مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

كيف أبدع المغاربة في حفظ كتاب الله؟

وسائل تحفيظ القرآن الكريم في الكُتَّاب: الوسائل والمآلات

إن تجربة دخول الكُتَّاب، حيث تعَلُّمُ مبادئ القراءة والكتابة، كانت إلى حين مما يُمْلِيه الواقع المغربي، مع تجذر في الوضع الذي كانت تحكمه عادات وتقاليد يؤطرها التشبعُ بروح الإسلام، ويشد من أزْرِها الحفاظُ على مبادئه ومقوماته بالشكل الذي يضمن له استمراِريتَهُ وفاعليتَه في الحياة العامة، باعتباره دينا للأمة تفاعلت معه قلباً وقالباً. ومادام القرآن الكريم نورَ هذا الدين ومحجته البيضاء، فإنه لم يفتأ عند المغاربة عامة -مذ عرفوه- مُقدَّّساً مُصاناً؛ يتلون آياته، ويحترمون مقتضياته بالخضوع لها، والعمل وفق توجيهاتها على المستويين: العقدي والتشريعي. بل أصبحت صدورهم أوعية لحفظه، تتناقله جيلاً عن جيل.

ولقد ارتبط التعليم الابتدائي في حينه بالكُتَّاب، حتى أصبحت الطفولة مرادفة له، مرتبطة به لأجَلٍ يطول أو يقصر، ولكنها لا تَنْفَكُّ عنه بشكل من الأشكال .

وحتى نكون عمليين في إبراز وسائل تحفيظ القرآن الكريم في الكَََُتاب من خلال المراحل التي يتوجب على التلميذ قطعُها عنده، والأدوات المعتمدة في كل مرحلة من هذه المراحل؛ نشير إلى أن الكُتَّاب كان يخضع لبرنامج زمني وتربوي تعليمي لا ينفكُّ عنه في توجهه الأدائي، تتخلله عطل هي بمثابة استراحة للتلميذ، يستعيد فيها نشاطه لما بعدها. وغير خافٍ -تربويًّا- ما تمثله هذه الاستراحة من أثر إيجابي على نفسية المتعلم وذهنه في تجديد نشاطه وفاعليته، لاستجابته السلسة لمباشرة الجديد من مُتَلَّقاهُ المعرفي.

وانطلاقاً من تجربتنا المعاشة في هذا المجال، فإن البرنامج اليومي كان يتوزع بين الفترة الصباحية، والفترة المسائية. وكان هناك توقيتٌ نمطيٌّ يخضع له الكُتَّاب في الفترتين: ففي الصباح هناك الحضور مُبَكِّراً إلى منتصف النهار؛ حيث ينطلق التلميذ لغذائه، ليعود بعد نحو ساعتين لقضاء الفترة المسائية إلى غروب الشمس أو نحو ذلك؛ حيث يذهب إلى حال سبيله. ليتكرر المشهد مع نوع من التخفيف عشية الأربعاء، إلى عطلة نهاية الأسبوع التي كان يمثلها يومُ الخميس ابتداء من الزوال إلى ما بعد زوال يوم الجمعة عند بداية الفترة المسائية. وكان يوم الأحد عندنا يوماً نأتي فيه معلمنا بما تيسر من نقود كجزء من أجره المتعارف عليه، فإذا كانت نهاية الشهر جئناه أيضاً بمبلغ مقدر هو على كل حال أكبر من المبلغ الأسبوعي. ويلعب الوضع الاجتماعي للتلميذ دوره في تقدير هذا المبلغ.

أما العطل السنوية فكانت عطلاً تتراوح بين يوم(1) وعشرين يوما(2)، ومناسبات هذه العطل كلها دينية مقترنة في تقويمها بالأشهر الهجرية، وهي: عيد الفطر، وعيد الأضحى، ويوم ذكرى المولد النبوي على صاحبه أزكى السلام.

بينما عطل اليوم الواحد ترتبط بالديني واليومي من شواغل الحياة في بُعْدِها الروحي والطبيعي المرتبط بالأرض خمولاً وخصوبة وعطاء عَبْرَ دورتها السنوية.

فالديني من هذه العطل يتجسد في:

–  يوم النسخة الموافق لمنتصف شهر شعبان.

–  يوم المعراج الذي تُخَلَّدُ ذكراه يوم السابع والعشرين من رجب.

–  يوم القعدة المحسوب في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام.

والمرتبط بالأرض من العطل ترتبط مناسباته ب:

يوم الحاجوز: في الرابع عشر من يناير الإداري، الموافق لفاتح يناير الفلاحي.

النيسان: في العاشر من ماي الإداري الموافق للسابع والعشرين من أبريل الفلاحي.

موت الأرض: في الثلاثين من ماي الإداري الموافق للسابع عشر من ماي.

العنصرة: في السابع من يونيه الإداري الموافق للرابع والعشرين من شهر يونيو.

وهذا البرنامج الزمني يحيلنا على عملية تفييء التلاميذ بالكُتَّاب حسب مراحلهم التعلمية / التعليمية سنّاً وتقدماً في التحصيل؛ هذه المراحل التي يمكن إجمالها -اجتهاداً- في ثلاث:

المرحلة الأولى:

وتخص التلاميذ المبتدئين الذين يتدرجون في تعلمهم ابتداء من حروف الهجاء. وهنا، فإن المتكفل بهذه الشريحة من المتعلمين عادة ما يكون من كبار التلاميذ؛ حيث يجعلهم -بأمر معلمه إياه- يتحلقون عليه، ثم يأخذ في تلقينهم هذه الحروف مُجَردةً، ثم مَنْقُوطة في محطة مُتَقدِّمة؛  يكون المتعلم عندها قد توفر على لوح صغير يَتَهجَّى فيه هذه الحروف -مكتوبة له من طرف معلمه- مُتَصلَةً فيما بينها كلماتٍ معبرةً هي البسملة، فآيات الفاتحة، ثم الناس، ثم الفلق… وهكذا عبر سور القرآن طلوعاً(3)، لتأخذ الدواة والقلم مكانهما لدى المتعلم في تكتيبه بالأخذ بيده في رسم الحروف على اللوح. وقد يتولى الأمر تلميذ أكبر يكون أنهى ما عليه إنهاؤه في وقته، ليتفرغ بأمر المعلم للموضوع، ويصبح على المُتَهَجِّي حِفْظُ ما تهجاه كتابة.

بعد هذا يعمل المعلم لاحقاً على تحنيش لوح المتعلم بسطرين أو ثلاثة حسب تقدمه في الفهم أو الاستيعاب؛ فيتتبع المتعلم كتابةً ما خطه المعلم بلوحه مُحَنَّشًا، مُتقدماً في حفظه السُّورَ القَصيرةَ المتتالية. وحين يلمس المعلم نَوعاً من الإتقان في تَرَسُّم تحنيشه، يضع أسطراً بين هذا التحنيش، ليجعل المتعلم يقلده عندها تقليداً قبل أن يملك زمام نفسه في عملية الكتابة التي يُسطر لها المعلم عدد الأسطر لكتابتها مُمْلاةً منه.

وقد يتعرض المتعلم في هذه المرحلة إلى نوع من العقاب يناله لِعُسْر فهم أو ارتكاب خطإ يرى مُعلمُه معاقبته عليه لسبب أو لآخر.

وَلْنَقِفْ عند هذه المرحلة لإبراز وسائل التعليم المُعتمَدة فيها مما قد يكون قُصُورُهُ عليها، أو مما يمتد اعتمادُه في غيرها من المراحل المتقدمة.

وتتوزع هذه الوسائل بين ركني التعلّم الأساسيين: القراءة والكتابة في إطار علاقتهما العضوية ببعضهما من جهة، وبالمتعلم والمعلم كطرفي المعادلة المعنية بهما من جهة أخرى.

   بالنسبة للقراءة نجد:

– تَهْجيَةَ المتعلم الحروفَ في جملة من أترابه كأول درجة على سلم التعلم حَرفًاً حرفًاً من ألفها إلى يائها مُعَطـَّلة، ثم مَنْقوطة فيما بعد بشكل جماعي مرةً ومرةً ومراتٍ في عرض واحد، مع فصل المرة عن الأخرى بأرجوزة(4) يندفع فيها المتعلمون أسوة بملقنهم من كبار التلاميذ تقول:

و بالله الـتـوفيقْ          والتوفيقْ من اللهْ

و الشيطانْ خْزاهْ اللهْ

مُتَوقفة عند هذا الحد في وضع ابتدائي، وتمتد في غيره لتشمل ما يلي:

سـيدي احْمدْ طالبْـنا       في الجـامعْ خَلـِّينــــاهْ

يتْوضَّا ويْصَلِّــــــــي      و يقْرَا دْ جــــــابْ اللهْ

اَلعـَـــزيزْ عَنْد اللهْ

أحُجّــــَاجْ بــيـتْ اللــهْ     أسيــــدي رســـول اللهْ

سيــــدْنا محمـــــــــــدْ    هو اللـُّولي واحْنا موُراهْ

حتى الجنَّة إن شاء اللهْ

و كأن المتعلمين بهذه الأرجوزة يكسرون روتين هذا التهجي للحروف مَقُولة ومعادة، وفي نفس الآن هي بمثابة محطة يسترجعون فيها نفسهم لمعاودة التهجي بهمة وحماس.

  تهجي الكلمات المكتوبة كلمةً كلمةً، ثم آيةً آيةً، قبل الأخذ بزمام الأمور؛ حيث يصبح التلميذ مالكاً أمر نفسه في القراءة .

  أما الكتابة: فإن تعلمها يتطلب الوسائل التالية ارتباطاً بآلياتها الإنجازية وهي:

   – الصلصال: وهي مادة حجرية هشة، تجدد للوح حياة استعماله اليومي بعد محوه بالماء؛ إذ تُمَرَّرُ عليه فتتفسخ جزئياتها عنده مُحْدِثة طبقة طينية لَزجة تُعَدَّل فَرْشة له بتمرير راحة اليد عليها من أسفل إلى أعلى، ثم تُتْرَك للشمس أو للهواء لتجف، فإذا جفت أصبحت صالحة لاستقبال ما يُكْتب على اللوح.

–    القلم: كأداة للكتابة، وهو يُحَضَّرُ بَرْياً من القصب.

– الحبر: ويُحَضَّرُ من الصمغ المذاب بماء في دواة، ويُحْفَظُ استمرارُه وبقاء تماسكه بنَدْفة صوف توضع داخل الدواة، فإذا ما بدأ يفقد من سواده، حُرِّكَت الدواةُ بعَقِب القلم، فيعود الحبر إلى وضعه، فإذا استنفذ بهاؤه اسْتُدْركَ بوضع المطلوب من الصمغ مع ما يناسب من الماء لتجديد الدورة.

وإجراءات تنفيذ فعل الكتابة يتم بـ:

  – التحنيش: ويكون بعَقب القلم أو بعُود في حجمه ضَاغطٍ على اللوح بما يريد المعلم كتابته عليه، فيُحدث آثاراً لهذه الكتابة على المتعلم إظهارُها مُتحرياً وَضْعَ الحروف في تطبيقه.

– الأسطر بين التحنيش: وهي مرحلة متقدمة ينتقل فيها المتعلم من تَرَسُّم الكلمات إلى تقليد أشكالها في الأسطر تحتها كلمةً كلمة.

– استقلال المتعلم في الكتابة: ويكون بعد امتلاكه ناصية الحروف كتابة؛ بِتَلقِّيه مُقرَّرَه اليومي من الحفظ إملاءً عن معلمه.

ولدى كل الإجراءات المتقدمة يكون دورُ المعلم تصحيحَ الإنتاج المُنْجَز، وتنبيهَ المتعلم إلى أخطائه وما عليه أخذُه بعين الاعتبار في الموضوع، بينما أولياء المتعلم في تتبعهم له يحتفلون به ببلوغه سُوَرًا معينة من القرآن احتفالاً رمزيًّا؛ فَيُكرمُون لذلك المعلم، ويكون ذلك مَثَارَ زَهْو وتشجيع لولدهم المتعلم.

المرحلة الثانية:

وهي مرحلة الاستقلال الذاتي قراءةً وكتابة؛ وهنا يكون المتعلم قد تقدم في محفوظه من القرآن الكريم، ويكون عرضُ مكتوبه اليومي على المعلم من ثمانية أسطر إلى عشرة طالعاً في السُّلكة(5). وكلما تقدم فيها زادت سرعته عندها؛ حيث يزداد مكتوبه ليصل إلى ثُمن حزب في اليوم، يتلقاه عن معلمه كغيره إمْلاءً وتصحيحاً.

وللإشارة، فإن ما كان يُعتبر معياراً من السُّوَر مُعْتَمَداً كوحدات يتم التنقل عبرها بالكيفية المشار إليها سلفاً، يتغير بعد إنهاء الحزب الثاني اعتباراً حيث الانتقال المباشر إلى سورة الجن التي يبتدئ بها هذا الحزب/السابع والخمسون بترتيب الأحزاب في المصحف؛ حيث تصبح العبرة بالحزب بدايةً ونهايةً على ذات النظام الترتيبي المتنقل حزباً حزباً. وبدل ما يكون احتفال أهل المتعلم -كما كان- بوصول ولدهم إلى سورة معينة كسورة الأعلى(6)، أو سورة الجن(7)، أو سورة الملك(8)، يصبح هذا الاحتفال ببلوغه منتصف القرآن عند بداية الحزب الثلاثين/ الواحد والثلاثين بالترتيب المصحفي (9)؛ حيث يعظم الاحتفال، َوَتُعْطَاهُ قيمة كبرى حسب أسرة التلميذ. وقد يغدو هذا الاحتفال أعظم بختم المتعلم القرآن؛ بتنظيم طقوس متعارف عليها، تجعل من هذا المتعلم بطل هذا الحفل بامتياز؛ إذ يكون اليوم الذي يتم فيه الاحتفال يومَه ابتداءً من الفترة الصباحية؛ حيث يُعْتَنَى بشأنه مَظهراً، ويُزَوَّق لوحُه، ويَحْضُرُ ولي أمره للكُتاب؛ فيُكرِم المعلم بمبلغ مالي مقدر شكراً له على مجهوده مع ولده. وقد يستدعيه مع باقي تلامذته إلى منزله لمأدبة يُولِمُها لهم؛ فيتعطل الكُتاب بما فيه، وتُنَظَّمُ مسيرة منه إلى المنزل بوضعٍ يكون فيه لهذا التلميذ المُحْتَفى به شَرَفُ الصدارة والاعتبار بلباسه الحسن، ولوحه المزوق المشهور بين يديه، بين معلمه والمدعوين وزملائه الحافّين به بذكرٍ وكلامٍ موزونٍ مُمَجِّدٍ للقرآن.

وهذه المرحلة تتسم على المستوى الشكلي بتغيير اللوح الذي يأخذ حجما أكبر، كما تتسم بتقدم نضج المتعلم الذي يصبح عليه الاعتمادُ على نفسه في مباشرة لوحه محواً وكتابة وحفظاً، كما تكثر أعباؤه المدرسية المتراوحة بين استيعاب محفوظه اليومي ومراجعته المتتالية لما مر معه من محفوظ سابق. وهنا تلعب مقدرة التلميذ وذكاؤه دورهما في عملية التشخيص هذه، وإن كانت العصا وألوان أخرى من العقاب البدني والنفسي وسلطة المعلم النابعة من شخصيته بمختلف تجلياتها مما يعتبر كُلُّه أساسياً في تقدم استيعاب التلميذ، واحتفاظه بمُسْتَوْعَبه السابق.

وقد تكون لهذا العقاب نتائجُ سلبيةٌ تجعل المتعلم يكره الكُتاب ومعلمه؛ فيتَمنَّع عن متابعة التعلم به، أو يكذب على أبويه بما قد يستمر عليه من ضلال إن رأى منهما تصميماً على إبقائه بالكُتاب. وعلى النقيض من هذا، قد يصبح لكلمات الإطراء التي يَتَفَوَّهُ بها المعلم في حق تلميذه فعلُ السحر في استفزازه للحفاظ على نتائجه الحسنة في الحفظ والاستيعاب؛ من مثل قوله له -وقد عرض عليه محفوظه جيداً-: فتح الله عليك، أو كأنْ يباهي به أترابه للاقتداء به، أو يكلفه بالمراجعة مع من دونه واثقاً في محفوظه ورجولته التي أسبغها -تشجيعا- عليه.

ومن الآليات التي قد يستعين بها بعض التلاميذ في حفظ ألواحهم في هذه المرحلة الهَجَّايُ أو الهَجَّاية: وهي عُصَيَّةٌ تُحَضَّرُ من عود صلب بطول حوالي خمسة عشر سنتيماً، يجعلها التلميذ في يده شادّاً عليها أصابعه، يضرب بها لوحه في عراك، قارئا مركزاً على المستعصى من الكلمات والآيات، حتى لتجد بعض هذه الكلمات وقد تَلِفَتْ من أثر الحك والدعك. وإذا باللوح في آخر المطاف ساحةُ معركة حقيقية.

وكترسيخ لماضي المحفوظ بهذه المرحلة، تصبح مراجعته من أوجب الواجبات المفروضة على المتعلم، باعتبارها من الوسائل الضرورية المعتمدة في برنامج الكُتاب المُتَّبَع. وتتفرع هذه المراجعة إلى:

مراجعة فردية:

ولها أوقات معروفة في العادة أَوَاخِرَ الفترتين اليوميتين: الصباحية والمسائية بعد فراغ المتعلم من مهامه المناطة به على مستوى كل فترة؛ حيث يدعوه المعلم لمراجعة هذا المُتَجَاوَز من المحفوظ القرآني بكيفية انفرادية، أو تحت إشرافه إذا لامس في سلوكه التعلمي غِشّاً أو ما شابه، أو إذا أراد التأكد من جديته أو مدى اتِّّقَاد ذاكرته في تعاملها مع ماضي هذا المحفوظ. وهنا قد يُفاجأ المتعلم بدعوة لهذه المراجعة أنَّى اتفق تحت هذا الإشراف. وغالباً ما يكون الوضع أسوأ؛ نظراً لما يصاحب هذا النوع من التوجه في المراجعة من حساب عسير.

مراجعة جماعية:

وغالباً ما يكون توقيتها أواخر الفترة الدراسية اليومية المسائية، وقد يكون أواخر الفترة الصباحية. وفي كلتا الفترتين، يبقى أمر انعقاد حلقة المراجعة هذه بأمر المعلم. ويصبح الأمر عادياً لدى عطلة العيدين وذكرى المولد النبوي الشريف في بدايتها؛ حيث يكون الحضور في الفترة الصباحية فقط لغرض المراجعة. وصفتها: عقدُ حلقة من المتشاركين في المسيرة الحفظية متوازين-أو يكادون- فيما انتهوا إليه من سور القرآن بإشراف المعلم، أو تحت يد أحدهم ممن يثق المعلم في ظهوره عليهم؛ فتراهم يقرأون على لسان واحد من بداية مقررة إلى نهاية معلومة. وكلما انتهوا إلى وضع أحدهم الآني من هذه المراجعة، انسحب تاركاً من يفوقه في استغراقهم خائضين، حتى أرقى متقدم في الحلقة.

المرحلة الأخيرة:

وهي المرحلة الذي يظهر فيها المتعلم بعد ختمه القرآن مرة فأكثر؛ مما يعني تمكُّنُه من مادته الكتابية والقرائية؛ حيث يكبر حجم مكتوبه إلى ربع حزب في اليوم أو يزيد بزيادة تقدمه، ويصبح أقل اعتماداً على المعلم في إملائه هذا المكتوب عليه، وقد يأخذ في كتابة لوحه من تلقاء نفسه.

والانكباب في هذه المرحلة يتوجه أصلاً إلى التعرف على القواعد الإملائية الشكلية والتصويرية المعتمدة في رسم كلمات القرآن الكريم بأحرفها التي قد تتباين – مثلا- في رسمها بصفتين مختلفتين على مستوى الكلمة الواحدة في موضعين مختلفين. ك: (نعمة)، و(رحمة)، مما تُكتب التاء عنده مربوطة، وتكتب أيضاً مبسوطة في مواضع معينة(10)، إلى الثابت والمحذوف(11) من الكلمات، والموصول ببعضه منها والمفصول(12)، إلى تصوير الهمزة ومواضع تسهيلها(13)، ومواضع الترقيق والتفخيم من الكلمات(14)  بشروطها، وما إلى هذا؛ فترى لوح التلميذ -الذي يَرْقَى في وضعه إلى رتبة طالب- مملوءاً بما يُصْطَلَحُ عليه ب”الحط”(15) وأسفله نصوص تضبط ما تم الحط عليه صفة وعدداً ومواقع من وضع معلمه. فيصبح همه في هذه المرحلة ضبطُ أحوال ألفاظ القرآن وجمله بحفظ هذه النصوص التي تعمل على إحاطته بدقائق الرسم القرآني، وتبصيره بمواطن تلاقي وتقاطع الآيات المتشابهة أو أجزاء منها، واتقاد ذهنه فيما يمكن مبارزة أترابه فيه من هذا وذاك.

والطالب في هذه المرحلة، يجد معلمه فيه عوناً وسنداً على من هم دونه، وقد يُنِيبُهُ عنه في تغيب طارئ إذا رأى فيه من الرزانة ما يؤهله لهذه الثقة؛ مما يعني -ضمنياً- إجازتُه في القرآن الكريم، واعترافاً مبطناً بأهليته في الميدان؛ مما يكون مثار اعتزاز المتعلم وفخره.

وبعد: فإن للكُتاب القرآني المغربي حمولتَه التربوية والتأديبية بمختلف مراحله مما سبقت الإشارة إليه في عرض الموضوع، دون إغفال سيرة الفقيه/المعلم نفسه في تقويم سلوك المتعلم الذي يتخذه قدوة يقتدي بها في التزامه بالوقت واتصافه بالجدية والحزم، وأداء الصلاة في أوقاتها وخاصة ما يوافق منها وجوده بالكُتاب. وبيان هذا يمكن أن يكون موضوعاً قائم الذات في شكله ومضمونه.

الهوامش:

  1. يُسْتَغَل جزء من فترته الصباحية -بعد عرض المحفوظ على المعلم ومَحْوِه وكتابة الجديد- في الترتيب للعطلة بإحضار ما تيسر من نقود وسواها -استحباباً- لتقديمها للمعلم، ثم يتم الانصراف إلى اليوم الموالي.
  2. تبتدئ متساهلة؛ حيث لا يحضر التلاميذ إلى الكُتاب إلا في الفترة الصباحية لمراجعة محفوظاتهم. فإذا بقي على المناسبة التي ترتبط بها العطلة أياماً معدودات، انقطعوا عن الحضور إلى ما بعد سابع يوم يمر على المناسبة.
  3. الطلوع في السلكة من القرآن: مصطلح مدرسي متداول لدى معلمي القرآن وطلابه يفيد وضْع المتعلم في الكُتاب من حيث مباشرتُه لعملية حفظ كتاب الله انطلاقاً من الفاتحة فسورة الناس فالفلق فسائر السور بترتيب معكوس لما وردت به في المصحف الشريف حتى الحزب الثالث/السابع والخمسين بترتيب الأحزاب في المصحف؛ حيث يصبح معيار التقدم هو الحزب بدل السورة بذات الترتيب المعكوس إلى آخر حزب من السلكة الذي هو الحزب الأول بترتيب الأحزاب في المصحف حيث يختم التلميذ القرآن ويبتدئ عملية أخرى عنده هي عملية الهبوط في السلكة كمصطلح أيضاً مقابلٍ للمصطلح السابق، والتي يصبح عندها ملتزماً بالوضع المصحفي للأحزاب والسور في تقدمه الاستيعابي للقرآن الكريم.
  4. هذه الأرجوزة من المتداول عندنا في بابه بمنطقة شفشاون في شمال المغرب، وهو مما قد لا يكون في غيرها -بالضرورة-، وقد أوردناها لطابعها التربوي والأخلاقي مما قد لا يخفى أثره على المتلقي.
  5. السُّلكة: هكذا ينطقها فقهاء القرآن وغيرهم بضم السين، وأرى -والله أعلم- أن هذا خطا شائع، والصواب هو: السَّلكة بفتح السين على وزن فََعلة الدال على اسم المرة من سلك الطريق إذا ذهب فيه (مختار الصحاح. للشيخ محمد بن أبي بكر الرازي. ط: 1950. ص: 333) فاستعير الطريقُ للقرآن الذي هو صراط الله استعارة مكنية لجامع بينهما وهو إمكانية الوصول إلى القصد بسهولة ويسر بسلوكهما شِرْعةً ومنهاجاً؛ فكان الطلوع في القرآن حِفْظاً سَلكة، والهبوط فيه متابعةًً للحفظ أو القراءة سَلكةٌ ثانية، ومعاودة قراءته من أوله إلى آخره سَلكة ثالثة، وهكذا…
  6. ترتيب سورة الأعلى في المصحف هو: 87.
  7. ترتيب سورة الجن في المصحف هو: 72.
  8. ترتيب سورة الملك في المصحف هو: 67.
  9. الحزب الواحد والثلاثون يبتدئ من قوله تعالى: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾. الآية: 75 من سورة الكهف.
  10. (رحمة) بتاء مبسوطة كما في قوله تعالى من سورة الزخرف، الآية: 32: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾. و(نعمة) بتاء مبسوطة كما في قوله تعالى من سورة إبراهيم الآية 28: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا﴾.
  11. الثابت من الألف في الكلمة هو ألفٌ بوضعه المعتاد عندها حرفاً صائتاً، بينما المحذوف من هذا الألف هو الذي يظل معلقاً دون أن يأخذ بُعده الاستقلالي في الكلمة الوارد بها، كما في قوله تعالى من سورة النور، الآية 35: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
  12. مثل: “كَيْلَا” في قوله تعالى من سورة آل عمران الآية 43 ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾، ومثل: “كَيْ لا” في قوله تعالى من سورة الحشر الآية 7: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾.
  13. تسهيل الهمزة أي قراءتها هاءاً كما في قوله تعالى من سورة النمل الآية 62: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾. فَأَإِلَهٌ مع الله، تُقرأ: أهِـ لََهٌ مع الله. لنلاحظ أيضاً كيف أُبدلت الهمزة رسماً بنقطة على السطر إبرازاً للتحول الطارئ على الهمزة نُطقاً.
  14. التفخيم هو نطق الحرف بحركته مُغَلَّظاً كما في حرف الراء مثلاً مما هو الأصل في نطقها، وترقيقها يتم بشروط يُرجع في ضبطها إلى المنصوص عليه من قواعدها بمتون تُعرف عند فقهاء القرآن وطلبته ب “الأنصاص”.
  15. الحط: هو وضع أرقامٍ على كلمات أو آيات مكتوبة على لوح الطالب إحصاءً لها في وضعٍ مُعيَّن من أوضاعها التي ترد بها ضبطاً لعددها أو رسمها أو صفتها التي وردت بها في القرآن مما يتم إثباته مترجماً أسفل اللوح.
Science

ذ. محمد بن يعقوب

عضو الرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق