مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش الحلقة الحادية عشرة: مواطن البلاغة في الآية: 2 من سورة النساء

يقول الله تعالى في الآية: 2 من سورة النساء: (وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمُ إِلَى أَمْوَالِكُمُ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا). سنقف في هذه الآية على مواطن البلاغة التي أشار إليها المؤلف محيي الدين الدرويش –رحمه الله- لنفصل الحديث في كل موطن منها كما يلي:

1- المجاز المرسل: في قوله تعالى: «وآتوا اليتامى أموالهم» لأن الله سبحانه لا يأمر بإعطاء اليتامى الصغار أموالهم، فهذا غير معقول، بل الواقع أن الله يأمر بإعطاء الأموال من بلغوا سن الرشد، بعد أن كانوا يتامى: فكلمة اليتامى هنا مجاز مرسل، لأنها استعملت في الراشدين. والعلاقة اعتبار ما كانوا عليه(1).

وهذا على اعتبار المقصود من لفظ «اليتامى»: الصغار الذين لم يبلغوا سن الرشد بعد، بحيث يكونوا غير صالحين للتصرف في أموالهم.

وقد تعين عند الإمام ابن عاشور تأويل الآية إما بتأويل لفظ «الإيتاء» أو بتأويل «اليتيم»، بحيث يؤول الإيتاء بلازمة وهو الحفظ الذي يترتب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم، أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء.

وأن يؤول اليتامى بالذين جاوزوا حد اليتم، ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع، ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حد اليتيم، أو يبقى على حاله، ويكون هذا الإطلاق مقيدا بقوله الآتي: (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمُ أَمْوَالَهُمْ)(2).

وهذا الطريق الأخير قريب مما ذكره المؤلف –رحمه الله- إذ فيه إشارة إلى بقاء لفظ «اليتامى» على حاله لكنه قيده بوقت معين وهو فور خروجهم من حد اليتم، ولم يسمه مجازا مرسلا باعتبار ما كان، وقد يكون في هذا التعبير سرا دقيقا وإشارة لطيفة ألا وهي المبادرة إلى دفع أموال اليتامى إليهم والمسارعة في ذلك ما أمكن بمجرد إيناس الرشد منهم، بحيث تكون آثار اليتم لم تزل عنهم بعد، وذلك لقرب عهدهم باليتم.

يقول الرازي معلقا على هذه المسألة: «[…] ههنا سؤال ثان وهو أنا ذكرنا أن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيما لا يجوز دفع ماله إليه، وإذا صار كبيراً بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيما، فكيف قال: (وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ)، والجواب عنه على طريقين، الأول: أن نقول المراد من «اليتامى» الذين بلغوا أو كبروا ثم فيه وجهان، أحدهما: أنه تعالى سماهم يتامى على مقتضى أصل اللغة، والثاني: أنه تعالى سماهم باليتامى لقرب عهدهم باليتم، وإن كان قد زال في هذا الوقت كقوله تعالى: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ  سَاجِدِينَ) [الأعراف: 120]، أي الذين كانوا سحرة قبل السجود، وأيضاً سمى الله تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ) (الطلاق: 2)، والمعنى مقاربة البلوغ، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى: (فَإِذَا دَفَعْتُمُ إِلَيْهِمُ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ) [النساء: 6] والإشهاد لا يصح قبل البلوغ وإنما يصح بعد البلوغ»(3).

وقد صرح الشوكاني بكون الكلام مجازا مرسلا فقال: «وَأَطْلَقَ اسْمَ الْيَتِيمِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ إِعْطَائِهِمْ أَمْوَالَهُمْ- مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَهَا إِلَّا بَعْدَ ارتفاع اسم اليتيم بِالْبُلُوغِ- مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: بِالْيَتَامَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ، وَبِالْإِيتَاءِ: مَا يَدْفَعُهُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَوْصِيَاءُ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، لا دفعها جميعا، وهذا الْآيَةُ مُقَيَّدَةٌ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمُ أَمْوالَهُمْ) فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ ارْتِفَاعِ الْيُتْمِ بِالْبُلُوغِ مُسَوِّغًا لِدَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُمُ الرُّشْدُ»(4).

وقد جعل القزويني في (التلخيص) قوله تعالى: (وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) شاهدا على القسم الخامس من أقسام المجاز المرسل، وهي تسمية الشيء باسم ما كان عليه(5)، وكذلك السبكي في (عروس الأفراح)(6)، وابن عربشاه في (الأطول)(7)، وغيرهم.

ومن مواطن البلاغة في هذه الآية:

2- الاستعارة المكنية بأكل أموال اليتامى. فقد شبه أموالهم بطعام يؤكل، ثم استعار لها ما هو من أبرز خصائص الطعام وهو الأكل، وفي هذه الاستعارة سرّان من أدق الأسرار:

أ- إن طريق البلاغة النهي عن الأدنى تنبيها على الأعلى إذا كان المنهي عنه درجات، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغني عنه عن طريق الأولى، فلا بد من سر يوضح فائدة تخصيص الأعلى بالنهي، في هذه الآية، وذلك ما يفهم من كلمة «إلى أموالكم»، والسر في ذلك أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل فخصص بالنهي تشنيعا على من يقع فيه(8).

وقد فصل في ذلك صاحب «الانتصاف» قائلا: وأهل البيان يقولون المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيهاً على الأعلى، وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفا لها، إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهي أن يأكله وهو غني عنه، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه، حتى يلزم نهي الغني عنه من طريق الأولى. وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية فنقول: أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته، وفي النهي عن الأعلى فائدة جليلة لا توجد في النهي عن الأدنى؛ فالمنهي عنه متى كان أقبح كانت النفس منه أنفر، والأكل من الغني أقبح، فإذا استبشع المنهي عنه دعاه ذلك إلى الإحجام عنه، وعن أكل ماله مطلقاً […] فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يلقى إلا في الكتاب العزيز، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق. فالنهي إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى، وإن خص الأعلى فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقاً من الانكفاف عن الأقبح(9).

وقد نظر ابن عاشور إلى أن قَيْدَ (إلى أموالكم) ليس محط النهي، بل النهي واقع على أكل أموالهم مطلقا سواء كان للآكل مال يضم إليه مال يتيمه أم لم يكن، ولكن لما كان الغالب وجود أموال للأوصياء، وأنهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثر، ذكر هذا القيد رعيا للغالب، ولأنه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنهم أغنياء(10)، وهذا من عجيب لغة القرآن الكريم، وإحكام صنعته.

ب- والسر الثاني في تخصيص الأكل لأن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل، وتعدّ من البطنة المساوية للبهيمية، فكأن آكل مال اليتيم-في حال استغنائه عنه وكثرة المال لديه- شر من أكله وهو مملق شديد الحاجة إليه، وإن اشتركا في أكل ما هو محرم، وكانا منتظمين في قرن واحد، ومعلوم أن المنهي عنه كلما كان أوغل في القبح وأفرط في الدمامة كانت النفس بطبيعة الحال أنفر عنه(11).

وفي تخصيص الأكل أيضا استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التام، لأن الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنه يحرزه في داخل جسده، ولا مطمع في إرجاعه، وضمن (تاكلوا) معنى (تضموا) فلذلك عدى بـ(إلى) أي: لا تأكلوها بأن تضموها إلى أموالكم(12)، ولذلك قال (تاكلوا) ولم يقل مثلا (تأخذوا).

ومن جهة أخرى فإن تخصيص النهي بالأكل، مع أن وجوه الانتفاع به محرمة؛ لأن العرب كانت تتذم بالإكثار من الأكل، وتعد البطنة من البهيمة وتعيب على من اتخذها ديدنه، ولا كذلك سائر الملاذ، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به، حتى إذا نفرت النفس بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها، أكلا أو غيره(13).

قال جواد علي في (المفصل): «ومن عادات العرب أنهم يقلون من الأكل، ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، و«البطنة تأفن الفطنة». وكانوا يعيبون الرجل الأكول الجشع، ويرون أن «الأزم»، أي قلة الأكل أفضل دواء لصحة الأبدان. قيل للحارث بن كلدة، طبيب العرب في الجاهلية: ما أفضل الدواء? قال: الأزم. ولهم في ذلك أمثلة كثيرة في الأزم، وضرر البطنة رووا بعضاً منها على لسان لقمان، ورووا بعضاً آخر على ألسنة الحكماء العرب. وهم يعالجون البطنة بالحمية لأن المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء. وهم يرون أن الشبع والامتلاء يضعف الفطنة أي الشبعان لا يكون فطناً لبيباً. فللأكل علاقة كبيرة بالفطنة والعقل والذكاء»(14).

فقد اجتمع إذن في تخصيص الأكل مذمتان أولهما: أن الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء، وثانيهما: أن الإكثار من الأكل مما تتذمم به العرب، وبذلك صور لنا القرآن الكريم أكل أموال اليتامى في أبشع صوره، وهذا من أسرار لغة القرآن الكريم وبلاغته.

وفيما يلي رسم توضيحي لاستعارة أكل أموال اليتامى في قوله تعالى: (وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمُ إِلَى أَمْوَالِكُمُ).

ومن مواطن البلاغة التي وقف عندها المؤلف –رحمه الله- في هذه الآية:

3- الطباق بين الخبيث وهو الحرام من المال، والطيب وهو الحلال المستساغ(15).

وقد فسر المفسرون الخبيث والطيب بتفاسير عدة مثل: الحرام والحلال، والرديء والجيد، والخسيس والرفيع، وهذه التفسيرات كلها لا يغيب فيها عنصر الطباق.

وداخل هذا الطباق بين الحلال والحرام طباق أعلى يعكس لنا صورة الوصي، فقد صور لنا هذا الطباق حالة الوصي وما هو عليه في كلتا الحالتين، فهو إذا ما التزم بما أمر به من الوصاية على مال اليتيم وحسن تدبيره والقيام عليه ودفعه إليه في وقته المعلوم، كان ماله حلالا وعمله طيبا وقدره عاليا، وهو إذا ما خالف تعاليم الله ولم يلتزم بأحكامه وأساء التدبير فيما وُصِّيَ به كان ماله حراما وعمله خبيثا، قال البقاعي: «(الخبيث) أي من الخباثة التي لا أخبث منها، لأنها تذهب بالمقصود من الإنسان، فتهدم جميع أمره، (بالطيب) أي الذي هو كل أمر يحمل على معالي الأخلاق الصائنة للعرض، المعلية لقدر الإنسان»(16).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/609- 610.

2- انظر: التحرير والتنوير 4/219- 220.

3- مفاتيح الغيب 9/482- 483.

4- فتح القدير 1/481.

5- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/610.

6- عروس الأفراح 2/138.

7- الأطول 1/85.

8- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/610.

9- حاشية (الانتصاف فيما تضمنه الكشاف) لابن المنير الإسكندري 1/455- 456 بتصرف.

10- التحرير والتنوير 4/221.

11- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/610.

12- التحرير والتنوير 4/221.

13- حاشية (الانتصاف فيما تضمنه الكشاف) لابن المنير الإسكندري 1/455 بتصرف.

14- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/58.

15- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/610.

16- نظم الدرر 2/208.

المصادر والمراجع:

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– التحرير والتنوير، للإمام محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.

– فتح القدير، للشوكاني، الطبعة الأولى: 1414هـ، منشورات: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت.

– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، رتبه وضبطه وصححه محمد عبد السلام شاهين، الطبعة الخامسة: 2009م، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت، ومعه كتاب الانتصاف لابن المنير الإسكندري.

– المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي، الطبعة الرابعة: 1422هـ/ 2001م، منشورات: دار الساقي.

– نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي، خرج آياته وأحاديثه ووضع حواشيه: عبد الرزاق غالب المهدي، الطبعة الثالثة: 1427هـ/ 2006م، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق