مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فلا تفريع فيه، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد، فلا بد فيه من اعتبار التعبد

            ينفي الإمام الشاطبي استخدام القياس في الأمور التي ثبت فيها اعتبار التعبد، لأن هاته الأمور لا مجال فيها لإدراك العقل، وما لا يدرك بالعقل لا تدرك علته، وما لا تدرك علته لا يجوز فيه القياس، كالركوع، والسجود للصلاة، وبعد هذا ينتقل أبو إسحاق إلى تقرير قاعدة قد يتوهم القارئ في أول لحظة أن هناك تعارضا، في قوله: “كل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد، فلا بد فيه من اعتبار التعبد”[1]؛ لأنه هنا ليس المراد بالتعبد المعنى الخاص الذي يجب ألا يدخله القياس، والتفريع، بل المراد به أن يكون لله فيه حق، وإذا قصده المكلف بالفعل أثيب، وتكون مخالفته قبيحة يستحق العقاب عليها، وينظم إليه معنى آخر، وهو أنه لابد لنا في كل مصلحة عرفناها من وقفة عندها: هل تعينت هذه العلة للمصلحة؛ بحيث لا يكون للحكم علة ومصلحة إلا هذه؟ فهذا التوقف نوع من التعبد؛ بمعنى عدم معقولية المعنى تعقلا كاملا، فالتعبد هنا بمعنى عام لا ينافي القياس والتفريع إذا وجدت شروطه[2].

وقد استدل على هذه القاعدة بعدة أمور:

           1– أن معنى الاقتضاء، أو التخيير، لازم للمكلف؛ من حيث هو مكلف، عرف المعنى الذي لأجله شرع الحكم، أو لم يعرفه، وما عليه إلا الامتثال، والانقياد، بخلاف اعتبار المصالح؛ فإنه غير لازم، فإنه عبد مكلف، فإذا أمره سيده، لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء، بخلاف المصلحة؛ فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين، وإذا كان كذلك، فالتعبد لازم لا خيرة فيه، واعتبار المصلحة فيه الخيرة، وما فيه الخيرة يصح تخلفه عقلا، وإذا وقع الأمر والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا؛ فإنه محال؛ فالتعبد بالاقتضاء، أو التخيير، لازم بإطلاق؛ أي سواء فيما ثبت فيه اعتبار التعبد، وما ثبت فيه اعتبار المعاني، واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق، فيما ثبت فيه اعتبار التعبد، وهو ظاهر، ولا فيما ثبت فيه اعتبار المعاني؛ خلافا لمن ألزم اللطف، والأصلح.

           وأيضا، فإنه لازم على رأي من ألزم الأصلح، وقال بالحسن والقبح العقليين؛ فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علة الأمر بالعقل، يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر؛ لأن مخالفته قبيحة، ومن جهة اعتبار المصلحة  أيضا فإن تحصيلها واجب عقلا بالفرض؛ فالأمران على مذهبهم لازمان، ولا يقول أحد منهم إن مخالفة العبد أمر سيده، مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح، بل هو قبيح على رأيهم، وهو معنى لزوم التعبد.

          – إنا إذا فهمنا بالاقتضاء، أو التخيير، حكمة مستقلة في شرع الحكم، فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى، ومصلحة ثانية، وثالثة، وأكثر من ذلك…، وهذا لا ينافي جواز التعبد؛ لأن القياس قد صح كونه دليلا شرعيا، ولا يكون شرعيا إلا على وجه نقدر على الوفاء به عادة؛ وذلك إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم، ولم تكلف أن ننفي ما عداها؛ فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ماظهر لهم، أو كون ذلك الظاهر جزء علة، لا علة كاملة، لكن غلبة الظن بأن ما ظهر مستقل بالعلية، أو صالح لكونه علة، كان في تعدي الحكم به، وأيضا، فقد أجاز الجمهور تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة، وكل منهما مستقل، وجميعها معلوم، فنعلل بإحداها مع الإعراض عن الأخرى، وبالعكس، ولا يمنع ذلك القياس، وإن أمكن أن تكون الأخرى في الفرع، أو لا تكون فيه، وإذا لم يمنع ذلك فيما ظهر، فأولى أن لا يمنع فيما لم يظهر، فإذا ثبت هذا لم يبق للسؤال مورد، فالظاهر هو المبني عليه، حتى يتبين خلافه، ولا علينا.

  3- أن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع  أنها على ضربين:

           أ- ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة؛ كالإجماع، والنص، والإشارة، والسبر[3]، والمناسبة[4]، وغيرها، وهذا القسم هو الظاهر الذي نعلل به، ونقول إن شرعية الأحكام لأجله.

          ب- ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة، ولا يطلع عليه إلا بالوحي؛ كالأحكام التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب، والسعة، وقيام أبهة الإسلام، وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات، وتسليط العدو، وقذف الرعب، والقحط، وسائر أنواع العذاب الدنيوي، والأخروي.

فمثلا، ورد: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين) نوح: 10-11-12، هل يجعل الاستغفار علة – أيضا- في قوة الأبدان، وسعة العلم، وغير ذلك، فيقاس على الإمداد بالأموال، والبنين.

            وإذا كان معلوما من الشريعة في مواطن كثيرة أن ثم مصالح أخر غير ما يدركها المكلف، ولا يقدر على استنباطها، ولا على التعدية بها في محل آخر؛ إذ لا يعرف كون المحل الآخر، وهو الفرع، وجدت فيه تلك العلة البتة، لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل، فبقيت موقوفة على التعبد المحض؛ لأنه لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه، إلا ما دخل الإطلاق، أو العموم المعلل، وإذ ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبدا به، ومعنى التعبد به الوقوف عندما حد الشارع فيه من غير زيادة، ولا نقصان.

           4- إن السائل إذا قال للحاكم: “لم لا تحكم بين الناس، وأنت غضبان؟”، فأجاب: بأني نهيت عن ذلك، كان مصيبا، كما أنه إذا قال: “لأن الغضب يشوش عقلي، وهو مظنة التثبت في الحكم”، كان مصيبا – أيضا -.

والأول جواب التعبد المحض، والثاني جواب الالتفات إلى المعنى، وإذا جاز اجتماعهما، وعدم تنافيهما، جاز القصد إلى التعبد، وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا، وإلا لم يصح توجه القصد إلى ما لا يصح القصد إليه من معدوم، أو ممكن أن يوجد، أو لا يوجد، فلما صح القصد مطلقا صح المقصود له مطلقا؛ وذلك جهة التعبد، وهو المطلوب.

          5- أن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم، والمفسدة كذلك، مما يختص بالشارع، لا مجال للعقل فيه؛ بناءً على قاعدة نفي التحسين، والتقبيح … ؛ فإذاً كون المصلحة هو من قبيل الشارع؛ بحيث يصدقه العقل، وتطمئن إليه النفس؛ فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات، وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا.

          ومن ثم يقول العلماء: إن من التكاليف “ما هو حق لله خاص”، وهو راجع إلى التعبد.

         وما هو حق للعبد: ويقولون في هذا الثاني إن فيه حقا لله، كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضُرب مائة، وسجن عاما …، وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد، وإن عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم، فقد صار إذا كل تكليف حقا لله، فإن ما هو لله فهو لله، وما كان للعبد فراجع لله من جهة حق الله فيه، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله، إذا كان لله أن لا يجعل للعبد حقا أصلا. ومن هذا الموضع يقول كثير من العلماء: إن ” النهي يقتضي الفساد بإطلاق”، علمت مفسدة النهي أم لا.

        6- أن النية شرط في كون العمل عبادة، والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله، ونهيه، وإذا كان هذا جاريا في كل فعل، وترك، ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة.[5]

ومما ينبني على هذه القاعدة [6]:

* أن كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله – تعالى -، كما أن كل حكم شرعي ففيه حق للعباد، إما عاجلا، أم آجلا.

فأما الأول: فحق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، وعبادته امتثال أوامره، واجتناب نواهيه بإطلاق، بل جاء على تغليبه حق العبد في الأحكام الدنيوية.

كما أن كل حكم شرعي ففيه حق العباد إما عاجلا، وإما آجلا؛ بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد.

حق العبد: ما كان راجعا إلى مصالحه في الدنيا، فإن كان من المصالح الأخروية، فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق الله.

ومعنى التعبد عندهم أنه ما لا يعقل معناه على الخصوص، وأصل العبادات راجعة إلى حق الله، وأصل العادات راجعة إلى حقوق العباد.

ومن هنا تتبين الفائدة الثانية؛ وهي: أن الأفعال بالنسبة إلى حق الله، أو حق الآدمي، ثلاثة أقسام:

أ- ماهو حق لله خالص؛ كالعبادات، وأصله التعبد، فإذا طابق الفعل الأمر صح، وإلا فلا.

ب- ما هو مشتمل على حق الله، وحق العبد، والمغلب فيه حق الله، وحكمه راجع إلى الأول.

ج- ما اشترك فيه الحقان، وحق العبد هو المغلب، وأصله معقولية المعنى، فإذا طابق مقتضى الأمر، والنهي، فلا إشكال في الصحة، لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلا، أو آجلا، حسبما يتهيأ له.

* وإن وقعت المخالفة، فهنا نظر: أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد.

فإما أن يحصل مع ذلك حق العبد، ولو بعد الوقوع، على حد ما كان يحصل عند المطابقة، أو أبلغ، أو لا.

فإن فرض غير حاصل، فالعمل باطل؛ لأن مقصود الشارع لم يحصل.

وإن حصل- ولا يكون حصوله إلا مسببا عن سبب آخر غير السبب المخالف-، صح، وارتفع مقتضى النهي بالنسبة إلى حق العبد.

* شمول العبادة للدين كله:

لقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن قول الله -عزوجل -: ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم) البقرة 21، ما العبادة؟ وما فروعها؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟ فأجاب، وقد بدأها بقوله: “العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الباطنة، والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار، والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة.

“كذلك حب الله، ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء،   والخوف من عذابه، وأمثال ذلك – هي من العبادة لله”[7].

وعلى هذا، فالعبادة – كما شرحها ابن تيمية – دائرة واسعة، فهي تشمل أركان الإسلام الخمسة، كما تشمل التعبد التطوعي؛ من تلاوة، ودعاء، وذكر، وتسبيح، وتهليل، وتكبير، و تحميد، وتشمل حسن المعاملة، والأخلاق، والفضائل الإنسانية، والأخلاق الربانية، وغير ذلك مما لم أذكره.

بل إن ابن تيمية – رحمه الله – يرى: “أن الدين كله داخل في العبادة …، إذ الدين يتضمن معنى الخضوع، والذل؛ يقال: دنته فدان، أي أذللته فذل، ويقال: يدين الله، ويدين لله؛ أي يعبد الله، ويطيعه، ويخضع له؛ فدين الله: عبادته، وطاعته، والخضوع له، والعبادة أصل معناها الذل – أيضا”[8]

* العبادة تسع الحياة كلها:

وعن هذه المسألة يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “إن الدين قد جاء يرسم للإنسان منهج حياته الظاهرة، والباطنة، ويحدد سلوكه، وعلاقاته، وفقا لمل يهدي إليه هذا المنهج الإلهي … ، إن عبادة الله تسع الحياة كلها، وتنتظم أمورها قاطبة؛ من أدب الأكل و الشرب، وقضاء الحاجة، إلى بناء الدولة، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وشؤون المال، وشؤون المعاملات، والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم، والحرب”[9].

شمولية العبادة لكيان الإنسان كله:

فالمسلم يعبد الله بالحواس، بالفكر، والقلب، وباللسان، وبالسمع، وبالبصر، كما يعبده ببدنه، وماله، ونفسه، وهجرة أهل، ووطنه[10].

وعلى هذا يفهم قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)، الذاريات: 56، 57، 58.

كما أن هذه القاعدة تخدم قاعدة المقصد الأول من المقاصد الضرورية؛ وهو حفظ الدين الذي يتصدر الضروريات الخمس.

القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي من خلال كتابه “الموافقات”

للدكتور الجيلالي المريني

الطبعة الأولى 1423هـ -2002م.

دار ابن القيم  للنشر و التوزيع- الدمام.

ص:311 وما يليها.


[1] – الموافقات 2/310.

[2] – الموافقات، 2/،310 تعليق الشيخ دراز.

[3] – السبر هو اختبار الوصف في صلاحيته وعدمها؛ للتعليل به، (مباحث العلة في القياس عند الأصوليين؛ عبد الحكيم عبد الرحمن السعدي، المفتي العراقي، ص444).

[4] – مما عُرِّفت به المناسبة: “الوصف الظاهر المنضبط الذي يحصل عقلا من ترتب الحكم عليه ما يصلح ان يكون مقصودا من حصول مصلحة، أو دفع مفسدة”، ويميز هذه التعريفات ضيط، وتحديد المعرّف، وبعده عن الامور العقلية. انظر نفس المصدر السابق، ص398- 399.

[5] – الموافقات 2/310-317.

[6] – الموافقات 2/ 317 إلى 320.

[7] – العبودية، لابن تيمية، ص 3-4.

[8] – العبودية، لابن تيمية، ص 5، 6.

[9] –  العبادات في الإسلام، للدكتور يوسف القرضاوي، ص 51.

[10] – للمزيد من التفصيل أنظر :” مدارج الساكين”، لابن القيم، ” شرح منازل السائرين إلى مقامات (إياك نعبد وإياك نستعين).

د. الجيلالي المريني

كلية الآداب فاس، سايس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق