مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

“لغة القرآن الكريم وبلاغته في تفسير ابن عادل الحنبلي ” الحلقة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعدُ:

فهذا كلامٌ به يكون استئنافُ ما بدأناه من الحديث عن لغة القرآن الكريم ووجوه إعجازه مما ورد في تفسير ابن عادل الحنبلي المُسمى «اللُّباب في علوم الكتاب». وقد سيق الكلام فيما سبق عن بعض ما يتعلق بالاستعاذة من مباحث لغوية، وههنا نعرض لِما يتعلق بالبسملة على نحوٍ مما سبق في الاستعاذة.

* البَسملة:

 وهي في القراءة قولُ: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا يخفى أنها مما نُحت تركيبُه في العربية، ومثلها الحوقلة والحمدلة وغير ذلك، أي قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله. وباب النحتِ مستعمل عند العرب، قال(1):

لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلَى غَدَاةَ لَقِيتُهَا /// أَلَا حَبَّذَا ذَاكَ الْحَبِيبُ الْمُبَسْمِلُ

أما ههنا فنعرض للباء وما به يكون تعلُّقها، وأي حكم يترتب عن ذلك:

نقل الرازي في تفسيره: «قيل: كل العلوم مندرج في الكتب الأربعة، وعلومها في القرآن، وعلوم القرآن في الفاتحة، وعلوم الفاتحة في (بسم الله الرحمن الرحيم)، وعلومها في الباء مِنْ بِسْمِ الله»(2).

وشأن هذه الباء قد ترتّبت عنه أحوالٌ في تقدير مُتَعَلَّقِها المحذوف، وهذا المحذوف لا يخلو أن يكون إما اسما أو فعلا، ولا يخلو أن يكون إما متقدما أو متأخرا، وبيانه كما ذكره ابن عادل في اللباب:

– أما إذا كان متقدما، وكان فعلا؛ فكقولك: أبدأ بِبِسم الله.

– وإن كان متقدما، وكان اسما؛ فكقولك: ابتدائي بِبِسم الله.

– وإن كان متأخرا، وكان فعلا؛ فكقولك: بسم الله أبدأ.

– وإن كان متأخرا، وكان اسما؛ فكقولك: بسم الله ابتدائي.

وفي ذلك خلاف عن البصريين والكوفيين، فالبصريون يَرَوْنَ أن المحذوف اسم مقدم، والتقدير عندهم: ابتدائي بسم الله، فيكون تعلق الباء بالكون والاستقرار تعلقا عاما لا يُذكر كما قرره النحاة، فموضعُ المجرور عندهم رفعٌ على الابتداء، دلّ عليه بقاءُ أحد جُزْأَيِ الإسناد، وهو الخبر. أما الكوفيون فجعلوا المحذوف فعلا، والتقدير على قولهم: أبدأُ بسم الله. والباء للاستعانة، كقولك: كتبت بالقلم(3).

قال ابن عطية في المحرر الوجيز: «والباء في: بسم الله، متعلقة عند نحاة البصرة باسم، تقديره: ابتداء مستقر أو ثابت بسم الله، وعند نحاة الكوفة بفعل، تقديره: ابتدأت بسم الله. فبسم الله في موضع رفع على مذهب البصريين، وفي موضع نصب على مذهب الكوفيين»(4).

أما على تقدير الاسم، ففي ذلك قولُه تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فيهَا بِسْمِ اللَّه مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[هود: 41]، وأما على تقدير الفعل، ففيه قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق }[العلق: 1].

وقد أفاد صاحب «معارج التفكر» أن التقدير يكون من لفظِ ما يُراد له قولُنا: بسم الله، مثل القراءة والقيام والقعود وغير ذلك، قال: «ويختلف تقدير هذا العامل باختلاف حال الناطق بالبسملة، فإن كانت حالُه حالَ قراءة أو تلاوة قدَّرَ العامل من أحدهما، وإن كانت عملا ما كقيام أو قعود أو سير أو طعام أو نوم أو أي أمر آخر ذي بالٍ قَدَّرَ العامل مما يُناسب العمل الذي يُريد عمله، وهو يشمل كل عمل فكري أو قلبي أو لساني أو بدني»(5).

وهذا نظر حسن جدا يُخرجنا من خلاف تقدير العامل الذي بين البصريين والكوفيين، فكل ما نويت عمله قدّرت العامل من لفظه. وقد جعل صاحبُ الكتاب هذا العاملَ على أربعة أوجه إن أُريدت التلاوة على ما تقدم ذكره في تقدير الفعل والاسم والتقديم والتأخير. كما أنه اختار أن يُقَدَّرَ العاملُ فعلا متأخرا، وذلك من جهة النظر البلاغي، إذ تقديره على هذا الوجه يُفيد الحصر عند البلاغيين.

قلت: وفي ذلك ربطٌ بينه وبين قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين}[الفاتحة:5]، لِمَا عُلم أن الآية تُفيد الحصر أيضا.

فصل:

فإن قلتَ: قد تقرر عندي هذا الذي مرّ معنا من الخلاف في تقدير المحذوف، فإن كان ذلك كذلك، فأي القولين نرجّح حينئذ؟

قلتُ: الأصل في العمل للفعل كما في تقدير الكوفيين، وهو ما يدل عليه تواتر النصوص بالحث على القراءة والاستكثار منها، ومنه أنَّ أولَ ما نزل من القرآن نزل بالأمر بالقراءة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق }، وهو متعيّن إذا نظرنا إلى قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم}[النحل:98]. وإمَّا أن يكون الترجيح للاسم لبقاء أحد جزأي الإسناد كما تقدّم، وهو ما ذهب إليه البصريون(6).

على أن الزمخشري جعل تقدير المحذوف: بسم الله أقرأ أو أتلو، واعتلّ له بأن الذي يتلو التسمية مقروء(7)، وهذا وارد أيضا.

فائدة:

وهي في ذكر الاسم بعد الباء، مع أن المعنى منصرفٌ إلى لفظ الجلالة «الله»، أي: بِاللهِ، وفي تعليل ذكره عندهم وجهان: أنه ذُكر للتبرك به، والثاني: للفرق بينه وبين القَسَم، فإنه إذا قيل: بالله، لم يُعلم أَقَسَمٌ هو أم غيرُ ذلك، فَجِيءَ بلفظ الاسم لإشعار السامع معنًى غيرَ القَسَم(8).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة (ص: 490)، وهو بفتح ميم المُبسمل هناك، وأشار في الحاشية إلى أنه بكسرها في كتب التفسير.

(2) مفاتيح الغيب (1/98).

(3) البحر المحيط (1/29)، وانظر كذلك كتب التفسير عند حديثهم عن البسملة.

(4) المحرر الوجيز (1/61).

(5) معارج التفكر ودقائق التدبر (1/18).

(6) انظر البحر المحيط لأبي حيان (1/29).

(7) الكشاف (1/2).

(8) انظر تفسير القشيري (1/44).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع والمصادر:

– البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي، تحقيق صدقي محمد جميل، دار الفكر.

– شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة.

– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، لجار الله الزمخشري، دارا لكتاب العربي.

– لطائف الإشارات، للإمام القشيري، تحقيق إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

– المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية.

– معارج التفكر ودقائق التدبر، لعبد الرحمن حسن حبنّكة الميداني، دار القلم.

– مفاتيح الغيب، للإمام فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق