مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةقراءة في كتاب

كتاب: الحكم بالعدل والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين فقهاء سجلماسة من الاختلاف لأبي سالم العياشي

 

أصدرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في جزئين كتاب: “الحكم بالعدل والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين بعض فقهاء سجلماسة من الاختلاف في تكفير من أقر بوحدانية الله، وجهل بعض ما له من الأوصاف”، وهو من تأليف “أبي سالم العياشي” المتوفى سنة (1090هـ)، قدم له وحققه الأستاذ عبد العظيم صغيري[1].
يقول محقق الكتاب: (إن الثراء العلمي الوافر الذي يمتاز به كتاب “الحكم بالعدل والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين فقهاء سجلماسة من الاختلاف في تكفير من أقر بوحدانية الله وجهل بعض ما له من الأوصاف” لأبي سالم العياشي، وما فيه من توجيه تربوي هادف، بالإضافة إلى معالجته المنهجية المتميزة لظاهرة التكفير، كل ذلك يدفعنا لاقتراح تدريسه في مؤسسات التعليم العالي، أو على الأقل اعتماده ضمن المراجع التي تجب دراستها على طلبة السلك الثالث وسلك الدكتوراه، تمتينا لمعارفهم العقدية، وتحصينا لهم من المزالق الكثيرة التي تتربص بهم من بعض كتبة العصر ومؤلفيه..)[2].
ويسعى كتاب “الحكم بالعدل والإنصاف” كما يبدو من عنوانه إلى دراسة وتحليل قضية عقدية شائكة أدت إلى فتنة عظيمة في عصر المؤلف، وهي قضية التشدد في الدين وتكفير الناس بعضهم لبعض دون موجب شرعي تشهد له القرائن وتسنده الحجج.
وقد حاول المؤلف إرجاع المسألة محل الخلاف إلى أصولها في القرآن والسنة، وحشد الأدلة النقلية والعقلية على سلامة العقيدة الإسلامية وبساطتها، وبالتالي تهافت ادعاءات المتشددين والمكفرين للناس بغير حق.
ويسجل أبو سالم العياشي في كتابه هذا أبرز الصراعات الفكرية والعقدية التي عرفها عصره، فقد أحدثت دعوة محمد بن عمر بن أبي محلي ضجة كبيرة بعد دعوته العوام إلى ضرورة إزالة المنكرات عن العقائد الإيمانية والمعارف الدينية، وذلك بإلزامهم التعرف على الصفات الإلهية ومعانيها ومتعلقاتها، فمن لم يعرف التوحيد على الوجه الذي ذكره العلامة السنوسي، ومن لم يعرف النفي والإثبات في كلمة الإخلاص، فهو كافر لا يضرب له في الإسلام بنصيب.. ولما بلغ هذا الأمر إلى أبي سالم العياشي استجاب للطلبات الملحة التي أنهضته لكتابة هذا السفر النفيس إقامة للحجة وصيانة للدين من التحريف وإسكاتا لصوت الفتنة المنذرة بتكفير الناس بعضهم بعضا.
تأسيسا على ذلك انطلق المؤلف يناقش القضايا العقدية المرتبطة بظاهرة التكفير، وقدم بصددها إجابات علمية تنقض أطاريح التوجهات التكفيرية التي استطاعت أن تصل إلى عقول مجموعة من الشباب اليوم وتجيشهم لحسابها، والتي لا ترى في الدِّين إلا حزّ الرؤوس وإقامة محاكم التفتيش على تصورات الناس ومعتقداتهم.. فقدم مقاربة شاملة لظاهرة التكفير، وعالجها بنفس عميق وحكمة وتبصر، عكس سماحة الإسلام ورحمته وتيسيره على الناس ورِفقه بهم، في وقت يتكالب فيه الكل على الإسلام والمسلمين، متهما إياهم بالهمجية والتطرف وهم من كل ذلك برآء..
كما يعتبر كتاب “الحكم بالعدل والإنصاف” موسوعة متكاملة في الجدل والحوار وأصول المناظرة، فضلا عن كونه كتاب فقه وحديث وأصول، وكتاب أدب وبيان، ومصدرا مهما تجمعت فيه معارف كثيرة قلَّ أن تجتمع بين دفتي كتاب واحد، ويكشف أبو سالم العياشي من خلال مؤلفه هذا عن نفس تفسيري متميز بأصالته، ومطبوع بطابع عالم مالكيِّ المذهب متضلع فيه اطلاعا ومشاركة وتأليفا.. 
ويهدف الكتاب – كذلك- إلى بسط العقيدة الإسلامية في صفائها ونقائها بعيدا عن كل مزايدة أو تمحل، وهذا هو منهج القرآن والسنة والمأثور عن علماء السلف والخلف، كما يكشف عن مقدرة علمية لأبي سالم العياشي من خلال ما تناوله في هذا الكتاب من قضايا عقدية غاية في الخطورة، لذلك يلفي الباحث في هذا الكتاب أن أبا سالم العياشي كان بحاثة عن النصوص من الكتاب والسنة للقول بعدم التكفير ومحاربة التشدد، ومناصرة اللين والرفق امتثالا للحديث الشريف (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، ومن ثمة فكتاب العياشي – كما يقول محققه: (يعتبر دعوة دائمة ومفتوحة للرفق واللطف: (وإني لأرجو بفضل الله أن تكون هذه الرسالة موعظة من الله تعالى على لسان فقير من عباده ممن دعا بلطف ورفق إلى حق من تعلم ما يجب عليه في حق الله تعالى وفي حق رسله عليهم الصلاة والسلام، وللداعي أيضا أن يتلطف ما استطاع، ويدعو برفق وتواضع، ويخاطب الناس بما يفهمون، ويعامل كل أحد على قدر عقله، ولا يكلف العوام بعقائد الأكابر.. فكيف يحمل العامة على فهم دقائق متعلقات الصفات، وكيف يلزمون بالجواب عن أسئلة عويصة لم يتقدم لهم قط سماعها..)[3]، ولذلك سعى – العياشي- في كتابه إلى بذل الجهد وإبراز الحجج المتعلقة بتوسيع كل مخرج أو قول أو تبرير أو رأي يقول بعدم التكفير، وبالمقابل الاجتهاد في تضييق كل ما يؤدي إلى القول بتكفير المسلمين.
هذا بالإضافة إلى دعوته إلى ضرورة ربط العقيدة بالأخلاق في مناهجنا التعليمية مع التنصيص على الحفاظ على هذا الربط في كل المراجع والكتب والأدبيات التي تتناول مواضيع العقيدة، فما نكتوي به اليوم من تفشي ظاهرة التكفير ومظاهر الجفاء والفظاظة في سلوك الشباب وممارسة الرقابة والوصاية على تصرفات الناس وأقوالهم إلا بسبب هذا الفصام بين العقيدة والأخلاق، وعلى العكس – يقول المحقق-: (من ذلك، مهما وجدنا ذلك الربط ما بين العقيدة والأخلاق، إلا وجدنا عقيدة سليمة وسلوكا قويما لتجاوز مختلف الأطاريح التي تنشر فكر التفسيق والتبديع والتكفير بين الناس)[3]..
 وقد ختم – عبد العظيم صغيري- محقق الكتاب هذا المؤلف بملحقات وفصول ختامية ذكر فيها منهج أبي سالم العياشي في تعليم العقائد، فجاء كلام “أبي سالم العياشي” واضحا في ذلك حيث عبر عنه بقوله: (كأنني بجاهل يتحامل أو عالم يتجاهل فيقول: إن صاحب هذه الرسالة قد أنكر الحض على تعليم عقائد الدين، ومال بالناس إلى إيثار الجهل فيها على العلم اليقين، فها أنا ذا أيها الناظر أُبْدي لك مذهبي في هذه المسألة لتعلم ما أدعو إليه وما أنهي عنه.. فعلى الإنسان أن يسعى في خلاص نفسه بصحة عقده أولا على الكتاب والسنة بقدر وُسعه، مقلدا في ذلك لأئمة السنة المشهورين بالعلم والعدالة إن لم يكن له قدرة على أخذ عقائده الصحيحة من الكتاب والسنة، وإن قدر على ذلك فهو أولى، ثم إن كانت له فطنة ووفور عقل يقدر به على الترقي في المعرفة إلى تحصيل علم العقائد بأدلة الكتاب والسنة أولا ثم بالأدلة التي استنبطها الأئمة من قضايا العقل التي لا تقبل النقيض بوجه من الوجوه، فكل ذلك مما هو مطلوب شرعا ونقلا ولا ينكره إلا جاهل أو متجاهل، ثم بعد ذلك يلازم قرع باب سيده بأنواع الطاعات والآداب الشرعية والاحتماء عن كل منهي عنه ومجاهدة النفس بالتزكية عن الأخلاق المذمومة والتحلي بالأخلاق المحمودة، فإن ذلك مما يقوي به الإيمان وتتسع به المعرفة وترسخ في القلوب وتنكشف به الحقائق حتى يصير إيمانه في معدن الشهود والعيان، ويكون إيمانه الأول بالنسبة إلى هذا نسبة النواة إلى النخلة المثمرة. فإذا حصل لهذا العبد من الإيمان والمعرفة بالله القدر الذي قسم له وهيأه الله، فيجب عليه أن يتفقد ما استرعاه الله من الأهل والولد والخدم وغير ذلك، فيعلمهم مما علمه الله ويدعوهم إلى الله بقدر الإمكان..[و] ليكن أول ما يعلمه من الإيمان مدلول “لا إله إلا الله محمد رسول الله” ظاهرا من غير بحث في مدلولات الألفاظ ولا لوازمها، ومعنى ذلك إثبات الألوهية لله ونفيها عما سواها، وإثبات الرسالة لسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم-، ولا يخوض معهم في تحقيق معنى الإله ما هو وفي صفاته ومتعلقاتها حتى يرسخ في قلوبهم التصديق بوجوده ووحدانيته، والتصديق برسالة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- ، ولا يذكر لهم من الصفات إلا ما يتحقق به معنى الألوهية في نفوسهم من القدرة التامة والعلم الواسع ونفوذ الإرادة.. ثم يعلمهم مما يجب في حق الرسول من صدقه وأمانته وتبليغه، ويعظم في قلوبهم حرمته ما استطاع، ويقرر لهم فضله وأنه أفضل الخلق على الإطلاق، فهذا كله يقبله عقل كل أحد ولا شبهة عليه فيه، ثم بعد ذلك ينظر في أحوالهم ويختبر مقدار تنبههم، فمن وجد البلادة مستولية عليه واتصف بقلة فطنة وعدم الذكاء وظهر بلهه ولم يتسع عقله لإدراك أكثر من ذلك، فليقتصر له في مدلول الشهادتين على ما ذُكر حتى يرسخ في قلبه ثم يزيده مدلول “لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”، فإنه مستلزم لأمهات صفات الألوهية، ثم إذا رسخ ذلك علّمه مدلول سورة الإخلاص، فهذه غاية توحيد العامة ولا يزيده على ذلك إلا إن رأى فيه فضل إدراك وفهم. وليخرج به إلى تعليم الشرائع التي لا بد منها، وليعلمه أصول الديانة التي جاء بها النبي – صلى الله عليه وسلم- مثل الإيمان بالبعث واليوم الآخر ووجود الجنة والنار، ويلقي إليه هذه الأشياء مجملة من غير خوض في الكيفيات، ثم بما أوجبه الله على الأعيان من صلاة وصوم وزكاة وغير ذلك.. فهذا مذهبي في تعليم العقائد، ولا أرخص لأحد في مباحثة العوام بالأسئلة العويصة، ولا أقول بتكفير أحد صدق بوحدانية الله ورسالة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم- على الوجه الذي تقدم، وإن جهل شيئا مما زاد على ذلك نبهناه عليه وعلمناه برفق حتى يتعلم، وهو بعد في دائرة الإسلام ولا نخرجه منه بالجهل إلا أن يظهر منه جحود وعناد يستدل به على عدم تصديقه ويكون صريحا في تكذيبه.. هذا مذهبي في هذه القضية ولبيانه ألفنا الرسالة..)[4].. 
فهذا منهج الشيخ أبي سالم العياشي في تعليم العقائد للعامة درءا للمفاسد العظام التي وقعت في عصره من القول بتكفير عامة المسلمين لعدم علمهم بتفاصيل المباحث العقدية، وهو السبب الذي ألف من أجله كتابه “الحكم بالعدل والإنصاف” هذا لتوسيع كل مخرج أو قول أو تبرير أو رأي يقول بعدم التكفير، وبالمقابل الاجتهاد في تضييق كل ما يؤدي إلى القول بتكفير المسلمين، لأن الغلو والتشدد والتكفير أمور تصب كلها في تجاوز الحد والإفراط فيه، فهي شرور كلها تخالف مقاصد الشريعة وروحها المتميزة بالسماحة واليسر ولين الجانب، وهي كلها من أزكى الأخلاق الإسلامية لنشدان التقارب بين المذاهب والأفكار، وبالتالي فكتاب “الحكم بالعدل والإنصاف” يقدم مقاربة شاملة لظاهرة التكفير، ويعالجها بنفس عميق يعكس سماحة الإسلام ورحمته وتيسيره على الناس..
الهوامش: 
[1] كتاب:الحكم بالعدل والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين بعض فقهاء سجلماسة من الاختلاف في تكفير من أقر بوحدانية الله، وجهل بعض ما له من الأوصاف- تأليف: الشيخ أبو سالم العياشي المتوفى سنة (1090هـ)- تقديم وتحقيق: الأستاذ عبد العظيم صغيري- منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-الرباط- الطبعة الأولى: 1436هـ/2015م
[2] نفسه-ج/1-ص:106-107
[3] نفسه-ج/1-ص: 95
[4] نفسه-ج/2-ص: 515/521
إعداد الباحث: منتصر الخطيب

كتاب: “الحكم بالعدل والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين

فقهاء سجلماسة من الاختلاف في تكفير من أقر بوحدانية الله

وجهل بعض ما له من الأوصاف” لأبي سالم العياشي (ت. 1090هـ)[1]

 

“إن الثراء العلمي الوافر الذي يمتاز به كتاب “الحكم بالعدل والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين فقهاء سجلماسة من الاختلاف في تكفير من أقر بوحدانية الله وجهل بعض ما له من الأوصاف” لأبي سالم العياشي، وما فيه من توجيه تربوي هادف، بالإضافة إلى معالجته المنهجية المتميزة لظاهرة التكفير، كل ذلك يدفعنا لاقتراح تدريسه في مؤسسات التعليم العالي، أو على الأقل اعتماده ضمن المراجع التي تجب دراستها على طلبة السلك الثالث وسلك الدكتوراه، تمتينا لمعارفهم العقدية، وتحصينا لهم من المزالق الكثيرة التي تتربص بهم من بعض كتبة العصر ومؤلفيه..”[2].

ويسعى كتاب “الحكم بالعدل والإنصاف” كما يبدو من عنوانه إلى دراسة وتحليل قضية عقدية شائكة أدت إلى فتنة عظيمة في عصر المؤلف، وهي قضية التشدد في الدين وتكفير الناس بعضهم لبعض دون موجب شرعي تشهد له القرائن وتسنده الحجج.

وقد حاول المؤلف إرجاع المسألة محل الخلاف إلى أصولها في القرآن والسنة، وحشد الأدلة النقلية والعقلية على سلامة العقيدة الإسلامية وبساطتها، وبالتالي تهافت ادعاءات المتشددين والمكفرين للناس بغير حق.

ويسجل أبو سالم العياشي في كتابه هذا أبرز الصراعات الفكرية والعقدية التي عرفها عصره، فقد أحدثت دعوة محمد بن عمر بن أبي محلي ضجة كبيرة بعد دعوته العوام إلى ضرورة إزالة المنكرات عن العقائد الإيمانية والمعارف الدينية، وذلك بإلزامهم التعرف على الصفات الإلهية ومعانيها ومتعلقاتها، فمن لم يعرف التوحيد على الوجه الذي ذكره العلامة السنوسي، ومن لم يعرف النفي والإثبات في كلمة الإخلاص، فهو كافر لا يضرب له في الإسلام بنصيب.. ولما بلغ هذا الأمر إلى أبي سالم العياشي استجاب للطلبات الملحة التي أنهضته لكتابة هذا السفر النفيس إقامة للحجة وصيانة للدين من التحريف وإسكاتا لصوت الفتنة المنذرة بتكفير الناس بعضهم بعضا.

تأسيسا على ذلك انطلق المؤلف يناقش القضايا العقدية المرتبطة بظاهرة التكفير، وقدم بصددها إجابات علمية تنقض أطاريح التوجهات التكفيرية التي استطاعت أن تصل إلى عقول مجموعة من الشباب اليوم وتجيشهم لحسابها، والتي لا ترى في الدِّين إلا حزّ الرؤوس وإقامة محاكم التفتيش على تصورات الناس ومعتقداتهم.. فقدم مقاربة شاملة لظاهرة التكفير، وعالجها بنفس عميق وحكمة وتبصر، عكس سماحة الإسلام ورحمته وتيسيره على الناس ورِفقه بهم، في وقت يتكالب فيه الكل على الإسلام والمسلمين، متهما إياهم بالهمجية والتطرف وهم من كل ذلك برآء..

كما يعتبر كتاب “الحكم بالعدل والإنصاف” موسوعة متكاملة في الجدل والحوار وأصول المناظرة، فضلا عن كونه كتاب فقه وحديث وأصول، وكتاب أدب وبيان، ومصدرا مهما تجمعت فيه معارف كثيرة قلَّ أن تجتمع بين دفتي كتاب واحد، ويكشف أبو سالم العياشي من خلال مؤلفه هذا عن نفس تفسيري متميز بأصالته، ومطبوع بطابع عالم مالكيِّ المذهب متضلع فيه اطلاعا ومشاركة وتأليفا.. 

ويهدف الكتاب – كذلك- إلى بسط العقيدة الإسلامية في صفائها ونقائها بعيدا عن كل مزايدة أو تمحل، وهذا هو منهج القرآن والسنة والمأثور عن علماء السلف والخلف، كما يكشف عن مقدرة علمية لأبي سالم العياشي من خلال ما تناوله في هذا الكتاب من قضايا عقدية غاية في الخطورة، لذلك يلفي الباحث في هذا الكتاب أن أبا سالم العياشي كان بحاثة عن النصوص من الكتاب والسنة للقول بعدم التكفير ومحاربة التشدد، ومناصرة اللين والرفق امتثالا للحديث الشريف (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، ومن ثمة فكتاب العياشي – كما يقول محققه: (يعتبر دعوة دائمة ومفتوحة للرفق واللطف: (وإني لأرجو بفضل الله أن تكون هذه الرسالة موعظة من الله تعالى على لسان فقير من عباده ممن دعا بلطف ورفق إلى حق من تعلم ما يجب عليه في حق الله تعالى وفي حق رسله عليهم الصلاة والسلام، وللداعي أيضا أن يتلطف ما استطاع، ويدعو برفق وتواضع، ويخاطب الناس بما يفهمون، ويعامل كل أحد على قدر عقله، ولا يكلف العوام بعقائد الأكابر.. فكيف يحمل العامة على فهم دقائق متعلقات الصفات، وكيف يلزمون بالجواب عن أسئلة عويصة لم يتقدم لهم قط سماعها..)[3]، ولذلك سعى – العياشي- في كتابه إلى بذل الجهد وإبراز الحجج المتعلقة بتوسيع كل مخرج أو قول أو تبرير أو رأي يقول بعدم التكفير، وبالمقابل الاجتهاد في تضييق كل ما يؤدي إلى القول بتكفير المسلمين.

هذا بالإضافة إلى دعوته إلى ضرورة ربط العقيدة بالأخلاق في مناهجنا التعليمية مع التنصيص على الحفاظ على هذا الربط في كل المراجع والكتب والأدبيات التي تتناول مواضيع العقيدة، فما نكتوي به اليوم من تفشي ظاهرة التكفير ومظاهر الجفاء والفظاظة في سلوك الشباب وممارسة الرقابة والوصاية على تصرفات الناس وأقوالهم إلا بسبب هذا الفصام بين العقيدة والأخلاق، وعلى العكس – يقول المحقق-: (من ذلك، مهما وجدنا ذلك الربط ما بين العقيدة والأخلاق، إلا وجدنا عقيدة سليمة وسلوكا قويما لتجاوز مختلف الأطاريح التي تنشر فكر التفسيق والتبديع والتكفير بين الناس)[3]..

 وقد ختم – عبد العظيم صغيري- محقق الكتاب هذا المؤلف بملحقات وفصول ختامية ذكر فيها منهج أبي سالم العياشي في تعليم العقائد، فجاء كلام “أبي سالم العياشي” واضحا في ذلك حيث عبر عنه بقوله: (كأنني بجاهل يتحامل أو عالم يتجاهل فيقول: إن صاحب هذه الرسالة قد أنكر الحض على تعليم عقائد الدين، ومال بالناس إلى إيثار الجهل فيها على العلم اليقين، فها أنا ذا أيها الناظر أُبْدي لك مذهبي في هذه المسألة لتعلم ما أدعو إليه وما أنهي عنه.. فعلى الإنسان أن يسعى في خلاص نفسه بصحة عقده أولا على الكتاب والسنة بقدر وُسعه، مقلدا في ذلك لأئمة السنة المشهورين بالعلم والعدالة إن لم يكن له قدرة على أخذ عقائده الصحيحة من الكتاب والسنة، وإن قدر على ذلك فهو أولى، ثم إن كانت له فطنة ووفور عقل يقدر به على الترقي في المعرفة إلى تحصيل علم العقائد بأدلة الكتاب والسنة أولا ثم بالأدلة التي استنبطها الأئمة من قضايا العقل التي لا تقبل النقيض بوجه من الوجوه، فكل ذلك مما هو مطلوب شرعا ونقلا ولا ينكره إلا جاهل أو متجاهل، ثم بعد ذلك يلازم قرع باب سيده بأنواع الطاعات والآداب الشرعية والاحتماء عن كل منهي عنه ومجاهدة النفس بالتزكية عن الأخلاق المذمومة والتحلي بالأخلاق المحمودة، فإن ذلك مما يقوي به الإيمان وتتسع به المعرفة وترسخ في القلوب وتنكشف به الحقائق حتى يصير إيمانه في معدن الشهود والعيان، ويكون إيمانه الأول بالنسبة إلى هذا نسبة النواة إلى النخلة المثمرة. فإذا حصل لهذا العبد من الإيمان والمعرفة بالله القدر الذي قسم له وهيأه الله، فيجب عليه أن يتفقد ما استرعاه الله من الأهل والولد والخدم وغير ذلك، فيعلمهم مما علمه الله ويدعوهم إلى الله بقدر الإمكان..[و] ليكن أول ما يعلمه من الإيمان مدلول “لا إله إلا الله محمد رسول الله” ظاهرا من غير بحث في مدلولات الألفاظ ولا لوازمها، ومعنى ذلك إثبات الألوهية لله ونفيها عما سواها، وإثبات الرسالة لسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم-، ولا يخوض معهم في تحقيق معنى الإله ما هو وفي صفاته ومتعلقاتها حتى يرسخ في قلوبهم التصديق بوجوده ووحدانيته، والتصديق برسالة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- ، ولا يذكر لهم من الصفات إلا ما يتحقق به معنى الألوهية في نفوسهم من القدرة التامة والعلم الواسع ونفوذ الإرادة.. ثم يعلمهم مما يجب في حق الرسول من صدقه وأمانته وتبليغه، ويعظم في قلوبهم حرمته ما استطاع، ويقرر لهم فضله وأنه أفضل الخلق على الإطلاق، فهذا كله يقبله عقل كل أحد ولا شبهة عليه فيه، ثم بعد ذلك ينظر في أحوالهم ويختبر مقدار تنبههم، فمن وجد البلادة مستولية عليه واتصف بقلة فطنة وعدم الذكاء وظهر بلهه ولم يتسع عقله لإدراك أكثر من ذلك، فليقتصر له في مدلول الشهادتين على ما ذُكر حتى يرسخ في قلبه ثم يزيده مدلول “لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”، فإنه مستلزم لأمهات صفات الألوهية، ثم إذا رسخ ذلك علّمه مدلول سورة الإخلاص، فهذه غاية توحيد العامة ولا يزيده على ذلك إلا إن رأى فيه فضل إدراك وفهم. وليخرج به إلى تعليم الشرائع التي لا بد منها، وليعلمه أصول الديانة التي جاء بها النبي – صلى الله عليه وسلم- مثل الإيمان بالبعث واليوم الآخر ووجود الجنة والنار، ويلقي إليه هذه الأشياء مجملة من غير خوض في الكيفيات، ثم بما أوجبه الله على الأعيان من صلاة وصوم وزكاة وغير ذلك.. فهذا مذهبي في تعليم العقائد، ولا أرخص لأحد في مباحثة العوام بالأسئلة العويصة، ولا أقول بتكفير أحد صدق بوحدانية الله ورسالة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم- على الوجه الذي تقدم، وإن جهل شيئا مما زاد على ذلك نبهناه عليه وعلمناه برفق حتى يتعلم، وهو بعد في دائرة الإسلام ولا نخرجه منه بالجهل إلا أن يظهر منه جحود وعناد يستدل به على عدم تصديقه ويكون صريحا في تكذيبه.. هذا مذهبي في هذه القضية ولبيانه ألفنا الرسالة..)[4].. 

فهذا منهج الشيخ أبي سالم العياشي في تعليم العقائد للعامة درءا للمفاسد العظام التي وقعت في عصره من القول بتكفير عامة المسلمين لعدم علمهم بتفاصيل المباحث العقدية، وهو السبب الذي ألف من أجله كتابه “الحكم بالعدل والإنصاف” هذا لتوسيع كل مخرج أو قول أو تبرير أو رأي يقول بعدم التكفير، وبالمقابل الاجتهاد في تضييق كل ما يؤدي إلى القول بتكفير المسلمين، لأن الغلو والتشدد والتكفير أمور تصب كلها في تجاوز الحد والإفراط فيه، فهي شرور كلها تخالف مقاصد الشريعة وروحها المتميزة بالسماحة واليسر ولين الجانب، وهي كلها من أزكى الأخلاق الإسلامية لنشدان التقارب بين المذاهب والأفكار، وبالتالي فكتاب “الحكم بالعدل والإنصاف” يقدم مقاربة شاملة لظاهرة التكفير، ويعالجها بنفس عميق يعكس سماحة الإسلام ورحمته وتيسيره على الناس..

 

إعداد الباحث: منتصر الخطيب

 

الهوامش: 


[1] كتاب: الحكم بالعدل والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين بعض فقهاء سجلماسة من الاختلاف في تكفير من أقر بوحدانية الله، وجهل بعض ما له من الأوصاف- تأليف: الشيخ أبو سالم العياشي المتوفى سنة (1090هـ)- تقديم وتحقيق: الأستاذ عبد العظيم صغيري- منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-الرباط- الطبعة الأولى: 1436هـ/2015م.

[2] من تقديم المحقق الأستاذ عبد العظيم صغيري للكتاب -ج/1-ص:106-107.

[3] نفسه-ج/1-ص: 95.

[4] نفسه-ج/2-ص: 515/521.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق