مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته في تفسير ابن عادل الحنبلي -اللباب في علوم الكتاب- الحلقة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على حُسن عونه وجميل توفيقِه، والصلاة والسلام على محمد خير الأنام وإمام الأعلام، وعلى آله وصَحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعدُ:

فنجعل هذا الكلام الذي نحن فيه عن قوله تعالى في البسملة: {الرَّحْمن الرَّحِيم}، قال ابن عادل في «اللُّباب»: «{الرَّحْمن الرَّحِيم}، صفتان مشتقتان من الرحمة»(1).

وتحت هذين اللفظين مباحثُ نعرض لها فيما يأتي:

قال ابن عاشور في تفسيره: «واسم الرحمة موضوع في اللغة العربية لرِقَّة الخاطر وانعطافه نحوَ حَيٍّ، بحيث تَحْمِلُ مَنِ اتّصفَ بها على الرِّفق بالمرحوم والإحسان إليه ودفع الضر عنه وإعانتِه على المَشَاقّ»(2).

وقد دلّ قولُ ابن عادل بأن اللفظتين صفتان مشتقتان من الرحمة، فمادتهما تكون من المعاجم عند رسمِ «رحم»، ونظيرهما في اللغة كما نقلوا: نَديم ونَدمان، بناءً على أنه يجوز تكرير اللفظين على جهة التوكيد، كما يقال: فلان جَادٌّ مُجِدٌّ. فالرحمن صفة مختصة به سبحانه لا يشركه فيها سواه، والرحيم قد يوصف بها غيره(3)، ومنه قوله تعالى في حَقِّ نبيه صلى الله عليه وسلم: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 129].

وهما في ذلك قريبتان من لفظتي: «الله» و«الإله»، فالله خاصة به سبحانه وتعالى دون سواه، والإله يُطلق على غيره عند إضافته، وقيل إنه خاص به أيضا من جهةِ كونه اسما للمعبود بحق، وهو سبحانه وتعالى المعبود بحق، ولا شيء غيره كذلك بحال من الأحوال.

ثم ذكر ابن عادل أنه قد نُقل في الرحمن أنه مُعرّب وليس بِعَرَبِيِّ الأصلِ، وأنه بالخاء المعجمة: رخمان، وأنشدوا فيه قولَ جرير(4):

أَوْ تَتْرُكُونَ إِلَى الْقَسَّيْنِ هِجْرَتَكُمْ /// وَمَسْحَكُمْ صُلْبَهُمْ ‌رَخْمَانَ قُرْبَانَا

وهذا من النادر، ولكنه قد يُخرّج إذا نظرنا إلى أصل اشتقاقه على وجه آخر، فمادته من المعاجم «رخم»، قال في اللسان: «والرخمة أيضا: قريب من الرحمة؛ يقال: وقعت عليه رخمته، أي: محبته ولِينه. ويُقال: رخمان ورحمان»(5)، ثم أنشد بيت جرير شاهدا على الرخمة بالخاء المعجمة، فكأن الحاء والخاء عندهم تتعاقبان في هذا المعنى. وفي التاج أيضا ما يؤكد ذلك، قال الزبيدي: «ويقال: رخمان ورحمان بمعنى واحد، وبه رُوي قول جرير»(6)، ثم أنشد بيت جرير أيضا.

وجعلوه معرّبا عن العبرانية كما نُقل عن المبرّد، وقد علّل الطاهر ابن عاشور ذهابَ المُبرّد إلى أنه عبراني بأن العرب لم تكن تعرفه، لذلك قالوا كما حكاه القرآن الكريم عنهم: { وَمَا الرَّحْمَنُ}[الفرقان: 60](7). وقد رُدّ هذا القول بأنهم إنما جَهِلوا الصفة دون الموصوف، لذلك لم يقولوا: ومَنِ الرحمان.

أما من حيث الوزن، فقد جاء هنا «فعيل» بمعنى «فاعل»، أي: راحم، وهو الأكثر فيه. وقد يجيء بمعنى «مفعول»، وإن كان قليلا، قال الشاعر(8):

فَأَمَّا إِذَا عَضَّتْ بِكَ الْحَرْبُ عَضَّةً /// فَإِنَّكَ مَعْطُوفٌ عَلَيْكَ رَحِيمُ

وأما من حيث الصيغة الدلالية للكلمتين، فالرحمن فَعلان، والرحيم فَعيل، وفَعلان من أوزان المبالغة، تدل على الامتلاء والغلَبة، وفعيل تدل على التكرار والوقوع بمَحَالِّ الرحمة، ومن هذا ذهبوا إلى الفرق بينهما، فقيل: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، وعللوا ذلك بأن رحمته تعالى في الدنيا تعم المؤمنين والكافرين، ورحمته في الآخرة تخصُّ المؤمنين فقط، وقيل عكس ذلك أيضا(9).

ثم القولُ في تعريف الرحمن بالألف واللام، هل هو لازم التعريف أم يُنكّر؟ والصحيح أنه لا يَرِدُ إلا مُعَرَّفا أو مُضافا لِما بعده، فأما تعريفه فكما في البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، وأما إضافته لِما بعده فكما في قولهم: رحمنُ الدنيا، أو رحمن الدنيا والآخرة.

قال ابن عادل: «ولا يُلتفت لقوله: لا زلتَ رحمانا، لشُذوذه»(10). يُريد قولَ الشاعر يمدح مُسَيلمة الكذّاب، وقد كان يُقال له: رحمن اليَمامة، فقال(11):

سَمَوْتَ بِالْمَجْدِ يَا بْنَ الْأَكْرَمِينَ أَبًا /// وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا

فذكره مُنكَّرا على الشذوذ الذي لا يُقاس عليه، وهذا مما منعه الجمهور.

* سورة الفاتحة:

وتحتها ذكرُ ما يتعلق بها من مباحث اللغة، وأول ذلك الكلامُ عن لفظة «الحمد» التي بها كان ابتداءُ هذه السورة الجليلة في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين} [الفاتحة: 1]. وقد عرّف ابن عادل الحمدَ بأنه الثناء على الجميل، سواء كانت نعمةً مبتدأةً إلى أحد أم لا.

ثم ذكرَ الفرق بين الحمد والمدح والشكر، والحقّ أن بينها فُرُوقًا كثيرةً تحدّث عنها أصحاب اللغة أيضا، نُجملها فيما يأتي مع تلخيص ما ذكره ابن عادل:

أما الحمد فيكون باللسان دون الجوارح، ويكون فيما اختاره الإنسان، كصفاته التي اكتسبها مثل الشجاعة والجود، ولا يكون فيما لا اختيار له فيه، كطوله وصَبَاحَة وجهه. ثم إنه يكون في النِّعَم مُطلقا، سواء كانت هذه النعم مُسداةً إليك أو إلى غيرك، ولا يكون الحمدُ إلا للحيّ.

وأما الشكر، فإنه يكون باللسان والقلب والجوارح، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}[سبأ:13]، ولا يكون إلا على نعمة مُسداةٍ إليك خاصة لا إلى غيرك.

ثم يأتي المدح، وهو يخالف الحمد في أمور، منها:

– أن المدح يكون للحي ولغيره، بخلاف الحمد، فإنه لا يكون إلا للحي.

– أن المدح يحصل قبل الإحسان وبعده، والحمد لا يكون إلّا بعد الإحسان.

– أن المدح قد يكون منهيا عنه إذا لم يُرد به الخير، بخلاف الحمد، فإنه يكون أبدا مطلوبا.

– أن المدح أعم من الحمد، فالمدح يقع على جميع الفضائل، والحمد يقع على فضيلة واحدة، وهي فضيلة الإنعام.

 ثم يأتي بعد ذلك الشكرُ، وهو أخص منهما في معناه(12).

والحمد، وقع مبتدأ في أول السورة، خبره محذوف لكونه كَوْنا عامًّا تقديره: كائن أو مستقر، وما كان كذلك لا يجوز عندهم إظهارُه، وقد وقع في الشعر شاذا عند قوله(13):

لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلَاكَ عَزَّ وَإِنْ يَهُنْ /// فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كَائِنُ

ولك أن تقدّر الخبر فعلا كما ذهب إليه بعضهم، وقد تقدم الكلام في ذلك عند الحديث عن البسملة.

والألف واللام فيه ذكروا لها ثلاثة أقوال: للجنس، والعهد، والاستغراق(14). والراجح أنها للاستغراق، أي: جميعُ المحامد ثابت لله جلّ وعلا(15).

أما اللام في قوله تعالى: لله، فذكر ابن عادل أنه بمعنى الاستحقاق، وتقدير الكلام حينئذ: الحمد مستحق لله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) اللُّباب (1/145).

(2) انظر تفسير التحرير والتنوير (1/169).

(3) انظر الصحاح للجوهري (رحم)، وعنه نقله في اللسان (رحم).

(4) انظر اللباب (1/150)، وديوان جرير (ص:167) برواية: هل تترُكُنَّ…

(5) لسان العرب (رخم).

(6) تاج العروس (رخم).

(7) تفسير التحرير والتنوير (1/169)، وفيه زيادة تفصيل.

(8) البيت لعُمارة بن عقيل كما في ديوانه (ص:102)، وشرح الحماسة للمرزوقي (ص:1433).

(9) انظر اللباب (1/148-149).

(10) اللُّباب (1/150).

(11) لرجل من بني حنيفة لم يُعيِّنوه، يذكره أصحاب التفاسير عند عرضهم للفظة «الرحمن».

(12) تجد تفصيل ذلك في المعاجم عند مادة (حمد)، و(شكر)، و(مدح)، وكذلك في كتب اللغة وكتب الفُروق .

(13) اللباب (1/171)، وهو من شواهد مغني اللبيب (ص:582)، وابن عقيل (1/211)، وغيرها من كتب النحو، يذكرونها شاهدا على شذوذ إظهار متعلَّق الخبر إن كان كونًا عاما.

(14) انظر شرح نخبة الفكر للقاري (ص:124).

(15) أضواء البيان للشنقيطي (6/693).

المراجع والمصادر:

– أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين الشنقيطي، دار عطاءات العلم ودار ابن حزم.

– تاج اللغة وصحاح العربية (الصحاح)، لأبي نصر الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين.

– تاج العروس، من جواهر القاموس، لمرتضى الزبيدي، طبعة الكويت.

– التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للنشر.

– ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب، تحقيق نعمان محمد أمين طه، دار المعارف.

– ديوان عمارة بن عقيل، تحقيق شاكر العاشور.

– شرح حماية أبي تمام، للمرزوقي، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل.

– شرح ابن عقيق على ألفية ابن مالك، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار التراث.

– شرح نخبة الفكر، للملا علي القاري، تحقيق محمد نزار تميم وهيثم نزار تميم، دار الأرقم.

– اللباب في علوم الكتاب، لابن عادل الحنبلي الدمشقي، تحقيق جماعة من المحققين، دار الكتب العلمية.

– لسان العرب، لابن منظر، ط:3، دار صادر.

– مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام الأنصاري، تحقيق مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار الفكر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق