مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «الفاصلة القرآنية: سورة المُدثر أنموذجا» «الحلقة 3»

 

مقدمة:

الحمد لله الذي أنزل على عبده كتابا محكما، غير ذي عوج، وفصله تفصيلا.

هو القرآنُ كتابُ الله تعالى المنطوقُ بلسان عربي مبين وإعجازه لا يضاهيه كتاب آخر، ومن يحاول الغوصَ فيه يجد من الدرر واللآلئ النفيسَة الشيء الكثير بل يجده كله دررا نفيسةً، فهو الكتاب المعجز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كلام الله تعالى الذي صيغ في  بناء ونسج محكم، وفُصلت آياته، فليس فيه لفظ ولا تركيب إلا وقد ورَدَ في مقامه المناسب وسياقه الملائم؛ وأُخرجَ في صورة فنية تذهل القارئ وتجعله يدرك إعجاز كلماته بل وحتى حروفه، والقرآن الكريم مختلف عن جميع أنواع الكلام، وآياته تنتهي بفواصل تعطي القراءةَ جمالا وتحمل في طياتها معاني عظيمةً.

والفاصلة القرآنية مصطلح خاص بالقرآن الكريم، وقد اهتم العلماء منذ القديم بدراسة الفاصلة القرآنية في كتب علوم القرآن وكتب الإعجاز، ومن أبرز خصائص النظم القرآني التزام الفاصلة في جميع آياته التزاما شبه مطرد، بل إن دور الفاصلة في النظم القرآني يفوق دور القافية في الشعر. وقبل معرفة فواصل سورة المدثر نستعرض ماهية الفاصلة القرآنية، فما هي إذن الفاصلة القرآنية؟

مفهوم الفاصلة القرآنية:

     لغــة:

جاء في لسان العرب: الفَصْل بَوْنُ مَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. والفَصْل مِنَ الجَسَدِ: مَوْضِعُ المَفْصِل، وَبَيْنَ كُلِّ فَصْلَيْن وَصْل؛ وأَنشد:

وَصْلًا وفَصْلًا وتَجْميعاً ومُفْتَرقاً، /// فَتْقاً ورَتْقاً وتأْلِيفاً لإِنسان

قال ابْنُ سِيدَه: الفَصْل الحاجِز بَيْنَ الشيئين، فَصَلَ بَينهما يَفْصِل فَصْلًا فانْفَصَلَ، وفَصَلْت الشَّيْءَ فانْفَصَلَ أَي قَطعتُهُ فَانْقَطعَ.[1]

وجاء في تاج العروس: هو القَطعُ، وإبانَةُ أَحَدِ الشيئين عن الآخَر، وقال الحَرالِّي: هو اقتطاعُ بعضٍ من كُلٍّ. فَصلَ بينهما يفصلُ، بالكسرِ، فَصلاً. والفاصِلَةُ: الخرَزَةُ التي تفصِلُ بينَ الخرَزَتينِ في النِّظامِ، وقد فصَلَ النَّظْمَ، ظاهرُه أَنَّه من حَدِّ نَصَرَ، والصحيح وقد فصَّلَ بالتَّشديدِ، فإنَّ الجوهري قال بعدَه: وعِقدٌ مُفَصَّلٌ، أَي جُعلَ بينَ كُل لؤلُؤَتينِ خرزَةٌ، وفي التَّهذيبِ: فَصَّلْتُ الوِشاحَ: إذا كانَ نَظمُه مُفَصَّلاً، بأَن يُجعلَ بينَ كلِّ لؤلؤَتَيْنِ مَرجانَةٌ أَو شذَرَةٌ من لونٍ واحِدٍ. [2] وأواخرُ آياتِ التنزيلِ العزيزِ فواصِلُ، بمنزلة قوافي الشِّعرِ، جَل كتابُ الله عزَّ وجَلَّ، واحِدَتها فاصِلَةٌ. وَقوله عز وَجل: «بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ»، لَه معنيان: أَحدهما تَفْصِيل آياتِه بالفواصِل، وَالمعنى الثاني فِي فَصَّلناه بيَّنَّاه. وَقوله عز وجل: «آياتٍ مُفَصَّلاتٍ»، بين كل آيتين فصل تمضي هذه وتأتي هذه، بين كل آيتين مُهْلةٌ، وَقِيلَ: مفصَّلات مبيَّنات، وَسُمِّيَ المُفَصَّل مفَصَّلًا لقِصَر أَعداد سُوَرِه مِنَ الآيِ. وفُصَيْلة: اسم[3].

اصطلاحا:

وفي الاصطلاح وردت للفاصلة القرآنية عدةُ تعريفات نقتصر على بعض منها «قيل هي آخر كلمة الآية كقافية الشعر، وقرينة السجع»[4]، وعرفها الرمّاني بأنها «حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني، والفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، وذلك أن الفواصلَ تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها»[5]، ثم الفواصل قد تقع على حروف متجانسة، كما قد تقع على حروف متقاربة[6].

ومن المحدثين يقول الدكتور فضل حسن عباس: «يقصد بالفاصلة القرآنية ذلك اللفظ الذي ختمت به الآية، فكما سموا ما ختم به بيت الشعر قافية، أطلقوا على ما ختمت به الآية الكريمة فاصلة»[7].

ولن نخوض في الخلاف الحاصل فكل يراها من منظوره الخاص لأنني عندما اطلعت على جل التعاريف وجدتها تصب في مصب واحد وهو أن الفاصلة هي اللفظ الذي ختمت به الآية الكريمة.

تســميتها:

 ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تحمل في ثناياها إشارة إلى هذه التسمية ومنها قوله تعالى: «قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُون». [الأنعام: 98]، وقوله عز وجل: «آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ». [الأعراف: ]133.فهذه الآيات وغيرها من كتاب الله تحمل على معنيين: أحدهُما: تفصلُ آياتِه بالفواصل، وَالمعْنَى الثاني: فصَّلناه: بيّنّاه، بَين كل آيَتَيْنِ مُهْلَهْ. وَقيل: مُفَصَّلات مبَيَّنات.[8]

وقد أخذ العلماء هذه التسمية لتكون عَلَما على أواخر الآيات تنزيها للقرآن عن مصطلحات الفنون الأخرى، نقل السيوطي عن الجاحظ قولَه: «سمى اللَّه كتابه اسما مخالفا لِمَا سَمَّى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل، سَمَّى جملته قرآنا كما سَمَّوْا ديوانًا وبعضه سُورَة كقصيدةٍ وَبعضها آيَة كالبيت وَآخرها فاصلة كقافية».[9]

وتقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام بها وهي الطريقة التي يباين القرآنُ بها سائرَ الكلام وتسمى فواصلَ لأنه ينفصل عندها الكلامان وذلك أن آخر الآية قد فصل بينها وبين ما بعدها ولم يسموها أسجاعا، فأما مناسبة الفواصل فلقوله تعالى: «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ». [فصلت:3] [10].

إن جمالية الفاصلة لا تتحقق إلا بالوقوف عليها، فالوقف على الفواصل يعطيها ذاك الجرس الصوتي الذي يأخذ بالألباب، وفي هذه المقام روى ابن الجزري عن ابن عمر قوله: «قدْ عشنا بُرهةً مِنْ دَهرِنَا، وَإِنَّ أَحدَنا ليُؤْتى الإيمان قبل القرآن وتنزِلُ السّورةُ على النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيَتَعَلَّمُ حَلالَها وَحرَامَها وَأَمْرَها وَزَاجِرَهَا وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقفَ عِنْدهُ مِنْها»[11]، وأيضا يقول الزركشي: «إن مبنى الفواصل على الوقف ولهذا شاع مقابلة المرفوع بالمجرور وبالعكس، وكذا المفتوح والمنصوب غير المنون ومنه قوله تعالى «إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ» مع تقدم قوله «عَذَابٍ وَاصِبٍ» و «شِهَابٍ ثَاقِبٍ» وكذا «بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ» و «قد قدر» وَكَذَا «وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ» مع «ويُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ»»[12].

أقسام الفواصل في القرآن الكريم:

والفواصل على وجهين: أحدهما على الحروف المتجانسة والآخر على الحروف المتقاربة؛ فالحروف المتجانسة كقوله تعالى: «طَهَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى إلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى». [طه: 1-2]. وكقوله: «وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ» [الطور: 1]، وأما الحروف المتقاربة فكالميم مع النون كقوله تعالى: «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»[الفاتحة: 2-3]، وكالدال مع الباء نحو: «ق وَالقُرْآنِ المَجِيدِ»[ق: 1] ثم قال: «هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ»[ق:2] وإنما حسن في الفواصل الحروف المتقاربة، لأنه يكتنف الكلام من البيان ما يدل على المراد في تمييز الفواصل والمقاطع لما فيه من البلاغة وحسن العبارة[13].

وقد قسم البلاغيون الفواصل إلى مُتوازٍ ومُطَرَّف ومُتوازِن:

وأشرفها المتوازي وهوأن تتفق الكلمتان في الوزن وحروف السجع كقوله تعالى: «فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ».[الغاشية: 13- 14] [14].

والمطرف أن يتفقا في حروف السجع  لا في الوزن كقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام يخاطب قومه: «مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا». [نوح: 13-14].

والمتوازن  أن يراعى في مقاطع الكلام الوزن فقط، كقوله تعالى في نعيم أهل الجنة: «ونَمَارِقُ مَصْفُوفَةٍ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٍ».[الغاشية: 15-16][15].

ويضيف الزركشي: وأحسن الفواصل ما تساوت قرائته ليكون شبيها بالشعر، فإن أبياته متساوية، كقوله تعالى في نعيم أصحاب اليمين: «في سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلِّ مَمْدُودٍ». [الواقعة: 30-31-32].

والفاصلة إما أن تكون قصيرة  كقوله تعالى:  «وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا». [المرسلات: 1-2]، أو طويلة كقوله تعالى في غزوة بدر: «إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ». [الأنفال: 45]، أو متوسطة كقوله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ». [القمر: 1-2][16].

القيمة البلاغية للفاصلة القرآنية ووظيفتها في السياق:

للفاصلة في نظم القرآن قيمةٌ هامة تفوق قيمةَ القافية في الشعر، بل لعلها أهم عنصر في قواعد التشكل الإيقاعي لهذا الكتاب المعجز، وقد التفت الرافعي إلى فواصل القرآن الكريم، فأكد قيمتها في جمال النظم الموسيقي بقوله: «وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صوَر تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقاً عجيباً يلائم نوع الصوت والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها؛ أو بالمد، وهو كذلك طبيعي في القرآن، فإن لم تنته بواحدة من هذه، كأن انتهت بسكون حرف من الحروف الأخرى، كان ذلك متابعة لصوت الجملة وتقطيع كلماتها، ومناسبة للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه، وعلى أن ذلك لا يكون أكثر ما أنت واجده إلا في الجمل القصار، ولا يكون إلا بحرف قوي يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما مما هو ضروب أخرى من النظم الموسيقي.

وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها طبيعي في كل نفس، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الذي يخاطب به كل نفس تفهمه، وكل نفس لا تفهمه، ثم لا يجد من النفوس على أي حال إلا الإقرار والاستجابة؛ ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضرباً من الكلام البليغ الذي يُطمَع فيه أو في أكثره، ولما وجد فيه أثر يتعدى أهل هذه اللغة العربية إلى أهل اللغات الأخرى، ولكنه انفرد بهذا الوجه للعجز، فتألقت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره أو أقحِم معه حرف آخر، لكان ذلك خللاً بيناً، أو ضعفاً ظاهراً في نسق الوزن وجرس النغمة، وفي حِسِّ السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرَج وتَسانُد الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت هُجنة في السمع، كالذي تنكره من كل مَرئي لم تقع أجزاؤه على ترتيبها، ولم تنفق على طبقاتها، وخرج بعضُها طولاً وبعضُها عرضاً، وذهب ما بقي منها إلى جهات متناكرة».[17]

وقد وقف عندها دارسو الإعجاز، فتجادلوا حول تسميتها سجعا، وتحدثوا عن مباينتها لقافية الشعر، واختلفوا في قيمتها، والحق أن قيمة الفاصلة في بلاغة النظم القرآني وحلاوة إيقاعه حقيقة لا تقبل المراء، وما كان للقرآن أن يحافظ عليها ويختارها بعناية، فيأتي بها متمكنة في موضعها مستقرة في نسقها، لو لم يكن لها شأن كبير في بلاغته وتحقيق أهدافه.

ولا شك أن للكلمة أو الجملة أو المقطع الي تختم به الآية قيمة خاصة، لأنه عنصر يؤدي وظيفة مزدوجة في نظم الآية؛ فهو من ناحية يتصل بالمعنى وينمقه، ومن ناحية أخرى يتصل بنظام الفواصل وينسقها، ولهذا كان حظه من العناية أكبر. يقول ابن جني: «ألا ترى أن العناية في الشعر إنما هي بالقوافي لأنها المقاطع وفي السجع كمثل ذلك. نعم وآخر السجعة والقافية أشرف عندهم من أولها والعناية بها أمس والحشد عليها أوفى وأهم، وكذلك كلما تطرف الحرف في القافية ازدادوا عناية به ومحافظة على حكمه».[18] .

ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن الفاصلة القرآنية لها أهمية يحددها السياق الصوتي، من خلال وظيفتين: الأولى: معنوية: بما لها من دور أساس ي في تأدية المعنى المقصود بالنص، وهذا يتحقق من خلال دلالتها اللغوية بالنظر إلى كونها كلمة ذات مدلول لغويِ، حصلت بها الفاصلة، ومن جهة إيقاعها وما يؤديه من إيحاءات دلالية، وتأثيرات نفسية، فهي إيقاعات ذات أفكار زائدة على أصل الدلالة اللغوية. والثانية: فنية: وهي تحسين الكلام، وجمال النغم، والمساعدة على تجويد القرآن مرتلا بأنغامٍ آسرةِ، وإيقاعٍ جميلٍِ، مع ما فيه من راحةٍ للنفس عند التلاوة. وليس النغم والإيقاع هو المقصود بالذات، لكان مثاله مثال القوافي والأسجاع وإلا، وإنما تأتي الإيقاعات تبعا للمعاني المؤداة بها، وهما لا ينفك بعضُهما عن بعض، فذلك مما تقتضيه بلاغة الإعجاز.[19].

وعن جمال الفاصلة القرآنية يقول الشيخ محمد بن عبد الله دراز «دع القارئ المجودَ يقرأ القرآنَ يرتلُه حق ترتيله نازلًا بنفسه على هوى القرآن، وليس نازلًا بالقرآن على هوى نفسه، ثم انتبذ منه مكانًا قصيًّا لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومداتها وغناتها، واتصالاتها وسكتاتها، ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية، وقد جردت تجريدًا وأرسلت ساذجة في الهواء، فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر لو جرد هذا التجريد، وجود هذا التجويد.

ستجد اتساقًا وائتلافًا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر، على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر، وستجد شيئًا آخرَ لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر. ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتًا بيتًا، وشطرًا شطرًا، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب مذهبًا متقاربًا. فلا يلبث سمعك أن يمجها، وطبعك أن يملها، إذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد. بينما أنت من القرآن أبدًا في لحن متنوع متجدد، تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل على أوضاع مختلفة، يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه على كثرة ترداده ملالة ولا سأم، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.

هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب».[20]

ومن  جهة فإن قيمة الفاصلة تتجلى أكثر ما تتجلى في حروف المد واللين، وقد أشار إلى ذلك ابن جني عندما قال: «ولذلك استعملن يعني [المدات] في الأرداف والوصول والتأسيس والخروج، وفيهن يجري الصوت للغناء والحداء والترنم والتطويح».[21] .

ثمة إذن قيمة موسيقية لحروف المد واللين التي كثر وقوعها في فواصل القرآن الكريم، إذ تهيء للوقوف والسكوت وتمكن من الترنم والتطويح ومد الصوت كما ذكر ابن جني، وفي هذا ما يجعلها تحدث تأثيرا نفسيا شبيها بالتأثير الذي يحدثه اللحن الموسيقي.

وفي هذا المقام أيضا يذكر عز الدين علي السيد: «والمدود في الفواصل وهي نهاية الدفقات الصوتية للجمل عند الوقف، نجد لها في القرآن الكريم من الحلاوة والإطراب حظا يثير الحكم بأن لها دخلا كبيرا في الإعجاز، وهي إما مدود مطلقة يوقف عليها بصوتها، وإما ملحقة بحرف صائت تسبقه، وقد تتكرر في كلمة الفاصلة فيضاعف التكرير قيمتها بما لا يخفي جماله وأسرار إيقاعه» [22] .فهذه الحروف تؤدي وظيفة إيقاعية وتؤدي كذلك وظيفة معنوية بلاغية، ولتبيان ذلك نعرض مثالين الأول من سورة نوح والثاني من سورة المدثر، يقول تعالى: «قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِيَ إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّيَّ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمُ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمُ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا»[نوح: 5-10]

فالفاصلة التي تنتهي بها هذه الآيات تتألف من مقطع يتكون من صوت متحرك هو الراء، ومن صوتين ممدودين هما الألف التي قبل الراء، والألف التي بعدها، ولهذين المدين وظيفة إيقاعية ووظيفة دلالية؛ أما الأولى فيؤديانها بالسماح للصوت بالارتفاع والامتداد في نهاية كل آية بمقدار متناسب. وأما الثانية فيؤديانها بالإسهام في الإيحاء بصورة الجهد الضخم، والزمن الطويل الذي أمضاه نوح في دعوة قومه.

المثال الثاني قال متوعدا الوليد بن المغيرة، أحد كفار العرب في عصر النبوة، يقول تعالى: « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا» [المدثر: 11-14]. تنتهي هذه الآيات القصيرة بفاصلة مؤلفة من مقطع مركب من صوت متحرك هو الدال، ومن صوتين ممدودين هما الياء والألف، أو الواو والألف. وجاءت الفاصلة المشتملة على صوتين ممدودين لتسهم بإيقاعها في الإيحاء بصورة النعمة السابغة والكرم الغامر، لأن امتداد الصوت مرتين في نهايات هذه الآيات القصيرة يسمح للإيقاع الممدود بالوضوح التام في الإسماع، فيوحي إليها بصورة الامتداد والاتساع، وهي صورة المعنى المقصود.[23]. هكذا يتضح كيف تؤدي حروف اللين التي تكثر في فواصل القرآن وظائفها الإيقاعية والمعنوية، فتسهم في بلاغة الآيات وحلاوة الإيقاع.

    من هنا يتبين أن لكلمات القرآن إيقاعا تمضي وفق نسقه، وهذا الإيقاع «ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، ومرده إلى الحس الداخلي، والإدراك الموسيقي، الذي يفرق بين إيقاع موسيقى وإيقاع ولو اتحدت الفواصل والأوزان» [24 ].

فالفاصلة القرآنية انفرد بها القرآن الكريم  وهي من أبرز الخصائص التي جعلته نحوا جديدا من أنحاء البيان، وطريقافريدا من طرق التعبير، ومن هنا تظهر آيات سورة المدثر ذلك الطابع المتفرد الذي تجسده الفواصل، وسنتحدث عنها الفواصل في سورة المدثر في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] لسان العرب، 11/521، دار صادر بيروت، الطبعة: الثالثة – 1414 هـ.

[2] تاج العروس من جواهر القاموس، 30/163، تحقيق مجموعة من المحققين، دار الهداية.

[3] لسان العرب، 11/524.

[4] البرهان في علوم القرآن، الزركشي، 1/53، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة: الأولى، 1376 هـ – 1957م، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه.

[5] النكت في إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ص:97، تحقيق: محمد خلف الله، د. محمد زغلول سلام، دار المعارف بمصر، الطبعة: الثالثة، 1976م.

[6] إعجاز القرآن للباقلاني، ص: 271، تحقيق : السيد أحمد صقر، دار المعارف القاهرة.

 [7] إعجاز القرآن الكريم، فضل حسن عباس، دة: سناء فضل عباس، ص: 217، دار النفائس للنشر والتوزيع، الطبعة الثامنة: 1436هـ/2015م.

[8] تهذيب اللغة، الأزهري، 12/136، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث، العربي بيروت، الطبعة: الأولى، 2001م

[9] الإتقان في علوم القرآن: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، 1/178، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم،الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة: 1394هـ/ 1974 م.

[10] البرهان في علوم القرآن، الزركشي، 1/54.

[11] النشر في القراءات العشر، شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف ، 1/225، تحقيق : علي محمد الضباع ، المطبعة التجارية الكبرى [تصوير دار الكتاب العلمية].

[12] البرهان في علوم القرآن، الزركشي، 1/69-70.

[13] النكت في إعجاز القرآن، الرماني، ص: 98.

[14] البرهان في علوم القرآن الزركشي، 1/75.

[15] نفسه، 1/76.

[16] نفسه، 1/77-78.

[17] إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرافعي، ص: 150، دار الكتاب العربي بيروت، الطبعة الثامنة – 1425 هـ – 2005م.

[18] الخصائص، ابن جني، 1/85، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

[19] مجلة الآداب، مجلة علمية فصلية محكمة تعنى بالدراسات والبحوث الإنسانية، العدد الرابع عشر، مارس 2020، ص: 139-140.

[20] النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم، محمد بن عبد الله دراز، ص:133-134، اعتنى به : أحمد مصطفى فضلية، قدم له : أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعني، دار القلم للنشر والتوزيع، طبعة مزيدة ومحققة 1426هـ- 2005م.

[21] الخصائص، 2/235.

[22] التكرير بين المثير والتأثير، عز الدين علي السيد، ص:65، عالم الكتب، الطبعة الأولى: 1398هـ/1978م، الطبعة الثانية: 1407هـ/1986م.

[23] التناسب البياني في القرآن، دراسة في النظم المعنوي والصوتي، أحمد أبو زيد، ص: 354-355، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.

[24 ] التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، ص: 104، دار الشروق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق