مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته في تفسير ابن عادل الحنبلي -اللباب في علوم الكتاب- الحلقة السادسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله الذي أمدَّنا بما نتوصّل به إلى رضاه في القول والعمل، والصلاة والسلامُ على خير مبعوث إلى العالمين، نبيِّنا المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وعلى آله سُرُجِ الدين وأئمة المتّقين، وعلى أصحابِه الغُرِّ المُحجَّلين، وبعدُ:

فقد وقفنا عند قوله تعالى في فاتحة كتابِه الكريم:”صِرَٰطَ ‌ٱلَّذِينَ ‌أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ”، وذلك من خلال ما أودعَه ابن عادل الحنبلي في كتابه «اللُّباب في علوم الكتاب»، ذاكِرين ما في الآية من مباحث لغوية اشتملَ عليها نظمُها البديع وتكلّم عنها المُصَنِّفون في كتاب الله تعالى.

صراطَ:

على الفتح، بدل من قوله تعالى قبل ذلك: الصراطَ المستقيم، وهو بدل كُلٍّ من كُلٍّ لأنه عينُ الشيء، فالصراط الأول هو الصراط الثاني، وجِيءَ بالثاني لِبَيَان ما قبلَه، كأنه لمّا قال: اهدنا الصراط المستقيم، قيل: صِراطَ مَن؟ فقيل: صراطَ الذين أنعمت عليهم…

فإن قيل: إنه تعالى لم يُعيِّنْ أحدا، فمن هؤلاء الذين أنعمَ الله عليهم؟ قيل: هم أربع طوائف: النبيّون والصِّدِّقون والشهداء والصالحون، يدل على ذلك قوله تبارك وتعالى:”وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ ‌وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا” [النساء: 68].

وقال ابن عادل: «وفائدة البدل: الإيضاحُ بعد الإبهام، لأنه يُفيدُ تأكيدا من حيث المعنى، إذ هو على نيَّةِ تكرار العامل»(1).

الذين:

وقع مجرورا بإضافةِ ما قبله إليه، ويقتضي شيئين: صلتَه، وهي جملة: أنعمت عليهم، والعائد، وهو الضمير الذي ذُكر بعده: عليهم. وفيه مبحثان: مبحث البناء والإعراب، ومبحث حذف النون من آخره.

أما البناء والإعراب، فالأكثر فيه أنه مبني على حالة واحدة في النصب والرفع والجر، ومن العرب من يرفعه بالواو إجراءً له مُجرى جمع لمذكر السالم، ومنه البيت(2):

نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحَا /// يَوْمَ النُّخَيْلِ غَارَةً مِلْحَاحَا

والمبحث الثاني في حذف النون من آخره، وقد ورد في ذلك شاهد عن العرب، قال(3):

وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ /// هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ

فحذف النون، وكان حقه أن يقول: وإن الذين، لأنه يُخبر عن جماعة الرجال، وقد تكون حُذفت للوزن، أو أنه عاملها معاملة المفرد في جميع الأحوال، وهذا هو الظاهر، ومنه أيضا في المُثَنَّى قولُ الأخطل(4):

أَبَنِي كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا /// قَتَلَا الْمُلُوكَ وَفَكَّكَا الْأَغْلَالَا

فحذف النون أيضا، وأصله: اللذان.

أنعمتَ:

فعلٌ ماض، والتاء ضمير متصلٌ فاعل، وهما معًا، أي: الفعل والضميرُ، صلة الموصول «الذين».

قال ابن عادل: «والهمزة في «أنعمت» لجعل الشيء صاحبَ ما صِيغَ منه، فحقه أن يتعدى بنفسه، ولكن ضُمن معنى «تفضل» فتعدى تعديتَه»(5).

فقد تعدّى بالهمزة مُضَمَّنًا معنى «تفضَّل عليه» أو «مَنَّ عليه»، ومنه قوله تعالى:”وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ‌وَأَنۡعَمۡتَ ‌عَلَيۡهِ” [الأحزاب: 37]، فهذا يتعدّى بحرف الجر «على». وقد يأتي «أنعمَ» بمعنى قال «نعم»، وهذا يتعدّى باللام وحدها، تقول: أنعمتُ لفلان، أي: قلت له نعم في الإجابة عن سؤاله، وفي الصحاح: وأنعم له، أي: قال له نعم(6). والعائد هو الضميرُ المتصل «هم» في قوله تعالى: «عليهم»، وقد أفاد معنى الاستعلاء.

والإنعام: إيصال الخير إلى غيرك من ذوي العقول، فلا يكون لغير العاقل، ولا يكون لنفسك، إنما هذا يكون إحسانا، لأن الإحسان يشمل الجميع.

غير:

من الألفاظ المبهمة التي تلزم الإضافة، فلا تدخل عليه «أل» عند كثيرين، وهو لفظ مذكّر أبدا.

وقُرئت بالكسر على المشهور، وعلى الضم أيضا، وكلاهما له وجه في التقدير. فالكسر يجوز فيه البدل من «الذين»، وهو الظاهر، فيكون التقدير: صراطَ غيرِ المغضوب عليهم…، أو يكون بدلا من الضمير في «عليهم» وإن كان بعيدا، والتقدير: صراطَ الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم. ويجوز فيه كذلك الصفة، فيكون من صفةِ «الذين»، قال الزجّاج: «ويستقيم أن يكون ‌«غَيْرِ ‌المغْضُوبِ عليهم» من صفةِ «الذين»، وإن كان «غير» أصله أن يكونَ في الكلام صفة للنكرة»(7).

وأما النصب فإما على الحال، وإما على الاستثناء. فالحال يكون من الضمير «عليهم» أو من «الذين» إذ لفظهما لفظ المعرفة، والتقدير: صراط الذين أنعمْت عليهم لا مغْضوبا عليهم. أو يكون على إضمار فعل، فيكون التقدير: أعني غيرَ المغضوب عليهم. وأووقد يُخرَّجُ النصب على الاستثناء المُنقطع، ومنعه بعضهم بقرينة «لا» التي بعدها، فإنها لا تكون إلا بعدَ نفي، كقولك: ما جاءني رجل ولا امرأة. و«لا» في الآية لم يتقدمها هذا النفي، فامتنع عندهم لهذه العلّة.

المغضوب:

مجرور على الإضافة، وهو اسم مفعول من «غضب»، والتعريف فيه للعهد. ولم يقل: صراط الذين أنعمتَ عليهم غير الذين غضبتَ عيهم.

عليهم:

الضمير في محل رفع نائب فاعل لـ«المغضوب».

ولا الضالّين:

معطوف على قوله: غير المغضوب، وهو جمع ضالّ، للذي على غير الطريق المستقيم. و«لا» زائدة لتوكيد النفي الذي قبلها.

* ممّا يُستفاد من الآية:

في الآية لطيفة بلاغية، وهي التفسير بعد الإبهام، فقوله: الصراط المستقيم، تبعَه تفسيرُه بعد ذلك مباشرة، فقال: صراط الذين أنعمت عليهم، فكان كالبيَان له، فكأنه واقع موقعَ سؤال مضمر: صراطَ مَن؟ فأُجِيبَ هذا السائلُ بذلك.

وفي الآية لَطيفة بلاغية أخرى وردت في بعض الآيات، كالآية الكريمة:”وَأَنَّا لَا نَدۡرِيٓ أَشَرٌّ ‌أُرِيدَ ‌بِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدٗا” [الجن: 10]، لم يقولوا: أشرٌّ أراد بهم ربُّهم، وكقول إبراهيم عليه السلام:”ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهۡدِينِ، وَٱلَّذِي هُوَ يُطۡعِمُنِي وَيَسۡقِينِ، وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ ‌يَشۡفِينِ، وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحۡيِينِ، وَٱلَّذِيٓ أَطۡمَعُ أَن يَغۡفِرَ لِي خَطِيٓـَٔتِي يَوۡمَ ٱلدِّينِ” [الشعراء: 80] فنسب المرض لنفسه تأدبا مع الله سبحانه وتعالى، وغيرها من الآيات، وهي نسبة الخير إلى الله تعالى دون الشر تأدبا معه سبحانه، فقد قال: المغضوب عليهم، ولم يقل: الذين غضبت عليهم، كما قال: أنعمت عليهم، فلم ينسب الغضب إليه، لأن الغضب حالة تطرأ على الإنسان فيتغير لها قلبه، قال ابن عادل في الغضب: «فإن أوله غليان دم القلب، وغايته: إرادة ‌إيصال ‌الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يُحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار»(8).

ويُستفاد من الآية أيضا أن الحقّ واحد، والباطل يتعدد، وفيه إشارة إلى آيات أخرى جاء فيها ذكر النور مفردا دلالة على أن الحق واحد لا يختلف ولا يتعدد، مع ذكر الظلمات بلفظ الجمع دلالةً على أن طرق الباطل كثيرة مختلفة، ومن ذلك قوله تعالى:”الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ‌ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ” [إبراهيم: 1].

وفي نسبة الإنعام إليه سبحانه في قوله: صراط الذين أنعمت عليهم، إشارةٌ إلى أن النِّعَمَ كلها من الله تعالى وحده، قال عزّ وجلّ:”وَمَا بِكُم مِّن ‌نِّعۡمَةٖ ‌فَمِنَ ٱللَّهِۖ” [النحل: 53].

* القول في «آمين»:

الأصل أنها ليست من القرآن، ولكن ورد الحديثُ في فضلِ قولها بعد الفاتحة في الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمَّن القارئ فأمِّنوا، فإن الملائكة تُؤَمِّن، فمن وافق ‌تأمينُه ‌تأمينَ الملائكة، غُفر له ما تقدم من ذنبه»(9).

و«آمين»، اسم فعل بمعنى: اللهم استجب، تُبنى على الفتح، وفيها لغتان: المدُّ والقصر، والأشهر فيها المدّ، قال(10):

يَا رَبِّ لَا تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدًا ///  وَيَرْحَمُ اللهُ عَبْدًا قَالَ: آمِينَا

وأما القصر فقد ورد فيه شاهد من قوله(11):

تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحُلٌ إِذْ رَأَيْتُهُ /// أَمِينَ فَزَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا

وقيل: هو من ضرورة الشعر.

وخطَّأ ثعلبٌ في الفصيح تشديدَ الميم فيه(12)، فلا يُقال عنده: آمِّين، وكذلك خطّأه الأنباري(13)، مع أن بعضهم نقل أنها لغة، ولعلّها شاذة لا تُستعمل ولم يأت عليها شاهد من كلام العرب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) اللباب (1/210).

(2) من شواهد النحاة، ويُنسب إلى رؤبة بن العجاج كما في ديوانه (ص: 172)، وإلى ليلى الأخيلية كما في ديوانها (ص: 61)، وإلى أبي حرب بن الأعلم أحد بني عقيل كما في نوادر أبي زيد (ص: 239).

(3) من شواهد سيبويه (1/187)، والمقتضب (4/146)، ونُسب فيهما إلى أشهب بن رميلة.

(4) من شواهد سيبويه (1/186)، وانظر ديوان الأخطل (ص: 246).

(5) اللباب (1/211).

(6) صحاح الجوهري (نعم).

(7) معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/53).

(8) اللباب (1/225).

(9) صحيح البخاري (8/85).

(10) بغير نسبة في إصلاح المنطق (ص: 179)، وتهذيب اللغة (أمن)، والصحاح (أمن)، ونُسب إلى عمر بن أبي ربيعة في اللسان (أمن)، والأشهر أنه لمجنون ليلى، وهو في ديوانه مع بيتين آخرين (ص: 219)

(11) بغير نسبة في تهذيب اللغة (أمن)، والصحاح (أمن) و(فطحل)، واللسان (أمن). وفطحل: يُروى بالضم والفتح، قال الجوهري: وفطحل بفتح الفاء: اسم رجل.

(12) انظر فصيح ثعلب (ص: 316).

(13) الأضداد لابن الأنباري (ص: 63).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع والمصادر:

– إصلاح المنطق، لابن السكيت، تحقيق أحمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف.

– الأضداد، لأبي بكر ابن الأنباري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية.

– تاج اللغة وصحاح العربية (الصحاح)، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين.

– تهذيب اللغة، لأبي منصور الأزهري، تحقيق جماعة من المحققين، نشر مكتبة الخانجي.

– ديوان الأخطل، شرح مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية.

– ديوان رؤبة بن العجاج (ضمن مجموع أشعار العرب)، تحقيق وليم بن الورد البروسي، دار ابن قتيبة.

– ديوان ليلى الأخيلية، تحقيق خليل إبراهيم العطية وجليل العطية، وزارة الثقافة والإرشاد.

– ديوان مجنون ليلى، تحقيق عبد الستار أحمد فراج، دار مصر للطباعة.

– صحيح البخاري، لأبي عبد الله البخاري، تحقيق جماعة، طبعة السلطانية، تصوير دار طوق النجاة بعناية محمد زهير الناصر.

– الفصيح، لأبي العباس ثعلب، تحقيق عاطف مدكور، دار المعارف.

– الكتاب، لسيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي.

– كتاب النوادر في اللغة، لأبي زيد الأنصاري، تحقيق محمد عبد القادر أحمد، دار الشروق.

– اللباب في علوم الكتاب، لابن عادل الحنبلي الدمشقي، تحقيق جماعة من المحققين، دار الكتب العلمية.

– لسان العرب، لابن منظور، دار صادر.

– معاني القرآن وإعرابه، لأبي إسحاق الزجاج، تحقيق عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب.

– المقتضب، لأبي العباس المبرّد، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق