مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

كيفية الإفادة من رمضان

وتنسأ الآجال، ويمد في الأعمار، ليرشف المحظوظون من لجين الحياة، ويكرعوا من الحياض الكفيلة بالنجاة، تعرضا لنفحات المبتدئ بالإنعام، واغتناما للفرص قبل تجرع إهدارها غصة في قابل الأيام، فها هو ذا موسم الغنم  قد أوشك أن ينيخ ركابه بساح المسلمين، مناديا فيهم أن هبوا من سباتكم، وأفيقوا من رقدتكم، فهل من متزود ليوم اللقاء؟ فعما قريب ينكشف الغطاء، وتنجلي سحب الغشاوة عن الأنظار، فيتحقق اللاهي البوار، ولات حين تدارك وقد حال دونه البين، وأغفل التزود ليوم الرحيل.

شهر رمضان فرصة العمر القصير، وواحة من أنهكه المسير، وباحة المثخن الأسير، ينهض فيه من عقاله، ويفك فيه محكم وثاقه، ويسترد في كنفه ما خار من عزمه ورباطة جأشه، شهر يستعيد فيه قواه، ويجدد العهد بمولاه، وينفض غبار الغفلة عن صك العهد القديم، فهو لوعثاء السفر معرجة استراحة، ومن عناء الحياة غيضة فيحاء مجمة للنفس اللأواء.

ثم هو قبل ذلك وبعده موسم الغنم الكبير، وموسم التاجر الذي يبحث عن الربح الوفير، فكل ساعاته وأوقاته بل ولحظاته يمن وبركة وريح صبا عليل.

لكن دون تحقيق البغية أبواب موصدة، لا تشرع إلا لمن تلبس به بشرطه، ورام فتح مقفلها بما توقل من حقيقته وجوهر مفهومه، وهنا يختلف الناس في الإفادة من رمضان، وذا مربط الفرس كما يقال، فشتان بين من استحضر حقيقة الصيام، وكان على ذكر بما أنيط به من غايات بعيدة المرام، فشمر وتجلد وتصبر.. وعمر أوقاته بما ندب إليه من صالح الأعمال، و بين من دخله بحكم الإلف والعادة، واعتبره من موروثات الطاعة والعبادة، ولم يول أيامه ما تستحق من كبيرحرص وحسن تدبير، وشح بساعاته أن تنسلخ دون سديد ترشيد.

لقد صرحت آية فرض الصيام بعلة مشروعيته، وحصرتها في التحقق بمنزلة التقوى، “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [البقرة:183] هذه الحلية التي أرقت عيون العارفين، فنصبوها غاية غايات سعيهم، فنقبوا فيما بين أيديهم ما يبلغهم مرامهم، وقد أسمى الحق سبحانه التقوى لباسا، فكأنها دثار يدثر به كما يدثر باللباس، تشبيها لها بالجنة الواقية للعبد من عوادي الإغارات العدوانية المتوالية على قلبه، وهي وايم الله لإغارات ضروس، لا يعصم منها إلا من لاذ بحصن التقوى المنيع، “يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ” [الأعراف:26]، فأقام الحق سبحانه التقوى مقام اللباس المادي في سياق المفاضلة، لما بينهما من علاقة الإسباغ والإضفاء، فكل يضفى على وعائه صبغة ما ووري به، وقد قيل في لباس التقوى تأويلات، منها: العمل الصالح قاله ابن عباس، وعنه أيضا: السمت الحسن في الوجه، وقال معبد الجهني:  الحياء، وقال عروة بن الزبير هو خشية الله، وقال الحسن: هو الورع والسمت الحسن في الدنيا، وقيل غير ذلك، قال ابن عطية بعد أن ساق جملة من هذه الأقاويل:  “هذه كلها مثل وهي من لباس التقوى.”[1]

وهو كذلك، فالصوم بهيئته المرضية يورث كل هذه الفضائل وما نظم في سمطها؛ مما تزكو به النفس، ويصفو به محل نظر الله من العبد، وينهض الجوارح استقامة على مسلك السواء، ومن ثم كان  آكد الأسباب المورثة لمنزلة التقوى، لما له من قوة تأثير عجيبة على تشذيب شره الماديات المهيمنة على الإنسان، فتسمو به النفس إلى التشبه بمن فطر على العصمة، مخمدا لوهج السعار الداعي إلى الركون للأهواء،  فتستكمل به الروح فضائلها، وتجبر به ما انصدع من كيانها، فيحس صاحبه  ببلسم لامس روحه،  يرقى به إلى معارج المعرفة المورثة لبالج الرؤية.

ولا ينقاد تحصيل هذه المنافع إلا بالإعداد القبلي، إعدادا تتهيأ به الروح لاستقبال رمضان بما يليق، دراية بما نيط به من أجور، واستحضارا لمقاصد الصوم المنشود، ثم باستجماع الهمة، وعقد لعزم لا يخور، ولا يدب إليه فتور، ثم بوضع مخطط لعمارة أوقاته، وبرنامج يومي لتصريف ليله ونهاره،  ثم استمداد العون والمدد من الله، وصدق اللجإ إليه سبحانه، أن يكلل العزائم بالتوفيق، و أن يزيح الموانع والعوائق من الطريق، وإنما الموفق من وفقه الله.

 

[1] المحرر  الوجيز، 2/389

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق