مركز الدراسات القرآنيةغير مصنف

لسانيات الخطاب القرآني: مظاهر الاتساق والانسجام

 

          الأستاذة الدكتورة خديجة إيكر
أستاذة اللسانيات و النحو و الصرف، بكلية الآداب و العلوم الإنسانية،
جامعة شعيب الدكالي، الجديدة- المملكة المغربية

 

ناقشت الدكتورة خديجة إيكر، يوم الإثنين 11 جمادى الأولى 1428 ه الموافق لـ 28 ماي 2007م، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة شعيب الدكالي، الجديدة المغرب، أطروحتها الجامعية لنيل دكتوراة الدولة في موضوع: ” لسانيات الخطاب القرآني: مظاهر الاتساق والانسجام”، أمام لجنة علمية مكونة من السادة الدكاترة؛ الدكتور التهامي الراجي الهاشمي ـ أستاذ كرسي علوم القرآن والدرس اللساني بكلية الآداب، جامعة محمد الخامس بالرباط ـ: رئيسا، الدكتور إدريس نقوري: أستاذ باحث بكلية الآداب عين الشق، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء : مشرفا ومقررا، الدكتور عبد الله الجهاد: أستاذ باحث بكلية الآداب عين الشق، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء: عضوا، الدكتور إبراهيم عقيلي: رئيس شعبة الدراسات الإسلامية، كلية الآداب، جامعة شعيب الدكالي، الجديدة: عضوا، الدكتور عبد الهادي دحاني: أستاذ باحث، كلية الآداب، جامعة شعيب الدكالي، الجديدة: عضوا، وقد نالت الدكتورة خديجة إيكر درجة دكتوراة الدولة بميزة حسن جدا.

وفي ما يلي التقرير الذي  قدمته الأستاذة الدكتورة خديجة إيكر في مستهل دفاعها عن أطروحتها لنيل دكتوراه الدولة في الآداب، الدراسات الإسلامية، تخصص علوم القرآن والتفسير:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) سورة البقرة، الآية: 31.

تنتظم القرآن الكريم وحدة نسقية يتطلب الكشف عنها البحث في الأبعاد القرآنية التالية:

1. البعد المعرفي: ويتضمن المبادئ العقدية التي تشكل مرجعية الإنسان المسلم في الوجود، فتحدد علاقته بالله تعالى، وبأخيه الإنسان وبالكون من حوله، كما يتضمن العبادات والمعاملات، والأخلاق والسلوك.

2. البعد اللغوي: إن القرآن الكريم عمل على صياغة مبادئه وتعاليمه الربانية صياغة لغوية عربية ، وقد نص على ذلك أحد عشر مرة في القرآن الكريم .

وانطلاقا من هذين البعدين يمكننا القول أن القرآن الكريم عربي اللسان ، عالمي الثقافة انطلاقا من قوله تعالى: (بلسان عربي مبين).

3. البعد التواصلي: عمل القرآن الكريم على ابتكار أساليب تواصلية فعالة ، حيث نجده ينوع هذه الأساليب بحسب المقام والسياق، مما يجعله يتجاوب مع النفس البشرية في أبعادها المختلفة والمتنوعة ، فمرة يخاطب فيه العقل، ويرشده إلى إعمال الفكر والنظر، والتفكر في الخلق، واستنباط السنن الكونية، ومرة يخاطب فيه الروح بأشواقها وتطلعاتها ، وآمالها وآلامها . ومرة يرشده إلى الاستدلال المنطقي، و مرة يفتح عينيه على البديهيات. ويستعمل أسلوب الترغيب والترهيب، والقصة والمثل. مما جعل من القرآن الكريم منظومة تواصلية بالغة التأثير في المتلقي .

4. البعد الجمالي: لقد صيغ البناء المعرفي القرآني صياغة لغوية توفرت لها مقومات الجمال، وذلك بمراعاة القرآن الكريم التناسب بين أبعاده الأربعة بحيث لا يطغى بعضها على بعض، وإنما جعل بعضها يكمل الآخر، إنه البناء القرآني المتميز بالجلال والجمال.

عند قراءتنا القرآن الكريم قراءة تدبر تستعمل الأدوات اللسانية الحديثة ، نفاجأ بهذه الأبعاد القرآنية السالفة الذكر تحملني على الدراسة والبحث بغية اكتشاف أسرارها حيث يكمن جزء كبير من الإعجاز القرآني، خاصة عندما يصبح الأمر متصلا بالبيان وإقامة الحجة والتدافع الحضاري، بعد أن تعالت أصوات هنا وهناك داعية لقراءة القرآن الكريم قراءة حرة مطلقة ، ونادى آخرون بدمقرطة التفسير و أنه حق لكل إنسان، وظهرت قراءات جديدة للقرآن الكريم تتدثر في الغالب بمناهج لسانية، وسوسيولوجية، وتاريخية، وإنتروبولوجية، أدت إلى تحريف المعاني القرآنية، وإخراج النصوص عما هو مجمع عليه، فضلا عن تناقضها مع الحقائق الشرعية، وتعارضها مع مقاصد الشريعة الإسلامية، ومرد ذلك لعدم احترامها لخصوصيات القرآن الكريم، ومعاملته كسائر النصوص البشرية.

وليس معنى ذلك أننا نريد حجب هذه المناهج عن مقاربة الخطاب القرآني، بقدر ما نريد بيان حقيقة أساسية تتعلق بالقراءة الإيجابية للقرآن الكريم، وهي القراءة المقاصدية، التي تحفظ للقرآن الكريم خصوصياته، وتحقق مقاصده، ككتاب هداية، يبين للناس ما يحقق صلاحهم في الحال والفلاح في المآل.

إن كل منهج من المناهج المذكورة آنفا ـ متى احترم خصوصيات القرآن الكريم ـ يمكننا من الوقوف على مراد الله تعالى من الخطاب القرآني بحسب القدرة البشرية ، حيث سينتهي بنا إلى قراءة ثلاثية الأبعاد:

أ‌. التلاوة .
ب‌. التدبر .
ت‌. التطبيق .

مما سبق يتبين لنا ضرورة البحث في لسانيات القرآن الكريم و مظاهر اتساقه وانسجامه، في محاولة جادة لنبرز للعالمين أن القرآن الكريم خلاف ما يوحي به ظاهره للبعض بأنه مفكك لا تنتظمه أية وحدة، وأنه عبارة عن تعاليم و طقوس لا وجود لخيط ناظم يجمع بينها إن القرآن على العكس من ذلك تنتظمه وحدة من نوع خاص تمثل فرادته وإعجازه، إنها الوحدة النسقية.

إن عدم استحضار المقصد من قراءة القرآن الكريم يوقعنا في خطأ اعتبار القراءات المقترحـة ـ والتي لا تأخذ بخصوصيات القرآن الكريم ، ولا تعتد بقواعد وأصول التفسير ـ قراءات علمية، والنظر إلى القراءة المقاصدية التي اعتمدها جل المفسرين من أهل السنة والجماعة على أنها قراءة غير علمية وغير موضوعية، مما يعتبر في نظرنا قلبا للحقائق، وتسويغا لمشاريع أيديولوجية بركوب موجة تعدد القراءات.

والواقع إن القراءة العلمية الرصينة، المتبنية لمناهج تحليل الخطاب، والمعتمدة للقراءة المقاصدية، القائمة على احترام خصوصيات القرآن الكريم، واعتماد قواعد التفسير وأصوله، من شأنها أن تبرز تميز القرآن الكريم وفرادته، فهو كلام الله المعجز، الخارج عن معهود كتابات البشر، والذي لا يخضع لمعهود الوحدة التي يتعارف عليها البشر في الكتابة و التأليف، ومن ثم فإنه يتفرد بوحدة خاصة تتمثل في وحدة الأهداف والمقاصد، من حيث البناء الدلالي والمفاهيـــــــمي ( الانسجام)، ومن حيث بناؤه التركيبي فإنه يتماسك بدمج الأدوات التركيبية مع الأساليب الفنية( الاتساق ) هذه الخاصية التعبيرية و التواصلية و الجمالية التي يمتاز بها القرآن الكريم تجعل الإنسان في حيرة من أمره، إذ إنها ألغت ما تعارفنا عليه في عالم المعرفة اللسانية، ومناهج تحليل الخطاب من تفريق بين المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية، والدلالية والأسلوبية والتداولية، ليتم تـماسك النص / الخطاب القرآني على غير معهود البشر، وبطريقة مضمرة لا يمكن الكشف عنها إلا بعد إعمال العقل و النظر، وذلك سيرا على المنهج القرآني في التربية العلمية والفكرية .

إن ما نروم الكشف عنه في هذه الأطروحة هو الكيفية التي تم بها إبراز ذلكم الجهاز المفاهيمي المتمثل في العقيدة والشريعة، والأخلاق والسلوك، والمبادئ والقيم عبر قناة اللغة / النص / الخطاب، وما هي العلاقة القائمة بين هذه المضامين والأشكال اللغوية والتعبيرية التي حملتها إلى العالمين، و بمعنى آخر هل كلما انتقلنا من تصور أو مفهوم إلى تصور آخر كلما تغيرت معه اللغة / الأداة ؟ و نقصد باللغة هنا جميع مستوياتها بدءا بالمستوى الصوتي ، و مرورا بالمستوى التركيبي والجمالي / الأسلوبي، وانتهاء بالمستوى الدلالي و التداولي .

إن هذه التساؤلات كلها تولد سؤالا مركزيا هو محور هذه الأطروحة ألا و هو كيف يتم تحقيق التوازن بين مكونات النص / الخطاب القرآني و المخاطبين به ؟ ثم كيف يتماسك النص، وكيف يحدث فيه الانسجام والاتساق؟

إن الخطاب القرآني باعتباره نصا / خطابا لغويا يهدف إلى مخاطبة كل الناس ، وحامل الخطاب هو الرسول الكريم، وهكذا فإن مرسل الخطاب هو الله، والمرسل إليهم هم الناس جميعا ، والرسالة هي القرآن الكريم، وأخيرا فإن الأداة التي صيغ بها الخطاب هي اللغة العربية ، أما القناة التي مر عبرها الخطاب إلى العالمين فهو الرسول.

و يُطرح إشكال تبعا لما ذكرناه يتمثل في أن الرسالة لكي تكون قد وصلت فعلا إلى المرسل إليهم يتعين أن يقفوا على مضمونها ، و أن يعرفوا محتواها معرفة تامة . و ما لم يتم ذلك فإن المرسل إليهم يكونون في حكم من لم يتوصل بالرسالة، وهنا يواجهنا مشكل النص / الخطاب القرآني وكونه أعلن بأنه ميسر مفسر لا يحتاج إلى بيان، يقول تعالى :وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ

إذن لماذا نجد تراثا تفسيريا هائلا، وهل هناك تناقض بين النص / الخطاب القرآني والواقع ؟.

إن القرآن ميسر لا يحتاج إلى وسائط بينه وبين متلقيه من حيث التفاعل الوجداني، أما من حيث استنباط الأحكام النظرية والعملية، واستخلاص المفاهيم والتصورات، و المبادئ والقيم فإنه يحتاج إلى تدبر وتفكر وتأمل. والتدبر هو الفهم الذي يسهل التواصل بين المرسل و المرسل إليه، وهو الأداة التي تمكن من استخلاص الجهاز المفاهيمي الذي يكون مقومات الذات، و يثبت الهوية ، و يقيم الحضارة .

ورغم وجود دراسات وأبحاث تتعلق بالتناسب وتقارب بشكل أو بآخر قضية لسانيات الخطاب القرآني بصفة عامة، فقد ظلت الحاجة ملحة لدراسة تحيط بمكونات النص / الخطاب القرآني، و تبرز العلاقات التي تربط بينها سواء على المستوى التركيبي أم الدلالي أم الأسلوبي الجمالي، ولا تغفل دراسة الجانب التداولي الذي يشكل هو الآخر عاملا هاما من عوامل تماسك النص / الخطاب القرآني .

إن الرغبة في إنجاز وتحقيق هذه الدراسة المتكاملة التي تستشرف مقاربة النص / الخطاب القرآني بأدوات منهجية حديثة مستقاة من اللسانيات ومناهج تحليل الخطاب ، مع مراعاة خصوصيات القرآن الكريم، ومحاولة استخلاص نظرية متكاملة في التفسير، هي التي دفعتني إلى اختيار هذا الموضوع لإعداد أطروحة الدولة ، فضلا عن الكشف عن مظاهر اتساق الخطاب القرآني و انسجامه مع تحديد المعالم الكبرى للسانيات تصلح لمقاربة الخطاب القرآني يجوز لنا أن نصطلح عليها بلسانيات الخطاب القرآني.

أما عن الصعوبات التي واجهتني في هذا البحث فيمكنني إجمالهافي ما يلي:

1-    اتساع مجال البحث ، و تشعب قـضـايـاه و دقـتـها.

2-    قلة المصادر و المراجع التي قاربت القرآن الكريم مقاربة لسانية بصفة عامة ، و مقاربته بلسانيات النص بصفة خاصة، مع التأصيل لهذه المقاربة.

المنهج المتبع في البحث: قبل تحديد الخطوط العامة لمنهج البحث الذي اتبعته في دراستي لموضوع أطروحتي، لا بد لي أن أبين أن هذا البحث يتبنى نظرية ” نحو النص ” أو ما يصطلح عليه ب” أنحاء النص” التي جاءت بديلا عن النحو الجملي الذي يعتبر الجملة أكبر وحدة لسانية يمكن دراستها . و معنى هذا أن البحث ينظر إلى النص / الخطاب القرآني كنص وخطاب متكامل لا يمكن استيعاب جزئية منه، و إدراك قضية من قضاياه الصوتية أو الصرفية أو التركيبية أو الدلاليـة أو الأسلوبية أو التداولية إلا في إطاره الشمولي الكلي . ذلك أنني أعتقد أن القرآن الكريم يشكل وحدة نسقية، وهذا ما ما حاولت الدراسة البرهنة عليه .

إن تطبيق نظرية نحو النص اقتضت مني التزود بمجموعة من الأدوات المعرفية حتى أتمكن من مقاربة النص / الخطاب القرآني من جهة الاتساق والانسجام، ومعنى ذلك أن البحث استفاد من تراثنا المرتبط بالقرآن، كعلوم القرآن، والتفسير، والدراسات الإعجازية، ومن الكتب النحوية والبلاغية، ومن نظرية النظم وعلم المناسبة بصفة خاصة . مع الاستفادة من الدراسات التي أنجزت من الناحية النظرية والتطبيقية في إطار ما يعرف بالنحو النسقي، الذي يحاول تمثل النص في نواحيه التركيبية والدلالية والتداولية .

و لتحقيق هذا العمل بهذه الطريقة الشمولية اتبع البحث ثلاث خطوات منهجية :

1- تبني المنهج الوصفي : و قد عملت من خلال ذلك على تحديد مكونات النص / الخطاب القرآني :
أ‌- الصوتية .
ب‌- الصرفية .
ت‌- التركيبية .
دون أن نتجاهل المستوى الدلالي، والمستوى الأسلوبي، والمستوى التداولي، وقد عملت على إدماجها في المستويات السابقة، علما أن اللغة عندما تعمل تكون كل هذه المستويات مندمجة ، وما نقوم به من تقسيمات إنما هو لدواع علمية صرفة .

كما عملت الدراسة على حصر مظاهر الانسجام والاتساق في النص القرآني، وتصنيفها إلى :
1- عناصر الانسجام الصوتية .
2- عناصر الانسجام الصرفية .
3- عناصر الانسجام التركيبية .
2- تبني المنهج التحليلي : حيث عملت على دراسة كل مكونات النص / الخطاب القرآني السالفة الذكر ، وكل عنصر من عناصر الانسجام دراسة تحليلية بهدف الكشف عن آليات الترابط النصي ووظائفه، مع تحديد أدوات الاتساق وكيفية اشتغالها .

3- الدراسة المقارنة: وأثناء هذه الخطوة المنهجية الثالثة حاولت دراسة المكونات السالفة الذكر دراسة مقارنة بهدف تحديد القيم الخلافية بينها، وقد عززت ذلك ببعض الرسوم البيانية .

– الخطة العامة للبحث: قسمت بحثي إلى:
مقدمة: وقد تناولت فيها دوافع اختيار البحث، والصعوبات التي واجهتني، مع عرض للأطروحة التي دافعت عنها، والمنهج الذي اتبعته في البحث والخطة العامة للبحث، وقد ذيلتها بشكر وتقدير .

الباب الأول: القرآن الكريم نظام معرفي ولغوي : ويتضمن فصلين :

الفصل الأول: القرآن الكريم نظام معرفي وقد درست فيه الأبعاد التالية : العقدي والتشريعي و الأخلاقي و العلمي و المنهجي .

أما الفصل الثاني فقد عنونته بـ: القرآن الكريم نظام لغوي وخصصته لدراسة مفهومي الخطاب والنص، كما عرضت فيه للغة القرآن الكريم وإشكالية تلقيه، وقد ذيلته ببيان للمقاربة اللغوية التي ننشد من خلالها دراسة الخطاب القرآني.

الباب الثاني عنوانه: المستوى الصوتي ويتضمن ثلاثة فصول هي:

الفصل الأول : الإظهار في القرآن الكريم وعرفت فيه الإظهار مع بيان موجباته ومظاهره ووظيفته في القرآن الكريم ، مع إفراد مبحث خاص لظاهرة الإظهار عند القراء السبعة .

أما الفصل الثاني فقد خصصته لدراسة الإدغام فقمت بتعريف الإدغام وبيان موانعه واهتمام العلماء به، مع التركيز على وظائفه اللغوية .

أما الفصل الثالث فقد عنونته ب : الانسجام والاتساق الصوتي في القرآن الكريم وقد تركز الاهتمام فيه على عناية القرآن الكريم بالمستوى الصوتي، ومظاهر الاتساق والانسجام الصوتي في القرآن الكريم، وآليات تحقق الإيقاع في الخطاب القرآني .

أما الباب الثالث فقد خصصته لدراسة المستوى الصرفي ، وقد قسمته إلى ثلاثة فصول :

الفصل الأول وعنوانه : صيغ الفعل ودلالاتها في القرآن الكريم وقد قمت فيه بتعريف الفعل مع دراسة الصيغ التالية :

1- صيغة فعَل في القرآن الكريم .
2- صيغة فعِل في القرآن الكريم .
3-    صيغة فعُل في القرآن الكريم .

أما الفصل الثاني فعنوانه دلالات الفعل الزمنية في القرآن الكريم وقد تم التركيز فيه على دراسة دلالات الدوام والأبدية و المستقبل والدلالة الأصلية .

أما الفصل الثالث فعنوانه : التأنيث والتذكير في القرآن الكريم وعرضت فيه بالدراسة والتحليل للتذكير والتأنيث في اللغة العربية. وموافقة القرآن الكريم في هذه الظاهرة للنموذج اللغوي العربي تارة وخرقه تارة أخرى وذلك بحسب السياق و المقام .

أما الباب الرابع و الأخير فقد عنوته ب: الاتساق التركيبي للخطاب القرآني، وقسمته لفصلين:

الفصل الأول وعنوانه : الصلة والاتساق التركيبي للخطاب القرآني، وقد خصصته لدراسة مظاهر جملة الصلة في القرآن الكريم، والعلاقات التركيبية القائمة بين مكونات جملة الصلة .

أما الفصل الثاني فعنوانه : دور الصلة في تماسك الخطاب القرآني، وقد تضمن مبحثين، خصصت الأول لدراسة الأبعاد الدلالية لجملة الصلة في القرآن الكريم . وأما الثاني فقد عرضت فيه للأبعاد التداولية لجملة الصلة في القرآن الكريم.

أما خاتمة البحث فقد عرضت فيها أهم النتائج التي انتهيت إليها والتي يمكن إجمالها في ما يلي :

1- القرآن الكريم منهج رباني متكامل، عقيدة وشريعة، وأخلاقا وسلوكا، ومنهجا وتصورا، وعلما ومعرفة، ودينا ودنيا . فهو كلام الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علما ، وهو نسيج وحده.

2- إن العلوم اللغوية في الثقافة العربية الإسلامية لا يمكن فصلها عن الرؤية العقدية الإسلامية، ومن ثم فإن هذه العلوم نشأت لخدمة الإنسان شأنها شأن كل العلوم، بل شأن الدين نفسه.

3- إن مصطلحي الخطاب والنص مصطلحان متداولان في الثقافة العربية الإسلامية، ومتصلان بحقول معرفية متعددة كعلوم القرآن والتفسير، والحديث وأصول الدين، والفقه وأصوله، واللغة وعلومها . و تكتسب العلاقات الإسنادية أهمية خاصة في تشكيل الخطاب . فلا يكون النص نصا، ولا الخطاب خطابا، ما لم يكن متسقا ومنسجما، بحيث يشكل منظومة متكاملة ، مكونة من بنيات وعناصر تربط بينها آليات الربط الشكلية والدلالية.

4- يمتاز القرآن الكريم بكونه نصا وخطابا إلهيا مطلقا غير قابل للمحاكاة، وله ترتيبان ترتيب التلاوة وترتيب النزول، وموافق للنظام العام الذي يحكم اللغة العربية. كما أنه يعدل عن معهود العرب في الكلام، ومن ثم فهو بناء فكري ولغوي محكم ومتفرد. فالقرآن الكريم خطاب ملفوظ، ونص مكتوب، تتحقق فيه مكونات العملية التواصلية وشروطها :

أ‌. المرسل .

ب‌. المتلقي .

ت‌. الخطاب ذاته .

ث‌. الحضور أي : حضور صاحب النص قراءة وكتابة، فحيثما قرئ القرآن أو تلي فثم وجه الله . مما يجعل القرآن الكريم يستبطن كل المقامات الممكنة. كما أنه يمتاز عن معهود النصوص والخطابات البشرية بكون مقاله سابقا لمقامه، فالله تعالى أنشأه ابتداء.

5- إن القرآن الكريم ليس مشرعا أمام مطلق القراءات، لذلك فهو لا يحتمل من القراءات إلا ما كان محققا لمقصد الوقوف على مضمون الرسالة أي على مراد الله تعالى من الخطاب القرآني. ومن ثم فإن القراءة الموافقة للخطاب القرآني، والموصلة إلى مراد الله تعالى هي القراءة المقاصدية، التي تتوفر فيها أسس التلقي الإيجابي، والمراعية لخصوصيات القرآن الكريم، والتي تظل نسبية محدودة في الزمان والمكان باعتبارها مجهودا بشريا.

6- يقوم البناء الصوتي للقرآن الكريم على الإظهار باعتباره الأصل المحقق للتواصل وجمالية التعبير بالظهور. أما الإدغام فهو عارض يهدف إلى اقتصاد المجهود، وتحقيق الانسجام الصوتي ووضوح المعنى . وللإدغام وظيفة صرفية لأنه يعنى ببنية الكلمة بشكل جزئي، كما أن له وظيفة تركيبية ودلالية، و يعمل على تحقيق الانسجام بين الأصوات. مما يبين تعالق المستويات اللغوية، وأن الفصل بينها ليس حقيقة لغوية، بقدر ما تلجئ إليه الإكراهات التعليمية والعلمية .

7- يفرض الانسجام الصوتي تحقيق توازنات صوتية في مواقف تعبيرية معينة، مع تحقيق مبدأ اقتصاد المجهود ، والتأثير في المتلقي ببراعة وروعة الجرس الموسيقي الذي يتحقق بالأصل وما يطرأ عليه من عوارض تمشيا مع الموقف والمقام، رغبة ورهبة ، وبيانا وهداية .

8- يقوم الإيقاع الوزني بوظيفة الاتساق، المتمثل في الربط بين مكونات النص/ الخطاب القرآني، وبوظيفة الانسجام بما يشيعه من توازن صـوتي ـ تام وغير تام ـ يسهم في تشكيل الإيقاع القرآني ، مع مناسبة الإيقاع للمقام و السياق. وقد وظف البيان القرآني آليات متعددة لتحقيق التوازنات الصوتية، كالتكرير والتوقع، والإضافة والفاصلة، والحركات والإتباع، والتقديم والتأخير، والحذف والجناس والطباق .

9- استخدم البيان القرآني المكون الصرفي لتحقيق الاتساق والانسجام بين مكوناته، ليجعل من القرآن الكريم منظومة متكاملة، لا يمكن فهم إحدى جزئياته إلا في إطاره الكلي ، و مما تجدر الإشارة إليه وجود علاقة تكامل بين الصيغة والسياق والمقام في الدلالة على زمن الفعل. كما أن الصيغ تم اختيارها بدقة متناهية لتناسب السياق والمقام، وتحقق الإيجاز، وجمالية العرض، فضلا عن الربط المحكم بين مكونات الخطاب القرآني.

10- إن الفعل القرآني مستقبلي وأبدي معجز، حيث يدل على الزمن المطلق، فالماضي يستعمل للدلالة على المستقبل الذي لم يحدث بعد، كالأفعال التي تتحدث بصيغة الماضي عن مشاهد يوم القيامة .

11- عندما يتحدث الخطاب القرآني عن أمر فيه شدة وقوة، أو بعضه أشد من الآخر، فإن الأمر الشديد أو الأشد يأتي بصيغة التذكير. وهناك أبعاد تداولية تتمثل في المقاصد التربوية، هي التي تحدد الصيغة المناسبة من حيث التذكير والتأنيث. مما يبين أن القرآن الكريم لم يتقيد بالقواعد الصرفية والتركيبية في المطابقة من حيث التذكير والتأنيث، وإنما سلك نهجا مقاصديا، يهدف إلى التبليغ والبيان والإقناع، وحمل المتلقي على التجاوب مع الخطاب القرآني، وهذا عنصر مهم يمثل جانبا من جوانب تميز القرآن الكريم وفرادته، والمتمثل في موافقة النموذج العربي وخرقه في الآن نفسه .

12- إن المدخل لتدبر القرآن الكريم هو البنية التركيبية، فالقرآن الكريم يحتمل من المعاني بقدر ما يحتمل من المباني، ولذلك اتجهت عناية المفسرين إلى تحديد الإعرابات الممكنة للآيات القرآنية، لأنهم بصنيعهم ذلك يقيدون المعاني المطلقة للقرآن الكريم بطريقة علمية وموضوعية . ويشكل المستوى التركيبي عاملا مهما من عوامل تماسك الخطاب القرآني، فالعلاقات التركبية هي وشائج شكلية ناظمة لكل مكونات الخطاب القرآني من جهة، ومحددة معانيه من جهة أخرى، باعتبار المعنى الأساس يكمن في البنية التركيـبـية العميقة، التي يمكن الوصول إليها عن طريق دراسة البنية السطحية وما طرأ عليها من تحويلات، حيث الانتقال من المستوى الوصفي إلى المستوى التأويلي، بغية فهم الخطاب القرآني، واكتشاف آليات اتساقه وانسجامه. وقد استعمل المفسرون هذه التقنية منذ التفاسير الأولى لتحديد مراد الله تعالى من الخطاب القرآني من جهة، ولإدراك مظاهر الإعجاز في الـقرآن الكريم من جهة أخرى.

13- إن الظاهرة القرآنية ظاهرة مركبة لا تجد تأويلها في التعليلات الأحادية الجانب، مما يتطلب اللجوء إلى نظرة شمولية تستحضر كل العوامل الفاعلة في اتساق الخطاب القرآني وانسجامه، بحيث يشكل منظومة متكاملة، حيث تتماسك الآيات والسور القرآنية بروابط لغوية، وموضوعية، ودلالية.

وقبل أن أختم تقريري هذا أحب أن أشير إلى أنني اقتصرت في بحثي هذا على دراسة ثلاثة مستويات من مستويات التحليل اللغوي متمثلة في الأصوات والصرف والتركيب، باعتبارها الأساس في الدرس اللغوي الذي يفضي إلى المستويات الأعلى كالدلالة والأسلوب والتداول، فضلا عن أن اللغة عندما تشتغل فإنها توظف كل المستويات اللغوية، وذلك هو ما حاولت رصده وتتبعه في سعي حثيث لفهم الظواهر اللغوية القرآنية فهما جيدا، مع المحافظة على انسجام الدراسة واتساقها .

كما أنني ركزت على بعض الظواهر اللسانية عند دراستي لمستويات التحليل اللغوي على سبيل التمثيل فقط، ذلك أن مجال البحث لا يمكنني من دراسة كل الظواهر على سبيل الاستقراء، فذلك ما آمل تحققه في مستقبل الدراسات التي سأحاول القيام بها، أو يقوم بها غيري من الباحثين.

وقد ذيلت بحثي بقائمة للمصادر والمراجع، وفهرسة للموضوعات .

شكر وتقدير : أتوجه بالشكر الخالص لفضيلة الأستاذ الدكتور إدريس نقوري على تحمله مشاق متابعة هذا البحث عبر كل هذه السنوات، وحرصه الشديد على أن يحقق البحث أهدافه المرجوة . كما أشكره على توجيهاته وملاحظاته التي كان لها الأثر الإيجابي في البحث، مع تقديري لوساطته العلمية، وما زانها من كريم الأخلاق، ونبل التعامل، وعلو الهمة، وسماحة الأصفياء، وتواضع العلماء.

كما أشكر السادة الأفاضل أعضاء لجنة الفحص والمناقشة :

1. الأستاذ الدكتور التهامي الراجي الهاشمي .

2. الأستاذ الدكتور عبد الله الجهاد .

3. الأستاذ الدكتور إبراهيم عقيلي .

4. الأستاذ الدكتور عبد الهادي دحاني .

على قبولهم قراءة هذه الأطروحة وتقييمها ومناقشتها، وتحمل أعباء السفر، ومعاناة القراءة و التقويم، وفاء بالمسؤولية الأكاديمية، ومساهمة في بناء صرح البحث العلمي بجامعتنا الفتية .

والله تعالى من وراء القصد وهو يهدي السبيل .

الأستاذة الدكتورة خديجة إيكر 

أستاذة اللسانيات و النحو و الصرف، بكلية الآداب و العلوم الإنسانية، جامعة شعيب الدكالي، الجديدة المغرب.

 

ناقشت الدكتورة خديجة إيكر، يوم الإثنين 11 جمادى الأولى 1428 ه الموافق لـ 28 ماي 2007م، بكلية الآداب و العلوم الإنسانية، جامعة شعيب الدكالي، الجديدة المغرب، أطروحتها الجامعية لنيل دكتوراة الدولة في موضوع: “ لسانيات الخطاب القرآني: مظاهر الاتساق و الانسجام“، أمام لجنة علمية مكونة من السادة الدكاترة؛ الدكتور التهامي الراجي الهاشمي ـ أستاذ كرسي علوم القرآن و الدرس اللساني بكلية الآداب، جامعة محمد الخامس بالرباط ـ: رئيسا، الدكتور إدريس نقوري: أستاذ باحث بكلية الآداب عين الشق، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء : مشرفا و مقررا، الدكتور عبد الله الجهاد: أستاذ باحث بكلية الآداب عين الشق، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء: عضوا، الدكتور إبراهيم عقيلي: رئيس شعبة الدراسات الإسلامية، كلية الآداب، جامعة شعيب الدكالي، الجديدة: عضوا، الدكتور عبد الهادي دحاني: أستاذ باحث، كلية الآداب، جامعة شعيب الدكالي، الجديدة: عضوا، وقد نالت الدكتورة خديجة إيكر درجة دكتوراة الدولة بميزة حسن جدا.

 

وفي ما يلي التقرير الذي  قدمته الأستاذة الدكتورة خديجة إيكر في مستهل دفاعها عن أطروحتها لنيل دكتوراه الدولة في الآداب، الدراسات الإسلامية، تخصص علوم القرآن و التفسير:

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) سورة البقرة، الآية: 31.

 

تنتظم القرآن الكريم وحدة نسقية يتطلب الكشف عنها البحث في الأبعاد القرآنية التالية:

 

1.    البعد المعرفي: ويتضمن المبادئ العقدية التي تشكل مرجعية الإنسان المسلم في الوجود، فتحدد علاقته بالله تعالى، وبأخيه الإنسان وبالكون من حوله، كما يتضمن العبادات والمعاملات، والأخلاق والسلوك.

 

2.    البعد اللغوي: إن القرآن الكريم عمل على صياغة مبادئه وتعاليمه الربانية صياغة لغوية عربية ، و قد نص على ذلك أحد عشر مرة في القرآن الكريم .

 

وانطلاقا من هذين البعدين يمكننا القول أن القرآن الكريم عربي اللسان ، عالمي الثقافة انطلاقا من قوله تعالى: ( بلسان عربي مبين).

 

3.    البعد التواصلي: عمل القرآن الكريم على ابتكار أساليب تواصلية فعالة ، حيث نجده ينوع هذه الأساليب بحسب المقام والسياق ، مما يجعله يتجاوب مع النفس البشرية في أبعادها المختلفة والمتنوعة ، فمرة يخاطب فيه العقل، ويرشده إلى إعمال الفكر والنظر، والتفكر في الخلق، واستنباط السنن الكونية، ومرة يخاطب فيه الروح بأشواقها وتطلعاتها ، وآمالها وآلامها . ومرة يرشده إلى الاستدلال المنطقي، و مرة يفتح عينيه على البديهيات. ويستعمل أسلوب الترغيب والترهيب، والقصة والمثل . مما جعل من القرآن الكريم منظومة تواصلية بالغة التأثير في المتلقي .

 

4.    البعد الجمالي: لقد صيغ البناء المعرفي القرآني صياغة لغوية توفرت لها مقومات الجمال، وذلك بمراعاة القرآن الكريم التناسب بين أبعاده الأربعة بحيث لا يطغى بعضها على بعض، وإنما جعل بعضها يكمل الآخر، إنه البناء القرآني المتميز بالجلال والجمال.

 

عند قراءتنا القرآن الكريم قراءة تدبر تستعمل الأدوات اللسانية الحديثة ، نفاجأ بهذه الأبعاد القرآنية السالفة الذكر تحملني على الدراسة والبحث بغية اكتشاف أسرارها حيث يكمن جزء كبير من الإعجاز القرآني، خاصة عندما يصبح الأمر متصلا بالبيان وإقامة الحجة والتدافع الحضاري، بعد أن تعالت أصوات هنا وهناك داعية لقراءة القرآن الكريم قراءة حرة مطلقة ، ونادى آخرون بدمقرطة التفسير و أنه حق لكل إنسان، وظهرت قراءات جديدة للقرآن الكريم تتدثر في الغالب بمناهج لسانية، وسوسيولوجية، وتاريخية، وإنتروبولوجية، أدت إلى تحريف المعاني القرآنية، وإخراج النصوص عما هو مجمع عليه، فضلا عن تناقضها مع الحقائق الشرعية، وتعارضها مع مقاصد الشريعة الإسلامية، ومرد ذلك لعدم احترامها لخصوصيات القرآن الكريم، ومعاملته كسائر النصوص البشرية.

 

وليس معنى ذلك أننا نريد حجب هذه المناهج عن مقاربة الخطاب القرآني، بقدر ما نريد بيان حقيقة أساسية تتعلق بالقراءة الإيجابية للقرآن الكريم، وهي القراءة المقاصدية، التي تحفظ للقرآن الكريم خصوصياته، وتحقق مقاصده، ككتاب هداية، يبين للناس ما يحقق صلاحهم في الحال والفلاح في المآل.

 

إن كل منهج من المناهج المذكورة آنفا ـ متى احترم خصوصيات القرآن الكريم ـ يمكننا من الوقوف على مراد الله تعالى من الخطاب القرآني بحسب القدرة البشرية ، حيث سينتهي بنا إلى قراءة ثلاثية الأبعاد:

 

أ‌. التلاوة .

ب‌. التدبر .

ت‌. التطبيق .

 

مما سبق يتبين لنا ضرورة البحث في لسانيات القرآن الكريم و مظاهر اتساقه وانسجامه، في محاولة جادة لنبرز للعالمين أن القرآن الكريم خلاف ما يوحي به ظاهره للبعض بأنه مفكك لا تنتظمه أية وحدة، وأنه عبارة عن تعاليم و طقوس لا وجود لخيط ناظم يجمع بينها إن القرآن على العكس من ذلك تنتظمه وحدة من نوع خاص تمثل فرادته و إعجازه، إنها الوحدة النسقية.

 

إن عدم استحضار المقصد من قراءة القرآن الكريم يوقعنا في خطأ اعتبار القراءات المقترحـة ـ والتي لا تأخذ بخصوصيات القرآن الكريم ، ولا تعتد بقواعد وأصول التفسير ـ قراءات علمية، والنظر إلى القراءة المقاصدية التي اعتمدها جل المفسرين من أهل السنة والجماعة على أنها قراءة غير علمية وغير موضوعية، مما يعتبر في نظرنا قلبا للحقائق، وتسويغا لمشاريع أيديولوجية بركوب موجة تعدد القراءات.

 

والواقع إن القراءة العلمية الرصينة، المتبنية لمناهج تحليل الخطاب، والمعتمدة للقراءة المقاصدية، القائمة على احترام خصوصيات القرآن الكريم، واعتماد قواعد التفسير وأصوله، من شأنها أن تبرز تميز القرآن الكريم وفرادته، فهو كلام الله المعجز، الخارج عن معهود كتابات البشر، والذي لا يخضع لمعهود الوحدة التي يتعارف عليها البشر في الكتابة و التأليف، ومن ثم فإنه يتفرد بوحدة خاصة تتمثل في وحدة الأهداف والمقاصد، من حيث البناء الدلالي والمفاهيـــــــمي ( الانسجام)، ومن حيث بناؤه التركيبي فإنه يتماسك بدمج الأدوات التركيبية مع الأساليب الفنية( الاتساق ) هذه الخاصية التعبيرية و التواصلية و الجمالية التي يمتاز بها القرآن الكريم تجعل الإنسان في حيرة من أمره، إذ إنها ألغت ما تعارفنا عليه في عالم المعرفة اللسانية، ومناهج تحليل الخطاب من تفريق بين المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية، والدلالية والأسلوبية والتداولية، ليتم تـماسك النص / الخطاب القرآني على غير معهود البشر، و بطريقة مضمرة لا يمكن الكشف عنها إلا بعد إعمال العقل و النظر، وذلك سيرا على المنهج القرآني في التربية العلمية والفكرية .

 

إن ما نروم الكشف عنه في هذه الأطروحة هو الكيفية التي تم بها إبراز ذلكم الجهاز المفاهيمي المتمثل في العقيدة والشريعة، والأخلاق والسلوك، والمبادئ والقيم عبر قناة اللغة / النص / الخطاب، وما هي العلاقة القائمة بين هذه المضامين والأشكال اللغوية والتعبيرية التي حملتها إلى العالمين، و بمعنى آخر هل كلما انتقلنا من تصور أو مفهوم إلى تصور آخر كلما تغيرت معه اللغة / الأداة ؟ و نقصد باللغة هنا جميع مستوياتها بدءا بالمستوى الصوتي ، و مرورا بالمستوى التركيبي والجمالي / الأسلوبي، وانتهاء بالمستوى الدلالي و التداولي .

 

إن هذه التساؤلات كلها تولد سؤالا مركزيا هو محور هذه الأطروحة ألا و هو كيف يتم تحقيق التوازن بين مكونات النص / الخطاب القرآني و المخاطبين به ؟ ثم كيف يتماسك النص، وكيف يحدث فيه الانسجام و الاتساق ؟

 

إن الخطاب القرآني باعتباره نصا / خطابا لغويا يهدف إلى مخاطبة كل الناس ، و حامل الخطاب هو الرسول الكريم، وهكذا فإن مرسل الخطاب هو الله، والمرسل إليهم هم الناس جميعا ، و الرسالة هي القرآن الكريم ، و أخيرا فإن الأداة التي صيغ بها الخطاب هي اللغة العربية ، أما القناة التي مر عبرها الخطاب إلى العالمين فهو الرسول.

 

و يُطرح إشكال تبعا لما ذكرناه يتمثل في أن الرسالة لكي تكون قد وصلت فعلا إلى المرسل إليهم يتعين أن يقفوا على مضمونها ، و أن يعرفوا محتواها معرفة تامة . و ما لم يتم ذلك فإن المرسل إليهم يكونون في حكم من لم يتوصل بالرسالة، وهنا يواجهنا مشكل النص / الخطاب القرآني و كونه أعلن بأنه ميسر مفسر لا يحتاج إلى بيان، يقول تعالى :وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ

 

إذن لماذا نجد تراثا تفسيريا هائلا، و هل هناك تناقض بين النص / الخطاب القرآني و الواقع ؟.

 

إن القرآن ميسر لا يحتاج إلى وسائط بينه وبين متلقيه من حيث التفاعل الوجداني، أما من حيث استنباط الأحكام النظرية والعملية، واستخلاص المفاهيم والتصورات، و المبادئ و القيم فإنه يحتاج إلى تدبر وتفكر وتأمل. والتدبر هو الفهم الذي يسهل التواصل بين المرسل و المرسل إليه، و هو الأداة التي تمكن من استخلاص الجهاز المفاهيمي الذي يكون مقومات الذات، و يثبت الهوية ، و يقيم الحضارة .

 

ورغم وجود دراسات وأبحاث تتعلق بالتناسب وتقارب بشكل أو بآخر قضية لسانيات الخطاب القرآني بصفة عامة، فقد ظلت الحاجة ملحة لدراسة تحيط بمكونات النص / الخطاب القرآني، و تبرز العلاقات التي تربط بينها سواء على المستوى التركيبي أم الدلالي أم الأسلوبي الجمالي، ولا تغفل دراسة الجانب التداولي الذي يشكل هو الآخر عاملا هاما من عوامل تماسك النص / الخطاب القرآني .

 

إن الرغبة في إنجاز وتحقيق هذه الدراسة المتكاملة التي تستشرف مقاربة النص / الخطاب القرآني بأدوات منهجية حديثة مستقاة من اللسانيات ومناهج تحليل الخطاب ، مع مراعاة خصوصيات القرآن الكريم، ومحاولة استخلاص نظرية متكاملة في التفسير، هي التي دفعتني إلى اختيار هذا الموضوع لإعداد أطروحة الدولة ، فضلا عن الكشف عن مظاهر اتساق الخطاب القرآني و انسجامه مع تحديد المعالم الكبرى للسانيات تصلح لمقاربة الخطاب القرآني يجوز لنا أن نصطلح عليها بلسانيات الخطاب القرآني.

 

أما عن الصعوبات التي واجهتني في هذا البحث فيمكنني إجمالهافي ما يلي:

 

1-    اتساع مجال البحث ، و تشعب قـضـايـاه و دقـتـها.

 

2-    قلة المصادر و المراجع التي قاربت القرآن الكريم مقاربة لسانية بصفة عامة ، و مقاربته بلسانيات النص بصفة خاصة، مع التأصيل لهذه المقاربة.

 

المنهج المتبع في البحث: قبل تحديد الخطوط العامة لمنهج البحث الذي اتبعته في دراستي لموضوع أطروحتي، لا بد لي أن أبين أن هذا البحث يتبنى نظرية ” نحو النص ” أو ما يصطلح عليه ب” أنحاء النص” التي جاءت بديلا عن النحو الجملي الذي يعتبر الجملة أكبر وحدة لسانية يمكن دراستها . و معنى هذا أن البحث ينظر إلى النص / الخطاب القرآني كنص وخطاب متكامل لا يمكن استيعاب جزئية منه، و إدراك قضية من قضاياه الصوتية أو الصرفية أو التركيبية أو الدلاليـة أو الأسلوبية أو التداولية إلا في إطاره الشمولي الكلي . ذلك أنني أعتقد أن القرآن الكريم يشكل وحدة نسقية، وهذا ما ما حاولت الدراسة البرهنة عليه .

 

إن تطبيق نظرية نحو النص اقتضت مني التزود بمجموعة من الأدوات المعرفية حتى أتمكن من مقاربة النص / الخطاب القرآني من جهة الاتساق والانسجام، ومعنى ذلك أن البحث استفاد من تراثنا المرتبط بالقرآن، كعلوم القرآن، والتفسير، والدراسات الإعجازية، ومن الكتب النحوية والبلاغية، ومن نظرية النظم وعلم المناسبة بصفة خاصة . مع الاستفادة من الدراسات التي أنجزت من الناحية النظرية والتطبيقية في إطار ما يعرف بالنحو النسقي، الذي يحاول تمثل النص في نواحيه التركيبية والدلالية والتداولية .

 

و لتحقيق هذا العمل بهذه الطريقة الشمولية اتبع البحث ثلاث خطوات منهجية :

 

1- تبني المنهج الوصفي : و قد عملت من خلال ذلك على تحديد مكونات النص / الخطاب القرآني :

أ‌- الصوتية .

ب‌- الصرفية .

ت‌- التركيبية .

دون أن نتجاهل المستوى الدلالي، والمستوى الأسلوبي، والمستوى التداولي، وقد عملت على إدماجها في المستويات السابقة، علما أن اللغة عندما تعمل تكون كل هذه المستويات مندمجة ، وما نقوم به من تقسيمات إنما هو لدواع علمية صرفة .

 

كما عملت الدراسة على حصر مظاهر الانسجام والاتساق في النص القرآني، وتصنيفها إلى :

1- عناصر الانسجام الصوتية .

2- عناصر الانسجام الصرفية .

3- عناصر الانسجام التركيبية .

2- تبني المنهج التحليلي : حيث عملت على دراسة كل مكونات النص / الخطاب القرآني السالفة الذكر ، وكل عنصر من عناصر الانسجام دراسة تحليلية بهدف الكشف عن آليات الترابط النصي ووظائفه، مع تحديد أدوات الاتساق وكيفية اشتغالها .

 

3-    الدراسة المقارنة: وأثناء هذه الخطوة المنهجية الثالثة حاولت دراسة المكونات السالفة الذكر دراسة مقارنة بهدف تحديد القيم الخلافية بينها، وقد عززت ذلك ببعض الرسوم البيانية .

 

– الخطة العامة للبحث: قسمت بحثي إلى:

مقدمة: وقد تناولت فيها دوافع اختيار البحث، والصعوبات التي واجهتني، مع عرض للأطروحة التي دافعت عنها، والمنهج الذي اتبعته في البحث والخطة العامة للبحث، وقد ذيلتها بشكر وتقدير .

 

الباب الأول: القرآن الكريم نظام معرفي ولغوي : ويتضمن فصلين :

 

الفصل الأول: القرآن الكريم نظام معرفي وقد درست فيه الأبعاد التالية : العقدي والتشريعي و الأخلاقي و العلمي و المنهجي .

 

أما الفصل الثاني فقد عنونته بـ: القرآن الكريم نظام لغوي وخصصته لدراسة مفهومي الخطاب والنص، كما عرضت فيه للغة القرآن الكريم وإشكالية تلقيه، وقد ذيلته ببيان للمقاربة اللغوية التي ننشد من خلالها دراسة الخطاب القرآني.

 

الباب الثاني عنوانه: المستوى الصوتي ويتضمن ثلاثة فصول هي:

 

الفصل الأول : الإظهار في القرآن الكريم وعرفت فيه الإظهار مع بيان موجباته ومظاهره ووظيفته في القرآن الكريم ، مع إفراد مبحث خاص لظاهرة الإظهار عند القراء السبعة .

 

أما الفصل الثاني فقد خصصته لدراسة الإدغام فقمت بتعريف الإدغام وبيان موانعه واهتمام العلماء به، مع التركيز على وظائفه اللغوية .

 

أما الفصل الثالث فقد عنونته ب : الانسجام والاتساق الصوتي في القرآن الكريم وقد تركز الاهتمام فيه على عناية القرآن الكريم بالمستوى الصوتي، ومظاهر الاتساق والانسجام الصوتي في القرآن الكريم، وآليات تحقق الإيقاع في الخطاب القرآني .

 

أما الباب الثالث فقد خصصته لدراسة المستوى الصرفي ، وقد قسمته إلى ثلاثة فصول :

 

الفصل الأول وعنوانه : صيغ الفعل ودلالاتها في القرآن الكريم وقد قمت فيه بتعريف الفعل مع دراسة الصيغ التالية :

 

1- صيغة فعَل في القرآن الكريم .

2- صيغة فعِل في القرآن الكريم .

3-    صيغة فعُل في القرآن الكريم .

 

أما الفصل الثاني فعنوانه دلالات الفعل الزمنية في القرآن الكريم وقد تم التركيز فيه على دراسة دلالات الدوام والأبدية و المستقبل والدلالة الأصلية .

 

أما الفصل الثالث فعنوانه : التأنيث والتذكير في القرآن الكريم وعرضت فيه بالدراسة والتحليل للتذكير والتأنيث في اللغة العربية. وموافقة القرآن الكريم في هذه الظاهرة للنموذج اللغوي العربي تارة وخرقه تارة أخرى وذلك بحسب السياق و المقام .

 

أما الباب الرابع و الأخير فقد عنوته ب: الاتساق التركيبي للخطاب القرآني، وقسمته لفصلين:

 

الفصل الأول وعنوانه : الصلة والاتساق التركيبي للخطاب القرآني، وقد خصصته لدراسة مظاهر جملة الصلة في القرآن الكريم، والعلاقات التركيبية القائمة بين مكونات جملة الصلة .

 

أما الفصل الثاني فعنوانه : دور الصلة في تماسك الخطاب القرآني، وقد تضمن مبحثين، خصصت الأول لدراسة الأبعاد الدلالية لجملة الصلة في القرآن الكريم . وأما الثاني فقد عرضت فيه للأبعاد التداولية لجملة الصلة في القرآن الكريم.

 

أما خاتمة البحث فقد عرضت فيها أهم النتائج التي انتهيت إليها والتي يمكن إجمالها في ما يلي :

1- القرآن الكريم منهج رباني متكامل، عقيدة وشريعة، وأخلاقا وسلوكا، ومنهجا وتصورا، وعلما ومعرفة، ودينا ودنيا . فهو كلام الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علما ، وهو نسيج وحده.

2- إن العلوم اللغوية في الثقافة العربية الإسلامية لا يمكن فصلها عن الرؤية العقدية الإسلامية، ومن ثم فإن هذه العلوم نشأت لخدمة الإنسان شأنها شأن كل العلوم، بل شأن الدين نفسه.

3- إن مصطلحي الخطاب والنص مصطلحان متداولان في الثقافة العربية الإسلامية، ومتصلان بحقول معرفية متعددة كعلوم القرآن والتفسير، والحديث وأصول الدين، والفقه وأصوله، واللغة وعلومها . و تكتسب العلاقات الإسنادية أهمية خاصة في تشكيل الخطاب . فلا يكون النص نصا، ولا الخطاب خطابا، ما لم يكن متسقا ومنسجما، بحيث يشكل منظومة متكاملة ، مكونة من بنيات وعناصر تربط بينها آليات الربط الشكلية والدلالية.

4- يمتاز القرآن الكريم بكونه نصا وخطابا إلهيا مطلقا غير قابل للمحاكاة، وله ترتيبان ترتيب التلاوة وترتيب النزول، وموافق للنظام العام الذي يحكم اللغة العربية. كما أنه يعدل عن معهود العرب في الكلام، ومن ثم فهو بناء فكري ولغوي محكم ومتفرد. فالقرآن الكريم خطاب ملفوظ، ونص مكتوب، تتحقق فيه مكونات العملية التواصلية وشروطها :

أ‌. المرسل .

ب‌. المتلقي .

ت‌. الخطاب ذاته .

ث‌. الحضور أي : حضور صاحب النص قراءة وكتابة، فحيثما قرئ القرآن أو تلي فثم وجه الله . مما يجعل القرآن الكريم يستبطن كل المقامات الممكنة. كما أنه يمتاز عن معهود النصوص والخطابات البشرية بكون مقاله سابقا لمقامه، فالله تعالى أنشأه ابتداء.

5- إن القرآن الكريم ليس مشرعا أمام مطلق القراءات، لذلك فهو لا يحتمل من القراءات إلا ما كان محققا لمقصد الوقوف على مضمون الرسالة أي على مراد الله تعالى من الخطاب القرآني. ومن ثم فإن القراءة الموافقة للخطاب القرآني، والموصلة إلى مراد الله تعالى هي القراءة المقاصدية، التي تتوفر فيها أسس التلقي الإيجابي، والمراعية لخصوصيات القرآن الكريم، والتي تظل نسبية محدودة في الزمان والمكان باعتبارها مجهودا بشريا.

6- يقوم البناء الصوتي للقرآن الكريم على الإظهار باعتباره الأصل المحقق للتواصل وجمالية التعبير بالظهور. أما الإدغام فهو عارض يهدف إلى اقتصاد المجهود، وتحقيق الانسجام الصوتي ووضوح المعنى . وللإدغام وظيفة صرفية لأنه يعنى ببنية الكلمة بشكل جزئي، كما أن له وظيفة تركيبية ودلالية، و يعمل على تحقيق الانسجام بين الأصوات. مما يبين تعالق المستويات اللغوية، وأن الفصل بينها ليس حقيقة لغوية، بقدر ما تلجئ إليه الإكراهات التعليمية والعلمية .

7- يفرض الانسجام الصوتي تحقيق توازنات صوتية في مواقف تعبيرية معينة، مع تحقيق مبدأ اقتصاد المجهود ، والتأثير في المتلقي ببراعة وروعة الجرس الموسيقي الذي يتحقق بالأصل وما يطرأ عليه من عوارض تمشيا مع الموقف والمقام، رغبة ورهبة ، وبيانا وهداية .

8- يقوم الإيقاع الوزني بوظيفة الاتساق، المتمثل في الربط بين مكونات النص/ الخطاب القرآني، وبوظيفة الانسجام بما يشيعه من توازن صـوتي ـ تام وغير تام ـ يسهم في تشكيل الإيقاع القرآني ، مع مناسبة الإيقاع للمقام و السياق. وقد وظف البيان القرآني آليات متعددة لتحقيق التوازنات الصوتية، كالتكرير والتوقع، والإضافة والفاصلة، والحركات والإتباع، والتقديم والتأخير، والحذف والجناس والطباق .

9- استخدم البيان القرآني المكون الصرفي لتحقيق الاتساق والانسجام بين مكوناته، ليجعل من القرآن الكريم منظومة متكاملة، لا يمكن فهم إحدى جزئياته إلا في إطاره الكلي ، و مما تجدر الإشارة إليه وجود علاقة تكامل بين الصيغة والسياق والمقام في الدلالة على زمن الفعل. كما أن الصيغ تم اختيارها بدقة متناهية لتناسب السياق والمقام، وتحقق الإيجاز، وجمالية العرض، فضلا عن الربط المحكم بين مكونات الخطاب القرآني.

10- إن الفعل القرآني مستقبلي وأبدي معجز، حيث يدل على الزمن المطلق، فالماضي يستعمل للدلالة على المستقبل الذي لم يحدث بعد، كالأفعال التي تتحدث بصيغة الماضي عن مشاهد يوم القيامة .

11- عندما يتحدث الخطاب القرآني عن أمر فيه شدة وقوة، أو بعضه أشد من الآخر، فإن الأمر الشديد أو الأشد يأتي بصيغة التذكير. وهناك أبعاد تداولية تتمثل في المقاصد التربوية، هي التي تحدد الصيغة المناسبة من حيث التذكير والتأنيث. مما يبين أن القرآن الكريم لم يتقيد بالقواعد الصرفية والتركيبية في المطابقة من حيث التذكير والتأنيث، وإنما سلك نهجا مقاصديا، يهدف إلى التبليغ والبيان والإقناع، وحمل المتلقي على التجاوب مع الخطاب القرآني، وهذا عنصر مهم يمثل جانبا من جوانب تميز القرآن الكريم وفرادته، والمتمثل في موافقة النموذج العربي وخرقه في الآن نفسه .

12- إن المدخل لتدبر القرآن الكريم هو البنية التركيبية، فالقرآن الكريم يحتمل من المعاني بقدر ما يحتمل من المباني، ولذلك اتجهت عناية المفسرين إلى تحديد الإعرابات الممكنة للآيات القرآنية، لأنهم بصنيعهم ذلك يقيدون المعاني المطلقة للقرآن الكريم بطريقة علمية وموضوعية . ويشكل المستوى التركيبي عاملا مهما من عوامل تماسك الخطاب القرآني، فالعلاقات التركبية هي وشائج شكلية ناظمة لكل مكونات الخطاب القرآني من جهة، ومحددة معانيه من جهة أخرى، باعتبار المعنى الأساس يكمن في البنية التركيـبـية العميقة، التي يمكن الوصول إليها عن طريق دراسة البنية السطحية وما طرأ عليها من تحويلات، حيث الانتقال من المستوى الوصفي إلى المستوى التأويلي، بغية فهم الخطاب القرآني، واكتشاف آليات اتساقه وانسجامه. وقد استعمل المفسرون هذه التقنية منذ التفاسير الأولى لتحديد مراد الله تعالى من الخطاب القرآني من جهة، ولإدراك مظاهر الإعجاز في الـقرآن الكريم من جهة أخرى.

13- إن الظاهرة القرآنية ظاهرة مركبة لا تجد تأويلها في التعليلات الأحادية الجانب، مما يتطلب اللجوء إلى نظرة شمولية تستحضر كل العوامل الفاعلة في اتساق الخطاب القرآني وانسجامه، بحيث يشكل منظومة متكاملة، حيث تتماسك الآيات والسور القرآنية بروابط لغوية، وموضوعية، ودلالية.

وقبل أن أختم تقريري هذا أحب أن أشير إلى أنني اقتصرت في بحثي هذا على دراسة ثلاثة مستويات من مستويات التحليل اللغوي متمثلة في الأصوات والصرف والتركيب، باعتبارها الأساس في الدرس اللغوي الذي يفضي إلى المستويات الأعلى كالدلالة والأسلوب والتداول، فضلا عن أن اللغة عندما تشتغل فإنها توظف كل المستويات اللغوية، وذلك هو ما حاولت رصده وتتبعه في سعي حثيث لفهم الظواهر اللغوية القرآنية فهما جيدا، مع المحافظة على انسجام الدراسة واتساقها .

كما أنني ركزت على بعض الظواهر اللسانية عند دراستي لمستويات التحليل اللغوي على سبيل التمثيل فقط، ذلك أن مجال البحث لا يمكنني من دراسة كل الظواهر على سبيل الاستقراء، فذلك ما آمل تحققه في مستقبل الدراسات التي سأحاول القيام بها، أو يقوم بها غيري من الباحثين.

وقد ذيلت بحثي بقائمة للمصادر والمراجع، وفهرسة للموضوعات .

شكر وتقدير : أتوجه بالشكر الخالص لفضيلة الأستاذ الدكتور إدريس نقوري على تحمله مشاق متابعة هذا البحث عبر كل هذه السنوات، وحرصه الشديد على أن يحقق البحث أهدافه المرجوة . كما أشكره على توجيهاته وملاحظاته التي كان لها الأثر الإيجابي في البحث، مع تقديري لوساطته العلمية، وما زانها من كريم الأخلاق، ونبل التعامل، وعلو الهمة، وسماحة الأصفياء، وتواضع العلماء.

كما أشكر السادة الأفاضل أعضاء لجنة الفحص والمناقشة :

1. الأستاذ الدكتور التهامي الراجي الهاشمي .

2. الأستاذ الدكتور عبد الله الجهاد .

3. الأستاذ الدكتور إبراهيم عقيلي .

4. الأستاذ الدكتور عبد الهادي دحاني .

على قبولهم قراءة هذه الأطروحة وتقييمها ومناقشتها، وتحمل أعباء السفر، ومعاناة القراءة و التقويم، وفاء بالمسؤولية الأكاديمية، ومساهمة في بناء صرح البحث العلمي بجامعتنا الفتية .

والله تعالى من وراء القصد وهو يهدي السبيل .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق