مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش الحلقة السادسة عشرة: روعة البيان القرآني في سورة البقرة من الآية: 213 إلى الآية 215

تمهيد:

نستأنف في هذه الحلقة الحديث عن روعة البيان القرآني في سورة البقرة، من الآية: 213 إلى الآية 215 منها، انطلاقا من استخراج وجوه البلاغة وما كمُنَ فيها من أسرار ونكت، وكذا بيان براعة الأسلوب القرآني المعجز.

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (213)

– إن موقع هذه الآية هنا جامع لموقع تذييل لما قبلها ومقدمة لما بعدها. فأما الأول فلأنها أفادت بيان حالة الأمم الماضية كيف نشأ الخلاف بينهم في الحق مما لأجله تداركهم الله ببعثات الرسل في العصور والأجيال التي اقتضتها حكمة الله ولطفه مما يماثل الحالة التي نشأت فيها البعثة المحمدية وما لقيه الرسول والمسلمون من المشركين.

وأما الثاني فلأنها مقدمة لما يرد بعدها من ذكر اختصاص الإسلام بالهداية إلى الحق الذي اختلفت فيه الأمم وهو مضمون قوله تعالى: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) إلى قوله: (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وذلك من خصائص كون الإسلام مهيمنا على ما سبقه من الشرائع الإلهية وتفضيله على جميع الأديان وأن هذه المزية العظمى يجب الاعتراف بها وألا تكون مثار حسد للنبيء وأمته، ردا على حسد المشركين، إذ يسخرون من الذين آمنوا وعلى حسد أهل الكتاب الذي سبق التنبيه عليه في قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِم) إلى قوله (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة: 142](1).

الوصف ب «وَاحِدَةً»: في الآية لتأكيد الإفراد في قوله «أُمَّةً» لدفع توهم أن يكون المراد من الأمة القبيلة، فيظن أن المراد كان الناس أهل نسب واحد، لأن الأمة قد تطلق على من يجمعهم نسب متحد(2).

– الإيجاز بالحذف: والوحدة هنا: مراد بها الاتحاد والتماثل في الدين بقرينة تفريع فبعث الله النبيين إلخ، فيحتمل أن يكون المراد كانوا أمة واحدة في الحق والهدى أي كان الناس على ملة واحدة من الحق والتوحيد، وبهذا المعنى روى الطبري تفسيرها عن أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وجابر بن زيد وهو مختار الزمخشري، قال: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً متفقين على دين الإسلام فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ يريد: فاختلفوا فبعث اللَّه. وإنما حذف لدلالة قوله: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) عليه. وفي قراءة عبد اللَّه: (كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا فبعث اللَّه). والدليل عليه قوله عز وعلا (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) »(3)، قال الفخر: «وهذا قول أكثر المحققين»(4)، قال القفال: بدليل قوله تعالى بعده فبعث الله النبيين إلى قوله فيما اختلفوا فيه، لأن تفريع الخبر ببعثة النبيين على الجملة السابقة وتعليل البعث بقوله ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه انتظم من ذلك كلام من بليغ الإيجاز وهو أن الناس كانوا أمة واحدة فجاءتهم الرسل بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد ليدوموا على الحق خشية انصرافهم عنه إذا ابتدأ الاختلاف يظهر وأيدهم الله بالكتب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فلا جرم أن يكون مجيء الرسل لأجل إبطال اختلاف حدث، وأن الاختلاف الذي يحتاج إلى بعثة الرسل هو الاختلاف الناشئ بعد الاتفاق على الحق كما يقتضيه التفريع على جملة (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) بالفاء في قوله: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) وعلى صريح قوله: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ).

ولأجل هذه القرينة يتعين تقدير فاختلفوا بعد قوله أمة واحدة، لأن البعثة ترتبت على الاختلاف لا على الكون أمة واحدة، وعلى هذا الفهم قرأ ابن مسعود (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ) إلخ، ولو كان المراد أنهم كانوا أمة واحدة في الضلال لصح تفريع البعثة على نفس هذا الكون بلا تقدير ولولا أن القرينة صرفت عن هذا لكان هو المتبادر، ولهذا قال ابن عطية: «وكل من قدر الناس في الآية كانوا مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا، وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة النبيين إليهم»(5). ويؤيد هذا التقدير قوله في آية سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا لأن الظاهر اتحاد غرض الآيتين، ولأنه لما أخبر هنا عن الناس بأنهم كانوا أمة واحدة ونحن نرى اختلافهم علمنا أنهم لم يدوموا على تلك الحالة(6).

البعث: الإرسال والإنهاض للمشي ومنه بعث البعير إذا أنهضه بعد أن برك(7)، والبعث هنا مجاز مستعمل في أمر الله النبيء بتبليغ الشريعة للأمة(8).

التعريف في (النَّبِيِّينَ): للاستغراق وهو الاستغراق الملقب بالعرفي في اصطلاح أهل المعاني(9)، والاسْتِغْرَاق الْعرفِيّ في البلاغة: هُوَ مَا يعد فِي الْعرف شمولاً وإحاطة مَعَ خُرُوج بعض الْأَفْرَاد(10)، إذ المراد بالنبيين هنا خصوص الرسل منهم بقرينة قوله (فَبَعَثَ) وبقرينة الحال في قوله: (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)، لأن البشارة والإنذار من خصائص الرسالة والدعوة وبقرينة ما يأتي من قوله: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) الآية(11).

قوله: (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ): قدم البشارة لأنها أبهج للنفس، وأقبل لما يلقي النبي، وفيها اطمئنان المكلف، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة(12).

وذكر الرازي أنه إنما قدم البشارة على الإنذار، لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض، ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني فلا جرم وجب تقديمه في الذكر(13).

– ولا يقال: إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب فلم قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه؟ لأنه ذلك لا يلزم، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتابا يتلى ويكتب، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى لأنهما حالان من النبيين. فناسب اتصالهما بهم، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب(14).

– قوله (مَعَهُمُ): أضاف مع إلى ضمير النبيئين إضافة مجملة، واختير لفظ «مع» دون عليهم ليصلح لمن أنزل عليه كتاب منهم مثل: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ولمن جاء مؤيدا لمن قبله مثل أنبياء بني إسرائيل بين موسى وعيسى.

والمعية معية اعتبارية مجازية أريد بها مقارنة الزمان، لأن حقيقة المعية هي المقارنة في المكان وهي المصاحبة، ولعل اختيار المعية هنا لما تؤذن به من التأييد والنصر قال تعالى: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 20] وفي الحديث «ومعك روح القدس»(15)، فانظر إلى براعة الأسلوب القرآني، والدقة في اختيار الألفاظ المناسبة للمعاني.

قوله (الكِتَابَ): قال أبو حيان: «ولما كان كثيرا مما أوحى به بكتب، أطلق على الجميع الكتاب تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه»(16). وذكر غيره أن الألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد التوراة(17)، وهذا القول مناسب لمعنى الاستطراد في الآية كما سنرى.

إسناد الحكم في قوله (لِيَحْكُمَ): إن قوله: ليحكم فعل فلا بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره، وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة، فأقربها إلى هذا اللفظ: الكتاب، ثم النبيون، ثم الله فلا جرم كان إضمار كل واحد منها صحيحا، فيكون المعنى: ليحكم الله، أو النبي المنزل عليه، أو الكتاب، ثم إن كل واحد من هذه الاحتمالات يختص بوجه ترجيح، أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات، وأما الله فلأنه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب، وأما النبي فلأنه هو المظهر فلا يبعد أن يقال: حمله على الكتاب أولى، أقصى ما في الباب أن يقال: الحاكم هو الله، فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلا أن نقول: هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين الأول: أنه مجاز مشهور يقال: حكم الكتاب بكذا، وقضى كتاب الله بكذا، ورضينا بكتاب الله، وإذا جاز أن يكون هدى وشفاء، جاز أن يكون حاكما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 9] والثاني: أنه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله(18).

– قوله (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ): جيء بالموصول دون غيره من المعرفات لما في الصلة من الأمر العجيب وهو أن يكون المختلفون في مقصد الكتاب هم الذين أعطوا الكتاب ليزيلوا به الخلاف بين الناس فأصبحوا هم سبب خلاف فيه، ولا شك أن ذلك يبطل المراد منه. والمعنى تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالا من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم(19)، قال أبو حيان: «والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له، وخصهم بالذكر تنبيها منه على شناعة فعلهم، وقبيح ما فعلوه من الاختلاف، ولأن غيرهم تبع لهم في الاختلاف فهم أصل الشر»(20)، وهذا ما أكده البقاعي بقوله: «ولما كان العالم يقبح منه مخالفة العلم مطلقاً لا بقيد كونه من معلم مخصوص بني للمفعول «أُوتُوهُ» أي فبدلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف، ففي هذا غاية التعجيب وإظهار القدرة الباهرة التي حملتهم على ذلك»(21).

والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في: (أُوتُوهُ) و(فِيهِ) الأولى والثانية، يعود على: «ما» الموصولة في قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ)، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى الله، بينه بما نزل في الكتاب، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله: ليحكم(22).

– قوله (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ): أتى بلفظ: من، الدالة على ابتداء الغاية منبها على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا، لم يتخلل بينهما فترة(23).

الفاء في قوله (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا): ذكر الطيبي أنها الفاء تعقيبية وقد آذنت بأن المؤمنين أيضاً كانوا داخلين في حكم الاختلاف، لكن الله تداركهم بلطفه الشامل واستخلصهم لنفسه وترك أولئك الضلال في عنادهم، يدل عليه قوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (24).

أما ابن عاشور فرجح أنها فصيحة، قال: «فالظاهر عندي أن الفاء فصيحة لما علم من أن المقصود من الكلام السابق التحذير من الوقوع في الاختلاف ضرورة أن القرآن إنما نزل لهدى المسلمين للحق في كل ما اختلف فيه أهل الكتب السالفة فكأن السامع ترقب العلم بعاقبة هذا الاختلاف فقيل: دام هذا الاختلاف إلى مجيء الإسلام فهدى الله الذين آمنوا إلخ، فقد أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف كقوله تعالى: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة: 60]» (25)، وهذا الترجيح مناسب للمعنى العام للآية.

الإحالة في الهاء في قوله: (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ): فالهاء في قوله: (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) يجب أن يكون راجعا، إما إلى الكتاب، وإما إلى الحق، لأن ذكرهما جميعا قد تقدم، لكن رجوعه إلى الحق أولى، لأن الآية دلت على أنه تعالى إنما أنزل الكتاب ليكون حاكما فيما اختلفوا فيه فالكتاب حاكم، والمختلف فيه محكوم عليه، والحاكم يجب أن يكون مغايرا للمحكوم عليه(26).

تقديم لفظ «الاختلاف» على لفظ «الحق»: فإن قيل: لم قال فهداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، ولم يقل: هداهم للحق فيما اختلفوا وقدم الاختلاف؟ والجواب من وجهين الأول: أنه لما كانت العناية بذكر الاختلاف لهم بدأ به، ثم فسره بمن هداه، قال المهدوي: وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماما، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف(27)، قال أبو حيان: «وهو حسن»(28).

والثاني: قال الفراء: هذا من المقلوب، أي فهداهم لما اختلفوا فيه(29).

تكرار اسم «الله»: وتكرر اسم الله في قوله: والله، جاء على الطريقة الفصحى التي هي استقلال كل جملة، وذلك أولى من أن يفتقر بالإضمار إلى ما قبلها من مفسر ذلك المضمر(30).

– فن القلب: قال محيي الدين الدرويش: «في هذه الآية الكريمة فن القلب، وهو شائع في كلامهم، ومثل له السّكاكي والزمخشري والجوهري بقوله تعالى: «ويوم يعرض الذين كفروا على النار» والأصل فيه: ويوم تعرض النار على الذين كفروا. كما مثلوا في الشعر بقول عروة بن الورد:

فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفْسِي وَمَا لِي        وَمَا آلَوْكَ إِلَّا مَا أُطِيقُ

والأصل فديت نفسه بنفسي، فالمفدي نفس المحبوب، والمفدي به نفس الشاعر، لا العكس كما هو ظاهر البيت، وبقول المتنبي:

وَعَذَلْتُ أَهْلَ العِشْقِ حَتَّى ذُقْتُهُ   فَعَجِبْتُ كَيْفَ يَمُوتُ مَنْ لَا يَعْشَقُ

لأن أصله كيف لا يموت من يعشق، والصواب خلافه. وأن المراد أنه صار يرى أن لا سبب للموت سوى العشق»(31).

وقد استخلصه محيي الدين الدرويش –رحمه الله- من كلام الطبري في «جامع البيان» حيث يقول: «فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)؟ أهداهم للحق، أم هداهم للاختلاف؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق، فيكف قيل، (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)؟

قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحقّ فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، فكفر بتبديله بعضُهم، وثبت على الحق والصواب فيه بعضهم -وهم أهل التوراة الذين بدّلوها- فهدى الله مما للحقّ بدَّلوا وحرَّفوا، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة، فقال وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت، و«مِنْ» إنما هي في كتاب الله في «الحق» و«اللام» في قوله: «لما اختلفوا فيه»، وأنت تحول «اللام» في«الحق»، و«من» في«الاختلاف»، في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبًا؟ قيل: ذلك في كلام العرب موجودٌ مستفيضٌ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبَهم بمنطقهم، فمن ذلك قول الشاعر:

كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُول كما      كَانَ الزِّنَاءُ فَريضَةَ الرَّجْمِ

وإنما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الآخر:

إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهْ           تَحْلَى به العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ

وإنما سراجٌ الذي يحلى بالعين، لا العين بسراج»(32).

– الاستطراد: وهو «سوق الكلام على وجه يلزم منه كلام آخر، وهو غير مقصود بالذات بل بالعرض»(33)، وهو يظهر في هذه الآية من خلال التعريض بأهل الكتاب وهم أشهر أهل الشرائع يومئذ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها، وهذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب وخاصة اليهود وهي طريقة عربية بليغة قال زهير:

إِنَّ البَخِيلَ مَلُومٌ حِينَ كَانَ         وَلَكِنَّ الجَوَادَ عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمُ

وقال الفرزدق يمدح الخليفة ويستطرد بهجاء جرير:

إِلَى مَلِكٍ مَا أُمُّهُ مِنْ مُحَارِبٍ     أَبُوهُ وَلَا كَانَتْ كُلَيْبٌ تُصَاهِرُهْ(34)

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (214)

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال: يهدي من يشاء، والمراد إلى الحق الذي يفضي اتباعه إلى الجنة، فبين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال الشدائد والتكليف، أو: لما بين أنه هداهم، بين أنه بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق، فكذا أنتم، أصحاب محمد، لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن(35).

الاستفهام الإنكاري: أَمْ منقطعة، ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده(36)، والتقرير والإنكار من أهم الأغراض التي تخرج إليها أدوات الاستفهام عن وضعها الحقيقي.

حذف الفاعل: قال أبو حيان: «وزلزلوا أي أزعجوا إزعاجا شديدا بالزلزلة، وبني الفعل للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، أي: وزلزلهم أعداؤهم»(37).

قوله (حتى يقول الرَّسُولُ): وثانيهما: سرت حتى أدخلها، وقد مضى السير والدخول، نحو قولك: سرت فأدخلها، أي: فدخلتها، وحتى لم تعمل في الفعل، وعلى هذا وجه الآية.

وقلت: وهذا الذي عناه المصنف بقوله: «على أنه في معنى الحال لكن على أنها حكاية حال ماضية»، وفائدته: تصوير تلك الحالة العجيبة الشأن، واستحضار صورتها في مشاهدة السامع ليتعجب منها، وعليه قوله: «حتى يجيء البعير يجر بطنه»(38).

والرَّسُولُ: اسم الجنس، وذكره الله تعظيما للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول(39).

– وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله؟ فيقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته، وقدم قول المؤمنين لتقدمه في الزمان. قال ابن عطية وهذا تحكم وحمل الكلام على وجهه غير متعذر(40). انتهى. وقوله حسن، إذ التقديم والتأخير مما يختصان بالضرورة(41)، قال ابن عطية: «ويحتمل أن يكون أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ إخبارا من الله تعالى مؤتنفا بعد تمام ذكر القول»(42).

قوله (متى): استفهام مستعمل في استبطاء زمان النصر(43).

التأكيد في قوله تعالى: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ): في هذه الجملة عدة مؤكدات تدل على تحقق النصر، أولاً: بدء الجملة بأداة الاستفتاح «ألا» التي تفيد التأكيد. ثانياً: ذكر «إِنَّ» الدالة على التوكيد أيضاً. ثالثاً: إيثار الجملة الاسمية على الفعلية فلم يقل «ستنصرون» والتعبير بالجملة الاسمية يفيد التأكيد. رابعاً: إضافة النصر إلى رب العالمين القادر على كل شيء(44).

الالتفات: وقد أشار إليه الزمخشري في كشافه في ذكر مناسبة هذه الآية لما قبلها، قال: «ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات- تشجيعاً لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له- قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ: أم حسبتم»(45).

وقد بينه الطيبي في «فتوح الغيب» بيانا لا مزيد عليه بقوله: «فإن قلت: أين الالتفات ها هنا، فإن الالتفات هو: الانتقال من إحدى الصيغ الثلاث إلى الأخرى لمفهوم واحد، وهذا المعنى ها هنا مفقود؟ قلت: قوله: «ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف»، معناه: أن قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) الآية، كان كلاماً مشتملاً بظاهره على ذكر اختلاف الأمم السالفة والقرون الخالية، وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء، وما لقوا منهم من الشدائد بعد إظهار المعجزات، ومدمجاً لتشجيع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع المشركين، قال الله تعالى: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود: 120]، فمن هذا الوجه كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مرادين في هذا الكلام غائبين، يؤيده قوله: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا)، فإذا قيل لهم بعد ذلك: (أَمْ حَسِبْتُمْ) كان نقلاً من الغيبة إلى الخطاب، والكلام الأول تعريض للمؤمنين بعدم التثبت والتصبر لأذى المشركين، فكأنه وضع ذلك موضع: كان من حق المؤمنين التشجع والتصبر على مكابدة المشاق من المخالفين وأعداء الدين تأسياً بمن قبلهم لجامع الإيمان، كما صرح به الحديث النبوي، وهو المضرب عنه «ببل» التي تضمنها (أَمْ)، أي: دع ذلك، أحسبوا أن يدخلوا الجنة ولما يأتهم مثل الذين خلوا من قبلهم، كقوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت: 2]، فترك ذلك إلى الخطاب مريداً للإنكار والاستبعاد»(46)، فانظر إلى عجيب السبك في الخطاب القرآني.

– عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة: وذكر ابن عاشور أن القصد من ذكر الأمم السالفة حيثما وقع في القرآن هو العبرة والموعظة والتحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه بسوء عملهم والاقتداء في المحامد، فكان في قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة الآية إجمال لذلك وقد ختم بقوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، ولما كان هذا الختام منقبة للمسلمين أوقظوا أن لا يزهوا بهذا الثناء فيحسبوا أنهم قضوا حق شكر النعمة فعقب بأن عليهم أن يصبروا لما عسى أن يعترضهم في طريق إيمانهم من البأساء والضراء اقتداء بصالحي الأمم السالفة، فكما حذرهم الله من الوقوع فيما وقع فيه الضالون من أولئك الأمم حرضهم هنا على الاقتداء بهدى المهتدين منهم على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة وعكس ذلك، فيكون قوله: أم حسبتم إضرابا عن قوله: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) وليكون ذلك تصبيرا لهم على ما نالهم يوم الحديبية من تطاول المشركين عليهم بمنعهم من العمرة وما اشترطوا عليهم للعام القابل، ويكون أيضا تمهيدا لقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) [البقرة: 216] الآية، وقد روي عن أكثر المفسرين الأولين أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدائد فتكون تلك الحادثة زيادة في المناسبة(47).

– ومن براعة الأسلوب القرآني في هذه الآية انتهاج أسلوب التأديب لغرض يقتضي ذلك، وفي بعض الآثار: إنما تقاتلون الناس بأعمالكم، والحاصل أنه لا يكفي مجرد ادعائهم الدخول في السلم بل لا بد من إقامة البينة بالصبر على ما يمتحنهم كما امتحن الأمم الخالية والقرون الماضية، فانظر هذا التدريب في مصاعد التأديب، وتأمل كيف ألقي إلى العرب وإن كان الخطاب لمن آمن ذكر القيامة في قوله: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [البقرة: 212] والجنة في قوله: (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) [البقرة: 214] وهم ينكرونهما إلقاء ما كأنه محقق لا نزاع فيه تأنيساً لهم بذكرهما، وانظر ما في ذلك من بدائع الحكم(48)، لأن من عادة القرآن أن يكون بيان التوحيد وبيان الوعظ والنصيحة وبيان الأحكام مختلطا بعضها بالبعض، ليكون كل واحد منها مقويا للآخر ومؤكدا له(49).

(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (215)

– ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الصبر على النفقة وبذل المال هو من أعظم ما تحلى به المؤمن، وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة، حتى لقد ورد: الصدقة تطفئ غضب الرب(50).

إذ لما كانت النفقة من أصول ما بنيت عليه السورة من صفات المؤمنين (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة: 3] ثم كرر الترغيب فيها في تضاعيف الآي إلى أن أمر بها في أول آيات الحج مع أنها من دعائم بدايات الجهاد، إلى أن تضمنتها الآية السالفة مع القتل الذي هو نهاية الجهاد كان هذا موضع السؤال عنهما فأخبر تعالى عن ذلك على طريق النشر المشوش وذلك مؤيد لما فهمته في البأساء والضراء فإن استعماله في القرآن أكثر من المرتب فقال معلماً لمن سأل : هل سأل المخاطبون بذلك عنهما(51).

قوله (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ): اختلف في معنى هذا السؤال وفي مطابقته للجواب، وفي ذلك أقوال:

قال الراغب: قيل: في مطابقة الجواب السؤال وجهان: أحدهما: أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ننفق وعلى من ننفق؟ لكن حذف في حكاية السؤال أحدهما إيجازاً، ودل عليه الجواب بقوله: (مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ)، كأنه قيل: المنفق هو الخير، والمنفق عليهم هؤلاء، فلف أحدهما في الآخر، وهذا طريق معروف في البلاغة. والوجه الثاني: أن السؤال ضربان: سؤال جدل، وحقه أن يطابقه جوابه لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه، وسؤال تعلم، وحق المعلم أن يصير فيه كطبيب رفيق يتحرى شفاء سقيم، فيطلب ما يشفيه، طلبه المريض أو لم يطلبه، فلما كان حاجتهم إلى من ينفق عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق بين لهم الأمران(52).

والقول الذي قاله الطاهر ابن عاشور وفيه مطابقة الجواب للسؤال من غير حاجة إلى تقدير أو تأويل، قال: «ماذا: استفهام عن المنفَق (بفتح الفاء) ومعنى الاستفهام عن المنفَق السؤال عن أحواله التي يقع بها موقع القبول عند الله، فإن الإنفاق حقيقة معروفة في البشر وقد عرفها السائلون في الجاهلية. فكانوا في الجاهلية ينفقون على الأهل وعلى الندامى وينفقون في الميسر، يقولون فلان يتمم أيساره أي يدفع عن أيساره أقساطهم من مال المقامرة ويتفاخرون بإتلاف المال. فسألوا في الإسلام عن المعتد به من ذلك دون غيره، فلذلك طابق الجواب السؤال إذ أجيب: قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين، فجاء ببيان مصارف الإنفاق الحق وعرف هذا الجنس بمعرفة أفراده، فليس في هذا الجواب ارتكاب الأسلوب الحكيم كما قيل، إذ لا يعقل أن يسألوا عن المال المنفق بمعنى السؤال عن النوع الذي ينفق من ذهب أم من ورق أم من طعام، لأن هذا لا تتعلق بالسؤال عنه أغراض العقلاء، إذ هم يعلمون أن المقصد من الإنفاق إيصال النفع للمنفق عليه، فيتعين أن السؤال عن كيفيات الإنفاق ومواقعه، ولا يريبكم في هذا أن السؤال هنا وقع بما وهي يسأل بها عن الجنس لا عن العوارض، فإن ذلك اصطلاح منطقي لتقريب ما ترجموه من تقسيمات مبنية على اللغة اليونانية وأخذ به السكاكي، لأنه يحفل باصطلاح أهل المنطق وذلك لا يشهد له الاستعمال العربي»(53).

ويظهر أن البقاعي فهِم من السؤال معنى نوع المنفَق لذلك قال: «إن في هذا السؤال إظهار مَثَل الذين خلوا من قبلهم ولولا أن الله رحيم لكان جوابهم: تنفقون الفضل، فكان يقع واجباً ولكن الله لطف بالضعيف لضعفه وأثبت الإنفاق وأبهم قدره في نكس الإنفاق بأن يتصدق على الأجانب مع حاجة من الأقارب فقال تعالى خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم وإعراضاً منه عن السائلين لما في السؤال من التبلد الإسرائيلي»(54)، وهذا ما نفاه ابن عاشور كما رأينا.

اللام في قوله (فَلِلْوَالِدَيْنِ): للملك، بمعنى الاستحقاق أي فالحقيق به الوالدين أي إن تنفقوا فأنفقوا للوالدين أو أعطوا للوالدين(55).

– الترتيب في الإنفاق: وقد فصل الرازي في هذه المسألة فبين وجه مراعاة الله تعالى لهذا الترتيب في كيفية الإنفاق فقال: «اعلم أنه تعالى راعى الترتيب في الإنفاق، فقدم الوالدين، وذلك لأنهما كالمخرج له من العدم إلى الوجود في عالم الأسباب، ثم ربياه في الحال الذي كان في غاية الضعف، فكان إنعامهما على الإبن أعظم من إنعام غيرهما عليه، ولذلك قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَينِ) [الإسراء: 23]، وفيه إشارة إلى أنه ليس بعد رعاية حق الله تعالى شيء أوجب من رعاية حق الوالدين، لأن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود في الحقيقة، والولدان هما اللذان أخرجاه إلى عالم الوجود في عالم الأسباب الظاهرة، فثبت أن حقهما أعظم من حق غيرهما فلهذا أوجب تقديمهما على غيرهما في رعاية الحقوق، ثم ذكر تعالى بعد الوالدين الأقربين، والسبب فيه أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء، بل لا بد وأن يرجح البعض على البعض، والترجيح لا بد له من مرجح، والقرابة تصلح أن تكون سببا للترجيح من وجوه أحدها: أن القرابة مظنة المخالطة، والمخالطة سبب لاطلاع كل واحد منهم على حال الآخر، فإذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا كان اطلاع الفقير على الغني أتم، واطلاع الغني على الفقير أتم، وذلك من أقوى الحوامل على الإنفاق وثانيها: أنه لو لم يراع جانب الفقير، احتاج الفقير للرجوع إلى غيره وذلك عار وسيئة في حقه فالأولى أن يتكفل بمصالحهم دفعا للضرر عن النفس وثالثها: أن قريب الإنسان جار مجرى الجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير، فلهذا السبب كان الإنفاق على القريب أولى من الإنفاق على البعيد، ثم إن الله تعالى ذكر بعد الأقربين اليتامى، وذلك لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب، ولكونهم يتامى ليس لهم أحد يكتسب لهم، فالطفل الذي مات أبوه قد عدم الكسب والكاسب وأشرف على الضياع، ثم ذكر تعالى بعدهم المساكين وحاجة هؤلاء أقل من حاجة اليتامى لأن قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى، ثم ذكر تعالى بعدهم ابن السبيل فإنه بسبب انقطاعه عن بلده، قد يقع في الاحتياج والفقر، فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله تعالى في كيفية الإنفاق، ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)؛ أي وكل ما فعلتموه من خير إما من هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلبا لجزيل ثوابه وهربا من أليم عقابه فإن الله به عليم(56).

– قوله (بِهِ عَلِيم): «العليم» مبالغة في كونه عالما يعني لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه كما قال: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) [آل عمران: 195] وقال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7] (57).

ولما كان على طريق الاستئناف في مقام الترغيب والترهيب لكونه وكل الأمر إلى المنفقين وكان سبحانه عظيم الرفق بهذه الأمة أكِد علمه بذلك فقدم بذلك فقدم الظرف إشارة إلى أن له غاية النظر إلى أعمالهم الحسنة فقال: (بِهِ عَلِيم) (58).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- التحرير والتنوير 2/299.

2- نفسه 2/300.

3- الكشاف 1/255- 256.

4- مفاتيح الغيب 6/372.

5- المحرر الوجيز 1/286.

6- التحرير والتنوير 2/300- 301.

7- انظر: تاج العروس 5/169، [مادة: برك].

8- التحرير والتنوير 2/306.

9- نفسه 2/307.

10- الكليات ص: 1025.

11- انظر: التحرير والتنوير 2/306.

12- البحر المحيط 2/364.

13- مفاتيح الغيب 6/375.

14- البحر المحيط 2/364.

15- انظر: التحرير والتنوير 2/307.

16- البحر المحيط 2/365.

17- المحرر الوجيز 1/286.

18- مفاتيح الغيب 6/375.

19- انظر: التحرير والتنوير 2/309.

20- البحر المحيط 2/367.

21- نظم الدرر 1/394.

22- البحر المحيط 2/366- 367.

23- نفسه 2/367.

24- فتوح الغيب 3/338.

25- انظر: التحرير والتنوير 2/311.

26- مفاتيح الغيب 6/375.

27- المحرر الوجيز 1/286.

28- البحر المحيط 2/370.

29- انظر: مفاتيح الغيب 6/377.

30- البحر المحيط 2/371.

31- إعراب القرآن الكرين وبيانه 2/278.

32- جامع البيان 4/286- 287.

33- التعريفات ص: 20.

34- انظر: التحرير والتنوير 2/309.

35- البحر المحيط 2/371.

36- الكشاف 1/256، صفوة التفاسير 1/124.

37- البحر المحيط 2/373.

38- فتوح الغيب 3/343.

39- المحرر الوجيز 1/288.

40- نفسه 1/288.

41- نفسه 2/374.

42- نفسه 1/288.

43- التحرير والتنوير 316.

44- صفوة التفاسير 1/124.

45- الكشاف 1/256.

46- فتوح الغيب 3/340- 341.

47- التحرير والتنوير 2/313- 314.

48- نظم الدرر 1/398.

49- مفاتيح الغيب 6/381.

50- البحر المحيط 2/376.

51- انظر: نظم الدرر 1/399.

52- فتوح الغيب 3/344.

53- التحرير والتنوير 2/317- 318.

54- نظم الدرر 1/399- 400.

55- التحرير والتنوير 2/ 318.

56- مفاتيح الغيب 6/382- 383.

57- نفسه 6/383.

58- نظم الدرر 1/400.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع:

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي، تحقيق: صدقي محمد جميل، منشورات: دار الفكر، بيروت، عام: 1420هـ.

– التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، منشورات الدار التونسية للنشر، تونس، سنة النشر: 1984هـ.

– جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، الطبعة الأولى: 1420هـ/ 2000م، منشورات: مؤسسة الرسالة.

– صفوة التفاسير، لمحمد علي الصابوني، الطبعة الأولى: 1417هـ/ 1997م، منشورات: دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.

– فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب، للطيبي، مقدمة التحقيق: إياد محمد الغوج، القسم الدراسي: د. جميل بني عطا، الطبعة الأولى: 1434هـ/ 2013م، منشورات: جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم.

– كتاب التعريفات، للشريف الجرجاني، ضبطه وصححه جماعة من العلماء، الطبعة الأولى: 1403هـ /1983م، منشورات: دار الكتب العلمية بيروت، لبنان.

– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، الطبعة الثالثة: 1407هـ، منشورات: دار الكتاب العربي، بيروت.

– الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء الكفوي، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، منشورات: مؤسسة الرسالة.

– المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، الطبعة الأولى: 1422هـ، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت.

– مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي، الطبعة الثالثة: 1420هـ، منشورات: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

– نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي، خرج آياته وأحاديثه ووضع حواشيه: عبد الرزاق غالب المهدي، الطبعة الثالثة: 1427هـ/ 2006م، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق