو المقصود. ومثالها في سورة المدثر قوله تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ». [المدثر: 31].

فالآية الكريمة تحتوي على توريتين فالأولى في لفظة مرض التي لها معنيين:

معنى قريب غير مقصود هو الداء أو العلة التي يصاب بها القلب.

ومعنى بعيد مقصود هو الشك والنفاق الذي يصيب الكافرين.

والثانية في لفظة (جنود) التي تحتمل معنيين: معنى قريب غير مقصود، ومعنى بعيد مقصود هو عدد الملائكة وضخامتهم وقوتهم.

ومن المحسنات المعنوية أيضا التي وردت في السورة المطابقة وتسمى الطباق والتضاد أيضا، وهي الجمع بين متضادين أي معنيين متقابلين في الجملة، ويكون بلفظين من نوع اسمين نحو: «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ»، أو فعلين «يُحْيِي وَيُمِيتُ»، أو حرفين، نحو: «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ»، أو من نوعين نحو: «أَوَمَنْ كَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَيْنَاهُ» [22]. ومثال ذلك في سورة المدثر قوله تعالى: «فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير»[ المدثر: 9-10]، فنجد المطابقة بين لفظتي: عسير ويسير. كما نلمس المطابقة في قوله تعالى: « وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا…ويزداد الذين آمنوا إيمانا…ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون… وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون…كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء»  [المدثر: 31]، وهنا تضاد بين الكفر والإيمان، وبين الضلالة والهدى.

وفي قوله تعالى« وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ » [المدثر: 33-34]، نجد المطابقة بين كلمتي الليل والصبح، وبين أدبر وأسفر، وتفسير هذه الآية وأقسم بالليل إذ يكون مدبرا، تظهر مع إدباره بدايات نور الفجر، وإدبار الليل وظهور الفجر إحدى آيات الله في كونه.[23]

وفي قوله تعالى: «لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ». [المدثر: 37]، فقد طابق بين يتقدم ويتأخر.

ومن المحسنات اللفظية في سورة المدثرالسجع المرصع قوله تعالى: «وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ». [المدثر: 45-47]،  ونجد أيضا السجع المرصع في قوله تعالى: «كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ»[المدثر: 32-35].أي إن اﻟﻤﺠرمين يتحدثون بالباطل مع أهل الغواية والضلالة، ويقعون معهم فيما لا ينبغي من الأباطيل، والخوض هو في الأصل المشي في الماء وتحريكه، وبهذا التحريك تختلط الرواسب الراكدة بالماء، فيذهب صفاؤه، وتسوء حاله. إن نزلاء سقر يوم الدين يعترفون بأنهم كانوا في الحياة الدنيا يخوضون مع الخائضين، فيخلطون الكذب والباطل في أقوالهم، ويخوضون في مخاضات المعاصي والآثام، ويشاركون أهل الشر والضر والضلال والفساد، كما أن تكذيبهم رسول ربهم بنبإ يوم الدين هو السبب الرئيس الذي جعلهم يقطعون الصلة بربهم فلا يصلون له، وهو السبب الذي جفف منابع الرحمة فجعلهم لا يطعمون المسكين، حتى أتاهم يقين الموت الذي انكشف لهم عنده يقين يوم الدين الذي كانوا يكذبون به.[24]

ومن الأساليب البلاغية التي وردت في السورة الجناس غير التام أو الجناس الناقص، وهو: أن تختلف الكلمتان في نوع الحرف أو شكله أو عدده أو ترتيبه[25]  ونجده في قوله تعالى: « فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ»[المدثر: 9-10] فالجناس الناقص بين لفظتي عسير ويسير، حيث اختلفت الكلمتان [عسير ويسير] في حرف العين والياء. فذلك اليوم الذي تبعث فيه الأحياء للمحاسبة وفصل القضاء والجزاء، يوم عسير على الكافرين، غير يسير، إذ فيه شدة وهول على الكافرين، وقوله تعالى غير يسير جاء تأكيدا لمعنى عسير وهذا الأسلوب من التأكيد هو من قبيل تأكيد الشيء بنفي نقيضه أو ضده، نظير قولهم: منحتك كذا عاجلا غير آجل، ومن: حي غير ميت، وموجود غير معدوم.[26]

ومن جناس الاشتقاق قوله تعالى:«فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ» المدثر:8. فالناقور: الصور، وهو بوق عظيم يشبه القرن المجوف، والنقر في الصور هو إطلاق الصوت منه، وهذا الإطلاق يكون بالنفخ، وهذه الأداة الربانية جاء تسميتها هنا الناقور وجاء تسميتها الصور في عشرة مواضع من القرآن الكريم، وجاء فيها بيان أن إطلاق الصوت منه يكون بالنفخ، فمنها قول الله عز وجل: « وَنُفِخَ في الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ»، والمراد بقوله: «فإذا نقر في الناقور، أي: فإذا نفخ في الصور فأطلق صوتا عظيما لبعث الأحياء وإعادة الأرواح إلى أجسادها يوم القيامة.[27].

ومثاله كذلك قوله تعالى: «ومهدت له تمهيدا» وقوله: «وكنا نخوض مع الخائضين»، وقوله: «فما تنفعهم شفاعة الشافعين»، وقوله: «فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله».

ومن الجناس التام قوله تعالى: «قَوْلُ البَشَرِ» وقوله عز وجل«لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ» فهي على تفسير الجمهور كما أشار إلى ذلك الألوسي في روح المعاني  تجنيس تام لفظي وخطي وقل من تذكر له.[28]

ومن المحسنات اللفظية التي وردت في السورة الكريمة لزوم مالا يلزم، «وهو أن يجيء قبل حرف الروي أو ما في معناه من الفاصلة ما ليس بلازم في السجع»، نحو: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ»[29]، وقد ورد في سورة المدثر قوله تعالى: «فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ » المدثر: 9-10، ففي هذه الآية الكريمة نلاحظ التزام حرفي السين والياء قبل حرف الفاصلة الراء.

ومن الأساليب أيضا تقديم المفعول به لإفادة الاختصاص وذلك في قوله تعالى:«وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ».[30]

وفي قوله تعالى:«فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ» إطناب بتكرار الجملة لزيادة التوبيخ. وقوله عز وجل: «وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ» الاستفهام للتهويل والتفخيم.[31]، ومنه كذلك قوله تعالى: «وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ» ذكر الخاص بعد العام وهو الخوض بالباطل مع الخائفين، لتعظيم هذا الذنب.[32] وهو من الأغراض التي يفيدها الإطناب.

ومن الأساليب البلاغية في سورة المدثر الإيجاز بحذف بعض الجمل، ورد في قوله تعالى:«يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ»، أي قائلين لهم: ما سلككم في سقر؟ لفهم المخاطبين. [33]

ومن الأساليب البلاغية الاستعارة التمثيلية في قوله تعالى: «سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا»، والصَّعود: العقبة الشديدة التَّصعد الشاقة على الماشي وهي فَعول مبالغة من صَعِد، فإن العقبة صَعْدة، فإذا كانت عقبة أشد تصعداً من العقبات المعتادة قيل لها: صَعُود، وكأنَّ أصل هذا الوصف أن العقبة وُصفت بأنها صاعدة على طريقة المجاز العقلي ثم جعل ذلك الوصف اسمَ جنس لها[34]، وتفسير ذلك إنما سأغشيه عقبة شاقة المصعد وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق، شبه ما يسوقه الله تعالى له من المصائب وأنواع المشاق بتكليف الصعود في الجبال الوعرة الشاقة وأطلق لفظه عليه على سبيل الاستعارة التمثيلية.[35]

ومن الأساليب الجميلة في سورة المدثر الترادف  وهو: أن تتماثل كلمتان أو أكثر في المعنى، وتدعيان مترادفتين وتكون الواحدة منهما مرادفة للأخرى، وأفضل معيار للترادف هو التبادل: فإذا حلت كلمة محل أخرى في جملة ما دون تغير في المعنى كانت الكلمتان مترادفتين، مثال: هذا  والدي= هذا أبي[36]، ومثاله في السورة قوله تعالى: «لَا تُبْقِي وَلَا تَذَر» [المدثر: 28]، أي: لا تترك لهم عظما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته، وكرر اللفظ تأكيدا. وقيل: لَا تُبْقي منهم شيئا ثم يعادون خلقا جديدا، فلا تذر أن تعاود إحراقهم هكذا أبدا، وقال مجاهد: لا تبقي من فيها حيا ولا تذره ميتا، تحرقهم كلما جددوا، وقال السدي: لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما.[37]

وجملة  «لا تُبقي» بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة و«ما أدراك ما سَقر»، فإن من أهوالها أنها تهلك كل من يصلاها، والجملة خبر ثان عن سقر، وحذف مفعول «تبقي»   لقصد العموم، أي لا تبقي منهم أحداً أو لا تبقي من أجزائهم شيئاً، وجملة «ولا تذر»  عطف على «لا تبقي»  فهي في معنى الحال، ومعنى «لا تذر»،  أي لا تترك من يلقَى فيها، أي لا تتركه غير مصلي بعذابها[38]، فلفظتي لا تبقي ولا تذر لهما نفس المعنى وهو الترك وهنا حصل الترادف وإنما صيغت اللفظتان للتوكيد. إذ يرون أن في الترادف نوعا من التوكيد للمعنى، ويكون إما بإيراد اللفظ المرادف، وإما بعطف المرادف. [39]

ومثال ذلك أيضا في قوله تعالى: «ثم عبس وبسر» فعبس، يعبس، عبسا، وعبوسا: قطب وجهه، وبسر، يبسر، بسرا، وبسورا: إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء، واسود وجهه منه، ويقال: وجه باسر، أي: منقبض أسود.[40]، ويطلق البسور على العبوس[41] فلفظتي عبس وبسر مترادفتان.

فكما جمعت سورة المدثربين ثناياها جوانب بلاغية بديعة حوت بين سطورها ذلك الجانب الفقهي، الذي دل على معان جمة ناسب موضوع السورة من خلال آياتها  التي ضمت في طياتها مجموعة من الأحكام.

فقه الحياة أو الأحكام:

أرشدت الآيات إلى ما يأتي:

1- كل نفس مرتهنة يوم القيامة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلّصها وإما أوبقها، إلا أهل اليمين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. قال الحسن البصري وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون، ليسوا بمرتهنين لأنهم أدّوا ما كان عليهم.

2- يكون أهل اليمين يوم القيامة في جنات (بساتين) يسألون عن المشركين: ما الذي أدخلكم في سقر؟ والمقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل.

فيذكر أهل النار أربعة أسباب هي: ترك الصلاة، وترك الصدقة، ومخالطة أهل الباطل في باطلهم، كإيذاء أهل الحق، وكل ما لا يعني المسلم، والتكذيب بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم، إلى أن أتانا الموت. [42]

3- وبخ الله تعالى أهل مكة وأمثالهم بسبب إعراضهم وتوليهم عما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من التذكرة والعظة بالقرآن الكريم. قال مقاتل: الإعراض عن القرآن من وجهين:

– أحدهما- الجحود والإنكار.

– والثاني- ترك العمل بما فيه.

4- شبه الله سبحانه المعرضين بتشبيه مهين مستقبح، وهو تشبيههم بالحمر الوحشية إذا نفرت وهربت من الأسد.

5- طلب المشركون (أبو جهل وجماعة من قريش) أن يعطوا كتبا مفتوحة لكل واحد منهم، مكتوب فيها: إني قد أرسلت إليكم محمدا. وقال ابن عباس: كانوا يقولون: إن كان محمد صادقا، فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار .[43]

6- لم يجب الله تعالى مطلبهم لتعنتهم ومما حكتهم وإنما زجرهم عن اقتراح الآيات، وأبان صفة القرآن والسبب الأصلي في عدم التذكرة، بقوله: «كَلَّا» أي: ليس يكون ذلك، ولا أعطيهم ما يتمنون لأنهم لا يخافون الآخرة اغترارا بالدنيا، وحقا إن القرآن تذكرة، فمن شاء اتعظ به ولكن ما يتعظون ولا يقدرون على الاتعاظ والتذكرة إلا بمشيئة الله ذلك لهم، والله الجدير بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه، فيؤمنوا ويطيعوا، والحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.[44]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] جواهر البيان في تناسب سور القرآن، أبي الفضل عبد الله محمد الصديق، ص: 162.

[2] الخواطر السوانح في أسرار الفواتح، ابن أبي الأصبع، تقديم وتحقيق الدكتور حنفي محمد شرف، ص:13.

[3] البلاغة فنونها وأفنانها، فضل حسن عباس، ص: 168.

[4] شرح المفصل للزمخشري، قدم له: الدكتور إميل بديع يعقوب، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة: الأولى، 1422 هـ – 2001 م، 5/48.

[5] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، 21/40.

[6] التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور،29/295.

[7] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين درويش، 8 /130-131.

[8] نفسه، 8/134.

[9] ديوان الأرَّجاني، ناصح الدين أحمد بن محمد، تقديم وضبط وشرح: قدري مايو، 2/263، دار الجيل- بيروت.

[10] نسبه الصفدي في أعيان العصر وأعوان النصر إلى القاضي الفاضل، 5/536، وانظر خزانة الأدب وغاية الأرب، ابن حجة الحموي، تح عصام شقيو، 2/37، وانظر نفحات الأزهار على نسمات الأسحار في مدح النبي المختار، عبد الغني النابلسي، ص: 251.

[11] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/135.

[12] ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ص: 13، ولفظة: تك، وردت في الديوان: كنتِ.

[13] ديوان عنترة، ص: 210، تحقيق ودراسة محمد سعيد مولوي.  ولفظة فشككت وردت في الديوان: كمَّشْتُ، ولفظة عن وردت في الديوان: على.

[14] ورد البيت في تهذيب اللغة للأزهري، 15/112، تحقيق: محمد عوض مرعب، دارل إحياء التراث العربي، بيروت، وقد نسبه إلى الشماخ، ولفظة: فلا نرى وردت في التهذيب: ولا ترى، ولفظة: المنضرا وردت في التهذيب: المنفرا.

[15] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/135.

[16] نفسه، 8/142.

[17] ديوان امرئ القيس، ص: 66، ولفظة: الديافي، وردت في الديوان: النَّبَاطِيُّ.

[18] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/142.

[19] التفسير المنير، وهبة بن مصطفى الزحيلي، 29/241. دار الفكر المعاصر- دمشق الطبعة: الثانية، 1418 هـ.

[20] إعراب القرآن  الكريم وبيانه، 8/142.

[21] البلاغة فنونها وأفنانها، ص: 328.

[22] التلخيص في علوم البلاغة، الخطيب القزويني، ضبطه وشرحه: عبد الرحمن البرقوقي، ص:348-349. دار الفكر العربي.

[23] معارج التفكر ودقائق التدبر، حبنكة الميداني، 1/124.

[24] نفسه، 1/134-135.

[25] البلاغة فنونها وأفنانها، ص: 351.

[26] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/94-95.

[27] نفسه، 1/93-94

[28] روح المعاني، الألوسي، تحقيق: علي عبد الباري عطية، 15/144، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الأولى: 1415هـ.

[29] التلخيص في علوم البلاغة، القزويني، ص: 407-408.

[30] التفسير المنير، الزحيلي، 29/219.

[31] نفسه، 29/223.

[32] نفسه، 29/241.

[33] نفسه، 29/241.

[34] التحرير والتنوير،  29/307.

[35] روح المعاني، الألوسي، 15/136.

[36] علم الدلالة،( علم المعنى) محمد علي الخولي، ص: 93.

[37] الجامع لأحكام القرآن، تفسير القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، 19/77 ، دار الكتب المصرية القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م.

[38] التحرير والتنوير، 29/312.

[39] الترادف في القرآن بالكريم بين النظرية والتطبيق، محمد نور الدين المنجد، ص: 120.

[40] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/124.

[41] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/108.

[42] التفسير المنير، 29/246.

[43] نفسه، 247.

[44] نفسه، 248.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق