مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «نظرات في سورة القلم» «الحلقة الثانية عشرة»

بمناسبة الإشارة إلى المال والبنين، والبطر الذي يبطره المكذبون، يضرب الله لهم مثلا بقصة يبدو أنها كانت معروفة عندهم، شائعة بينهم، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين، ويشعرهم أن ما بين أيديهم من نعم المال و البنين، إنما هو ابتلاء لهم كما ابتلي أصحاب هذه القصة، وأن له ما بعده، وأنهم غير متروكين لما هم فيه[1]، وفي الدرس الثالث سنخصصه للحديث عن هذه القصة؛  قصة أصحاب الجنة التي وردت في سورة القلم.

قصة أصحاب الجنة:

ولما ذكر في أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال، وختم هنا بعيب من يغتر بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه، أعاد ذكر الابتلاء وأكده لأن أعمالهم مع العلم بأنه عرض زائل أعمال من ظن الملك الثابت والتصرف التام [2]، فقال: «إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ  أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ  وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ  قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».[القلم: 17- 33] ففي هذه الآيات عرض لقصة أصحاب الجنة؛ وتعد القصة القرآنية أحد وسائل التعبير في القرآن الكريم، وهي في نظر سيد قطب: ليست عملا فنيا مستقلا في موضوعه وطريقة عرضه وإدارة حوادثه، كما هو الشأن في القصة الفنية الحرة، التي ترمي إلى أداء غرض فني طليق، إنما هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى أغراضه الدينية[3]، وجاء في العبارة استعمال ضمير المتكلم العظيم «إنَّا» للإشعار بعزة الله وقدرته وحكمته وعظمته، فهو بمقتضاها يبلو ويجزي، فتربو المهابة منه[4]، والتوكيد الذي صُدِّرت به القصة يهدف إلى زيادة تقرير المعنى، ذلك أن النعم والخيرات التي ينعم بها هؤلاء ما هي إلا ابتلاء وامتحان من الله، وحقيقة هذا الاختبار أن الله ما أعطاهم الأموال والبنين إلا ليشكروا، لا ليبطروا ويكذبوا، وأداة التشبيه صرح بها في قوله تعالى: «كما بلونا»، فجاء المشبه وهو حال كفار قريش وما أمدهم الله به من نعم كثيرة، والمشبه به هو حال أصحاب الجنة بما أمدهم الله به من نعمة المال كلفوا بشكرها، فلما جحدوا النعمة وحرموا المساكين حرمهم الله الثمار كلها، ووجه الشبه هو الإعراض عن طلب مرضاة الله وعن شكر نعمته[5]، فالتشبيه هنا تمثيلي حيث شبهت به حال المشركين في طغيانهم بعد إنعام الله عليهم بحال أصحاب الجنة في عدم شكرهم النعمة وإعطاء المساكين حقهم، والغرض من التشبيه التمثيلي  التعريض بالتهديد بأن يلحقهم ما لحق أصحاب الجنة من البؤس بعد النعيم والقحط بعد الخصب، وإن اختلف السبب في نوعه فقد اتحد جنسه، وقد حصل ذلك بعد سنين إذْ أخذهم الله بسبع سنين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة[6]، ولتشبيه التمثيل تأثيره الشديد في النفوس، وفي هذا المنحى يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني: «واعلم أنّ مما اتفق العقلاء عليه، أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أُبَّهةً، وكَسَبها مَنْقَبةً، ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النُّفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلَفا، وقَسَر الطِّباع على أن تُعطيها محبّة وشَغَفاً، فإن كان مدحاً، كان أبْهَى وأفخم، وأنبلَ في النفوسَ وأعظم، وأهزَّ للعِطْف، وأسْرع للإلف، وأجلب للفَرح، وأغلب على المُمْتَدَح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرِّ المواهب المنائح، وأسْيَر على الألسن وأذكرَ، وأولى بأن تَعْلَقه القلوب وأجدر، وإن كان ذمّاً، كان مسُّهُ أوجعَ، ومِيسَمُه ألذع، ووقعُه أشده، وَحدُّه أحَدّ، وإن كان حِجاباً، كان بُرهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبَيَانه أبْهر، وإن كان افتخاراً، كان شَأْوُه أمدّ، وشَرَفه أجَدّ، ولسانه أَلَدّ، وإن كان اعتذاراً، كان إلى القَبُول أقرب، وللقلوب أخْلَب، وللسَّخائم أسلّ، ولغَرْب الغَضَبْ أفلَّ، وفي عُقَد العُقود أَنْفَث، وعلى حُسن الرجوع أَبْعث، وإن كان وعظاً، كان أشْفَى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزَّجر، وأجدر بأن يُجلِّيَ الغَيَاية، ويُبصِّر الغاية، ويُبرئ العليل، ويَشْفِي الغليل، وهكذا الحُكْم إذا استقريتَ فنُونَ القول وضروبَهُ، وتتبّعت أبوابَهُ وشُعوبه، وإن أردت أن تعرف ذلك وإن كان تِقِلّ الحاجة فيه إلى التعريف، ويُستغنَى في الوقوف عليه عن التوقيف، فانظر إلى نحو قول البحتري:[7]

دانٍ على أيدي العُفاةِ، وشَاسِعٌ /// عَنْ كُلِّ نِدٍّ في النَّدَى وَضَرِيبِ

كَالبَدْرِ أَفْرَطَ فِي العُلُوِّ وَضَوْءُهُ /// لِلْعُصْبة السَّارينَ جِدُّ قَريبِ

وفكِّر في حالك وحالِ المعنى معك، وأنت في البيت الأول لم تَنْتَهِ إلى الثاني ولم تتدبّر نُصرته إيّاه، وتمثيله له فيما يُملي على الإنسان عيناه، ويؤَدِّي إليه ناظراه، ثم قِسْهُما على الحال وقد وقفتَ عليه، وتأمّلتَ طَرَفَيْه، فإنك تعلم بُعْد ما بين حالتيك، وشدَّة تَفَاوتهما في تمكُّن المعنى لديك، وتحبُّبِه إليك، ونُبْلِه في نفسك، وتوفيرِه لأُنْسِك، وتحكُم لي بالصدق فيما قلت، والحقِّ فيما ادَّعيتُ وكذلك فتعهَّدِ الفرقَ بين أن تقول: فلان يكُدُّ نفسه في قراءَة الكتب ولا يفهم منها شيئاً وتسكت، وبين أن تتلوا الآية» [8]. والتعبير بالإضافة في أصحاب الجنة تشير إلى جنة معهودة يعرفها مؤرخو أهل الكتاب، أو الجنة الكاملة في إعداد ما يلزم لها، فالتعريف للكمال[9]، كما أن التعبير بالقسم في قوله: «إذ أقسموا» أبلغ من الحلف؛ لأن معنى قولنا أقسم باللَّه أَنه صار ذَا قسم باللَّه، والقسم النصيب، والمراد أن الذي أقسم عليه من المال وغيره قد أحرزه ودفع عنه الخصم باللَّه والحلف من قولك سيف حَلِيف أَي قَاطع مَاض، فَإِذا قلت حلف بِاللَّه فكأنك قلت قطع المُخَاصمَة بِاللَّه فالأول أبلغ لأنه يتضمن معنى الآخر مع دفع الخصم ففيه معنيان، وقولنا حلف يفيد معنى واحِد الآخر مع دفع الخصم ففيه معنيان، وقولنا حلف يفيد معنى واحدا وهو قطع المخاصمة فَقَط، وذلك أَنَّ من أحرز الشي باستحقاق في الظاهر فلا خصومة بينه وبين أحد فيه، وليس كل من دفع الخصومة في الشيء فقد أحرزه، واليمين اسم للقسم مستعار وذلك أنهم كانوا إذا تقاسموا على شيء تصافقوا بأيمانهم ثم كَثُر ذلك حتى سمي القسم يمينا[10]، فقد أقسموا ليصرمن ثمرات جنتهم لأنفسهم فقط، وأقسموا لا يستثنون من ثمرات جنتهم شيئا للفقراء والمساكين[11]، ودل على تأكيد القسم فقال: «لَيَصْرِمُنَّهَا» عبر به عن الجذاذ بدلالته على القطع البائن المعزوم عليه المستأصل المانع للفقراء ليكون قطعاً من كل وجه[12]، وهذا التفات أكد على شناعة ما أقسموا عليه، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم [13]. وفي تخير لفظة يصرمنها دون غيرها من الكلمات فائدة بلاغية ذلك أن الصَّرم يدل على معنى الجمع، يقال شجر صريم مَا جُمع ثمره وَأَرْض صَريم، والمكدس من الثِّمَار والقطعة من اللّيل أَو النّهار، والقطعة المنعزلة من مُعظم الرمل[14]، ويتضح من هذا الجانب وجه من وجوه الإعجاز البلاغي للفظ القرآني المفرد في هذه القصة، فهو متميز عن غيره من ألفاظ البلغاء، أن المعنى الواحد قد يُخْبَر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جُزْأَي الجملة قد يُعَبَّر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، ولا بد من استحضار معاني الجمل أو استحضار جميع ما يُلائمها من الألفاظ، ثم استعمال أنْسَبِهَا وأَفْصَحِها واستحضار هذا مُتَعَذِّر على البشر في أكثر الأحوال وذلك عَتِيد حاصل في علم اللَّه تعالى، فلذلك كان القرآن أحسنَ الحديثِ وأفْصَحَهُ وإن كان مشتمِلا على الفصيحِ والأَفْصحِ والمَليحِ والأَمْلَحِ[15]، وأصل الاستثناء إخراج شيء أو حصة أو مقدار ما من جملة مقدار عام يشمل المستثنى والباقي بعد الاستثناء، ففعل الاستثناء معطوف على فعل ليصرمنها فهو داخل في المقسم عليه أي: أقسموا على أمرين: ليصرمنها لأنفسهم، ولا يستثنون شيئا للفقراء والمساكين[16]، وهو صورة من خروج الكلام على مقتضى الظاهر؛ فمقتضى الظاهر وما استثنوا وكأنه إنما عدل عنه إليه استحضار للصورة لما فيها من نوع غرابة لأن اللائق في الحلف على ما يلزم منه ترك طاعة الاستثناء، وفي الكشف هو حال أي غير مستثنين وفي العدول إلى المضارع نوع تعبير وتنبيه على مكان خطئهم[17]، وعلى هذا التفسير يكون قوله : «ولا يستثنون» من قبيل الإِدماج، أي لِمبلغ غرورهم بقوة أنفسهم صاروا إذا عزموا على فعل شيء لا يتوقعون له عائقاً، والجملة في موضع الحال، والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالتهم العجيبة من بُخلِهم على الفقراء والأيتام [18]. وتظهر الاستعارة التمثيلية في قوله تعالى: «فطاف عليها طائف من ربك»؛ أي فدار عليها محيطا بها، ومطوقا لها، دون جاراتها من الجنات والبساتين والمزارع، يقال لغة: طاف عليه يطوف، إذا دار وحام حوله، يخصه بهذا الدوران[19]، وأطراف التشبيه الذي وجد في الاستعارة التمثيلية يكمن في المشبه المحذوف وهو صورة البلاء المحيط بالبستان، والمشبه به هو صورة من يطوف بالمكان، ووجه الشبه الإحاطة بالشيء ومجيئه من جميع نواحيه، وعن دقة الاستعارة التمثيلية يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني: «ومن الفضيلة الجامعة فيها أنها تُبرز هذا البيان أبداً في صورة مُستجَدَّةٍ تزيد قَدرَه نُبْلاً، وتوجب له بعد الفضلِ فضلاً، وإنَّكَ لَتجِدُ اللفظة الواحدة قد اكتسبتَ بها فوائد حتى تراها مكرّرة في مواضعَ، ولها في كل واحد من تلك المواضع شأنٌ مفردٌ، وشرفٌ منفردٌ، وفضيلةٌ مرموقة، وخِلاَبةٌ موموقة، ومن خصائصها التي تُذكرَ بها، وهي عنوان مناقبها، أنَّها تُعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تُخرجَ من الصدَفة الواحدة عِدّةً من الدُّرَر، وتَجْنِيَ من الغُصْن الواحد أنواعاً من الثَّمر»[20]، وقوله: «وهم نائمون» تقييد لوقت الطائف على التفسير الأول، وهو تأكيد لمعنى «طائف» على تفسير الفراء، وفائدته تصوير الحالة، وتنوين «طائف» للتعظيم، أي أمر عظيم وقد بينه بقوله: «فأصبحت كالصريم» فهو طائف سوء، قيل : أصابها عنق من نار فاحترقت، و«من ربّك»؛  أي جائياً من قِبَل ربّك، فـــ«مِن»  للابتداء يعني: أنه عذاب أرسل إليهم عقاباً لهم على عدم شكر النعمة، وعُجل العقاب لهم قبل التلبس بمنع الصدقة لأن عزمهم على المنع وتقاسمهم عليه حقق أنهم مانعون صدقاتهم فكانوا مانعين، ويؤخذ من الآية موعظة للذين لا يواسون بأموالهم، وإذْ كان عقاب أصحاب هذه الجنة دنيوياً لم يكن في الآية ما يدل على أن أصحاب الجنة منعوا صدقة واجبة. والصَّريم قيل: هو الليل، والصريم من أسماء الليل ومن أسماء النهار لأن كل واحد منهما ينصرم عن الآخر كما سمي كل من الليل والنهار مَلْواً فيقال: المَلوَانِ، وعلى هذا ففي الجمع بين «أصبحتْ» و « الصريم» محسن الطباق وهو طباق خفي[21]،  وقد خص ابن رشيق هذا النوع من الطباق في درجة عالية، فقال عنه «وهذا من أملح الطباق وأخفاه»[22]. وإيثار كلمة الصريم هنا لكثرة معانيها وصلاحية جميع تلك المعاني لأن تراد في الآية، وبين «يصرِمُنَّها» و «الصَّريم» الجناس.[23]

ومما يميز الحوار في القصة القرآنية أنه يجعل المشهد كله حاضرا مشخصا يملأ الأسماع والأبصار، بكل خلجة أو خاطرة وقعت فيه[24]، وقد جاء الحوار في قصة أصحاب الجنة متنوع الأساليب البلاغية، ساهم في تَدرُّج الأحداث وكَشَف عن سِمات الشخصيات فيها، كما استعملت في الحوار أساليب بلاغية على مستوى الكلمات والصور والتراكيب، من ذلك قوله تعالى: «فتنادوا مصبحين»؛ أي نادى بعضهم بعضا حال كونهم داخلين في الصباح، بعد أن أقسموا ليلا ليصرمن ثمرات جنتهم مصبحين[25]، وفاء  «فتنادوا» للتفريع على  «أقسموا ليَصْرِمُنَّها مُصْبِحين»؛ أي فلما أصبحوا تنادوا لإنجاز ما بيّتوا عليه أمرهم[26]، وفسر التنادي بقوله: « أن اغدوا» وهو فعل أمر وفاعله، من «غَدَا يَغْدُو غُدُوًّا» أي: ذهب إلى ما يريد من عمل في وقت الغُدْوَة. الغُدْوَة والغَدَاةُ: ما بين الفجر وطلوع الشمس، وتُجمع الغَداةُ على «غَدَوَاتٍ» وتجمع الغُدوة على غُدًا وغُدُوٍّ[27]؛ أي بكروا جدا مقبلين ومستولين وقادرين على حرثكم أي محل فائدتكم الذي أصلحتموه وتعبتم فيه فلا يستحقه غيركم[28]. وقد شبه غدوهم لقطع الثمار بغدو الجيش على شيء لأن معنى الاستعلاء والاستيلاء موجود فيه وهو الصَّرم والقطع، ويكون هناك استعارة تبعية.[29]، وفي إطلاق الحرث على الجنة مجاز مرسل، ويطلق الحرث على الجنة لأنهم يتعاهدونها بالحرث لإصلاح شجرها[30]، وفي الجملة الشرطية «إن كنتم صارمين» إيجاز بالحذف أي قاصدين للصرم، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم مريدين صرامه فاغدوا، وقيل معنى صارمين ماضين في العزم من قولك سيف صارم[31]. ثم يمضي السياق في السخرية منهم، فيصورهم منطلقين، يتحدثون في خفوت، زيادة في إحكام التدبير، ليحتجنوا الثمر كله لهم، ويحرمون منه المساكين[32]، وأسند إلى مسكين فعل النهي عن الدخول والمراد نهي بعضهم بعضا عن دخول المسكين على جنتهم، أي لا يترك أحدا مسكينا يدخلها، وهذا من قبيل الكناية[33]؛ وتتجلى أهمية الكناية، أن السبب في أن كان للإثبات بها مزية لا تكون للتصريح، وأن كل عاقل يعلم إذا رجع إلى نفسهِ، أن إثبات الصفة بإثبات دليلها، وإيجابها بما هو شاهد في وجودها، آكد وأبلغ في الدعوى من أن تجيء إليها فثبتها هكذا ساذَجاً غُفْلاً[34]. والنهي للمسكين عن الدخول نهي لهم عن تمكينه منه، أي لا تُمكِّنوه من الدخول حتى يدخل[35]، وأوقع النهي على دخول المساكين لأنه أبلغ لأن دخولهم أعم من أن يكون بإدخالهم أو بدونه[36].

وأكد كون انطلاقهم حال الإصباح بقوله: «وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ»؛ و«الحَرْدُ» في اللغة بمعنى «القَصْد»، يقال لغة: حَرَدَهُ يَحْرِدُهُ حَرْدًا، إذا قَصَده، ويأتي الحَرْدُ بمعنى: الغَضب والحَنَق، ويأتي بمعنى الانفراد والانعزال[37]، وفي إيثار كلمة حرد في الآية نكتة من نكت الإعجاز المتعلق بشرف اللفظ ورشاقته من حيث المعنى، ومن جهة تعلق المجرور به بما يناسب كل معنى من معانيه، أي بأن يتعلق على «حرد» بـ «قادرين»، أو بقوله «غدوا»، فإذا علق بـ «قادرين»، فتقديم المتعلق يفيد تخصيصا، أي قادرين على المنع، أي منع الخير أو منع ثمر جنتهم غير قادرين على النفع[38]، وعلى هذا يكون القصر حقيقيا  أي وغدوا قادرين على منع لا غير[39]. وهؤلاء أصحاب الجنة قد ضلوا بالابتعاد عما فرض الله عليهم في ثمرات جنتهم، فوقعوا بكبيرة منع زكاة ما أخرج الله لهم من الأرض، ولما عاقبهم الله بإهلاك بستانهم، اعترفوا بذنبهم، وضلالهم بارتكاب كبيرة من كبائر الإثم، فقالوا: «إنا لضالون»، مؤكدين نسبة الضلال إلى سلوكهم بـ «إن والجملة الاسمية واللام المزحلقة»، وهذا منهم مبالغة في الاعتراف بذنبهم لربهم، وإشعار بأنهم لا يشكون في وقوعهم بالإثم الذي استحقوا عليه العقاب[40]، واشتمل أسلوب الشرط الوارد في الآية: «فلما رأوها قالوا إنا لضالون» إيجازا أوصل المعنى بأقرب الطرق وأيسرها دون إخلال في تركيب الجملة ومعناها، وهو إيجاز قصر تضمن معاني، و«إنا لضالون» كناية عن كون ما أصابهم عقابا على إهمال الشكر فالضلال مجاز[41]. لقد تزاحمت لديهم معاني الحرمان، معنى العقوبة بالحرمان، ومعنى المنع من العطاء، ومعنى كونهم محرومين فقراء غير مرزوقين، فجاء التعبير عنها بعبارة: «بل نحن محرومون» وهذا من بديع الإيجاز في القرآن[42]. وأكدوا الكلام لتنزيل أنفسهم منزلة من يشك في أنهم ضالون طريق الخير لقرب عهدهم بالغفلة عن ضلالهم ففيه إيذان بالتحسر والتندم، و«بل نحن محرومون» إضراب للانتقال إلى ما هو أعظم بالنظر لحال تبيينهم إذ بيتوا حرمان المساكين من فضول ثمرتهم فكانوا هم المحرومين من جميع الثمار، والكلام يفيد ذلك إما بطريق تقديم المسند إليه بأن أتي به ضمير بارز؛ فلما أبرز الضمير وقدم كان تقديمه مؤذنا بمعنى الاختصاص، أي القصر وهو قصر إضافي[43].

ولما كان القرع بالمصائب مظنة الرقة والتوبة لمن أريد به الخير، وزيادة الكفر لغيره، استأنف قوله: قال أوسطهم: أي قال أعقلهم وأفضلهم وأقربهم إلى الخير، ذكر المفسرون أنهم ثلاثة أخوة، وصاحب هذا القول أعدلهم[44]، والاستفهام إنكاري في قول أعقلهم ألم أقل لكم لولا تسبحون؛ فــ «لولا» حرف تحضيض بمعنى «هَلَّا تُسبِّحون»؛ أي تُنزِّهون الله عز وجل عن تصور أنه حرمكم دون أن ترتكبوا إثما[45]. وفي قول أوسطهم «ألم أقل لكم لولا تسبحون» إيجاز قصر ذلك أنه أَمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه[46]، وفي قوله «إنا كنا ظالمين» إيجاز بالحذف، حيث حذف مفعول ظالمين ليعم ظلمهم أنفسهم بما جروه على أنفسهم من سلب النعمة، وظلم المساكين بمنعهم من حقهم في المال[47]، وعقب اعترافهم بذنبهم وتوبتهم صاروا يتلاومون فيما بينهم، فقال تعالى: «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ» هذه الحالة والتقاذف الواقع بينهم بهذا الإجمال البالغ غاية الإيجاز، يصور حالة تشبه المهاجمة والتقريع، وأن صيغة التلاوم مع حذف متعلق التلاوم تصور في ذهن السامع صورا من لوم بعضهم على بعض[48]، وحقيقة التلاوم يَقُولُ: ذاك لهذا أنت خوفتنا بالفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت الذي رغبتني في جمع المال[49]. وقد تلقى كل واحد منهم لوم غيره عليه بإحقاق نفسه بالملامة وإشراك بقيتهم فيها فقال كل واحد منهم «يا ويلنا إنا كنا طاغين» فأسند هذا القول إلى جميعهم لذلك[50]، فالنداء هنا للحسرة والندم من جراء مخالفة أمر الله تعالى، والتأكيد في «إنَّا إلى ربنا راغبون»  للاهتمام بهذا التوجه[51]، وفي الآية نفسها قصر بالتقديم، قدم الجار والمجرور، أي: إنا إلى ربنا مبتهلون متضرعون طالبون، يقال لغة: رغب إليه، أي: ابتهل وتضَرَّعَ وطلب، ورغب إليه في كذا، أي: سأله إياه[52]. وفي استهلال كلامهم باعترافهم بخطيئتهم عند قوله «إنا كنا طاغين» براعة استهلال على قولهم «عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون»؛ وهذه الجملة بدل من جملة الرجاء، أي هو رجاء مشتمل على رغبة إليه بالقبول والاستجابة[53]. والمقصود من الإِطناب في قولهم بعد حلول العذاب بهم تلقين الذين ضرب لهم هذا المثل بأن مكنتهم الإِنابة إلى الله بنبذ الكفران لنعمته إذ أشركوا به من لا إنعام لهم عليه[54].

ولما كانوا منكرين لأمور الآخرة أشد من إنكارهم لأمور الدنيا أكد قوله:  «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» وقد تلطف الله بأهل مكة إذ شبه حالهم بحال أصحاب هذه القصة، لأنهم كانوا يتوافدون على الإسلام بعد انتصار الرسول عليهم، ودخلوا في دين الله أفواجا بعد فتح مكة[55]، والتعريف في «العذاب» تعريف الجنس وفيه توجيه بالعهد الذهني، أي عذابكم الموعد مثل عذاب أولئك والمماثلة في إتلاف الأرزاق والإِصابة بقطع الثمرات، و ما هنا من قبيل التشبيه المتعارف لوجود ما يصلح لأن يكون مشبهاً به العذابُ وهو كون المشبه به غير المشبه، والمماثلةُ بين المشبه والمشبه به مماثلة في النوع وإلاّ فإن ما تُوعدوا به من القحط أشد مما أصاب أصحاب الجنة وأطولُ، وضمير «لو كانوا يعلمون» عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله: «بلوناهم»  [القلم: 17 ]، وهم المشركون فإنهم كانوا ينكرون عذاب الآخرة فهددوا بعذاب الدنيا، ولا يصح عوده إلى «أصحاب الجنة» [ القلم: 17] لأنهم كانوا مؤمنين بعذاب الآخرة وشدته[56].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] في ظلال القرآن، سيد قطب، 4/3664.

[2] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، 20/306.

[3] التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب، ص: 143.

[4] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/226.

[5] التحرير والتنوير، 29/79.

[6] نفسه، 29/79.

[7] ديوان البحتري، 1/ 248-249، ولفظة في الندى وردت في الديوان: في العُلَا.

[8] أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ص: 115-116، مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني بجدة.

[9] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/236.

[10] الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري حققه وعلق عليه: محمد إبراهيم سليم، ص: 56، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة مصر.

[11] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/237.

[12] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 20/307-308.

[13] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، 18/241، دار الكتب المصرية القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964م.

[14] المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى / أحمد الزيات / حامد عبد القادر / محمد النجار، ص: 514، دار الدعوة.

[15] الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، 4/25، الهيئة المصرية العامة للكتاب،  الطبعة: 1394هـ/1974م.

[16] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/237.

[17] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، تحقيق: علي عبد الباري عطية، 15/34، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة: الأولى، 1415 هـ.

[18] التحرير والتنوير، 29/81.

[19] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/237-238.

[20] أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني، ص: 42-43.

[21] التحرير والتنوير، 29/82.

[22] العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ابن رشيق القيرواني، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، 2/9، دار الجيل، الطبعة: الخامسة، 1401 هـ – 1981م.

[23] التحرير والتنوير، 29/82.

[24] القصص القرآني في منطوقه ومفهومه، عبد الكريم الخطيب، ص: 124، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية، 1395 هـ- 1975م.

[25] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/239.

[26] التحرير والتنوير، 29/82.

[27] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/239.

[28] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 20/309.

[29] روح المعاني، الألوسي، 15/35.

[30] التحرير والتنوير، 29/83.

[31] فتحُ البيان في مقاصد القرآن، أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي، عني بطبعه وقدم له وراجعه: خادم العلم عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، 14/265، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، صيدا بيروت، عام النشر: 1412 هـ – 1992 م.

[32] في ظلال القرآن، سيد قطب،  4/ 3665.

[33] التحرير والتنوير، 29/83.

[34] دلائل الإعجاز، الجرجاني، ص: 72.

[35] مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، 30/608،  دار إحياء التراث العربي بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420 هـ.

[36] فتحُ البيان في مقاصد القرآن، أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي، 14/266.

[37] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/240.

[38] التحرير والتنوير، 29/84.

[39] روح المعاني، الألوسي، 15/ 36.

[40] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/241-242.

[41] التحرير والتنوير، 29/85.

[42] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/242.

[43] التحرير والتنوير، 29/86.

[44] معارج ودقائق التدبر، 1/242.

[45] نفسه، 1/243.

[46] فتح القدير، الشوكاني، 5/325 دار ابن كثير، دار الكلم الطيب – دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى – 1414 هـ.

 [47] التحرير والتنوير، 29/87.

[48] نفسه، 29/87.

[49] مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، 30/610.

[50] التحرير والتنوير، 29/87.

[51] نفسه، 29/88.

[52] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/244.

[53] التحرير والتنوير، 29/88.

[54] نفسه، 29/88.

[55] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/245.

[56] التحرير والتنوير، 29/89-90.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق