مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

كتاب الأزهـيّة ومنهـج الهَـرَويّ في تأليـفه

«الأزهية في علم الحُروف»، وفي بعض المَظانّ: «الأزهية في الحروف»، مؤلَّفٌ مهمّ يندرج ضمن باب من الأبواب النحوية المعروفة، التي وضَع فيها علماء الإسلام تصانيفَ كثيرةً، هو بابُ الحروف، وبالتحديد «حروف المَعاني» لا «حروف المَباني». وقد ألّفه علي بن محمد النحوي الهروي في عصر بني العبّاس، وحُقق في بداية السبعينيات على يد عبد المعين الملّوحي، وصدر ضمن منشورات مجمع اللغة العربية بدمشق. ولأهمية الكتاب، وقيمة تحقيقه العلمي الرصين، وكثرة الإقبال على اقتناء نُسَخه، فقد نفدَتْ طبعته الأولى؛ ممّا جعل المحقِّق يُقْدِمُ على إعداده وطبعه ثانيةً، عامَ 1982، بعد أنْ أدخل عليه بعضَ ما رآهُ ضروريا لائقاً بالطبعة الثانية، وكان للمراجعة التي قام بها الأستاذ أحمد راتب النفّاخ للكتاب فضلٌ كبير على الصورة النهائية التي خرج بها العمل؛ كما يعترف بذلك الملوحي نفسُه. وقد اعتمدْنا، في إنجاز هذا المقال، على طبعة الكتاب الثانية، وتَعْدادُ صفحاتها 382، من القِطْع المتوسط. وقبل التعريف بالأُزْهِيّة ومنهجها، لا بأس من أن نبدأ بالترجمة لصاحبها في بضعة أسطر.

1- مَنْ هو الهـــروي؟

حينما نعود إلى كتب التراجم والطبقات، قديمِها وحديثِها، بحثاً عن معلومات وافية عن حياة علي الهروي وإنتاجه الفكري، فإننا لا نكاد نعثر سوى على نَزْر يسيرٍ منها، لا يُسْعِفنا – في الحقيقة – على تكوين فكرة أو صورة واضحة، بما فيه الكفاية، عن مسيرة حياة الرجل. ويكاد هذا النزر نفسه يتكرر في تلك الكتب جميعِها، ومن أبرزها «معجم الأدباء» لياقوت الحَمَويّ، و«بغية الوعاة» للسيوطي، و«كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» لحاجي خليفة، و«معجم المؤلفين» لعمر رضا كحّالة. فهذه المصادرُ تُجْمِعُ على أن الرجُل هو عليّ بن محمد، وكُنيته أبو الحسن، أصْلُه ومسقط رأسه في هراة، ولذلك نُسب إليها، فقيل له: «الهروي». ولد عام 981م، واستوطن مصر، فيما بعْدُ، وفيها توفي حوالي سنة 415هـ/ 1024م. معنى هذا أنه عاش في عصرٍ كانت فيه حدّة الخلاف بين مُتقدِّمي النحاة قد هدأتْ، وأضحى النحو العربي يتجه نحو الاستقرار والانفتاح كذلك على المؤثرات الأجنبية.

ولا يُعرَف له من الأولاد إلا محمد بن علي، المكنَّى بأبي سهل، وكان – أيضاً – لغوياً ونحْوياً، ومن مؤلفاته – في هذا المجال – شرح الفصيح، ومُختصَره، وكتاب السيف. ولا يجب أن يُفهَم من لفظ كنيته أن له من الأبناء، كذلك، الحسن؛ لأنه كانت عادة أهل مصر، عصْرَئذٍ، تَكَنِّي كلّ مَنْ كان اسمُه عليّاً بتلك الكنْية (أبو الحسن).

لقد كان علي بن محمد الهروي لغويا ونحويا وأديبا، تلقى العلم ورَوَاهُ عن جملة من المشايخ في مجالي اللغة والنحو، وفي طليعتهم الأزهري صاحبُ التهذيب، والجوهري صاحبُ الصَّحاح. ولعلّ من أهمّ تلاميذه ابنَه أبا سهْل؛ أحدَ كَتَبَة الأزهية ونُسّاخها. قال القِفْطي، في «إنباه الرواة على أنباه النحاة»: إن الهروي «صنّف كتاباً في معاني العوامل سمّاه «الأزهية»، رأيتُه بخطّ ولده [يَقصد أبا سهل]، وملكتُه، والحمد لله» (2/111). وممّا وُصف به الرجلُ أنه كان «جيّد القياس، صحيح القريحة، حَسَن العناية بالآداب». (معجم الأدباء، 14/248)

وعلاوة على «الأزهية»؛ أشهرِ آثار الهروي على الإطلاق، تذكُر له بعض التراجم ومصادر الأدب كتابين آخَرَيْن، توجد لهما أصولٌ خطّية بمصر؛ أحدُهما بعنوان «الذخائر في النحو» (4 مجلدات)، والآخَرُ بعنوان «المُرْشِد»، وهو مُختصَر في النحو، وذكر بعضُهم أنه مطوَّل من عشرة مجلّدات. وأشار الهروي، في الأزهية، إلى عناوين أخرى من كتبه ممّا لم يُوقَفْ عليها؛ كما في إشارته، في ص 185، إلى أن له كتاباً موسُوماً بـ«المذكر والمؤنث»، وكما في إشارته إلى كتابٍ آخر له، في ص 264، بعنوان «الوَقْـف».

2- محتوى كتاب «الأزهية»:

يتناول هذا الكتاب، بالشرح المُسْتفيض، جملةً من العوامل النحوية وحروف المعاني، من خلال بيان أوجُه استعمالها في اللغة العربية، ومَواضِعها وأحكامها، مدعّماً ذلك بكَمٍّ وافر جدّا من الأمثلة والشواهد، ومستدلاّ بأقوال نُحاة البصرة والكوفة وبغداد كذلك، من غير تعصُّب لمدرسة على حساب أخرى، بل كان ينتصر للرأي الذي يراه صائباً وقويا ومنطقيا، ولم يمنعه ذلك من الإدْلاء بدلوه في كثير من القضايا والمَسائل النحوية، وجاءت آراؤه، في بعض الأحايين، متفرِّدةً ومتميّزة. وهذا ما يؤكّده عبد المعين الملّوحي بقوله عن الهروي: «نجد له [في الكتاب] آراء بعيدة عمّا استقرّت عليه آراءُ النحاة، وبذلك يتأكد لنا عدم تقيُّده بمدرسة نحوية معينة، بل قد نتوسّع فنقول: إن له آراء خاصّة». (من تقديم المحقق للأزهية، ص 13)

ويضمّ الكتاب خمسة وثلاثين باباً، تتفاوت فيما بينها طولا وقِصَراً، وهي على التتابُع: باب ألف القطع وألف الوصل – باب دخول ألف الاستفهام على ألف الوصل وعلى ألف القطع وعلى ألف لام التعريف – باب مواضع «إنْ» المكسورة الخفيفة – باب مواضع «أنْ» المفتوحة الخفيفة – باب أقسام «ما» – باب أقسام «مَنْ» – باب مواضع «أيّ» – باب مواضع «أوْ» – باب مواضع «أمْ» – باب الفرق بين «أو» و«أم» في النسَق والاستفهام والجواب فيهما – باب «إمّا» و«أمّا» – باب مواضع «لا» – باب مواضع «ألاَ» – باب مواضع «لوْلا» – باب مواضع «إلاّ» – باب مواضع «غَيْر» – باب مواضع «كانَ» – باب مواضع «على» – باب مواضع «ليْسَ» – باب مواضع «لَمّا» – باب مواضع «مَتَى» – باب مواضع «إذا» – باب مواضع «ذا» – باب مواضع «هلْ» – باب مواضع «قَدْ» – باب مواضع «حتّى» – باب مواضع «لعلّ» – باب مواضع «بَلْ» – باب مواضع «مِنْ» – باب مواضع الواو – باب مواضع الفاء – باب مواضع هاء التأنيث – باب «رُبَّ» وأحكامها – باب دخول حروف الخفض بعضها مكانَ بعض – باب الأصل في «الذي» واللغات فيها.

وقد ذكر الهروي، في مقدمة الأزهية، أن هذه الأبواب جمع مادّتها من كتابه الضخم الملقب بـ«الذخائر»، وزاد عليها إضافات أخرى. قال: «سألتني – أيّدك الله – أنْ أجمع لك أبواباً من النحو، قد ذكرْناها متفرقة في كتابنا الملقب بالذخائر ليسْهُل عليك حفظها وقراءتها، وقد فعلتُ ذلك على ما التمسْتَ، مع زياداتٍ زِدْتُها في هذا الكتاب». (ص 19)

3- منهج الهروي في الأزهية:

اعتمد أبو الحسن علي الهروي، في هذا الكتاب، منهجاً واضحاً دقيقاً، التزم بمقتضياته – إلى حدّ بعيد – على امتداد أبواب «الأزهية». وهذا ما بوَّأه مكانة مميَّزةً ضمن كتب النحو، في تراثنا، من حيث المنهج، وجعله ينافس – في هذا الجانب – المصادر النحوية ذات الشهرة الواسعة في الأدب العربي؛ مِثْل «مُغْني اللبيب عن كتب الأعاريب». يقول الملّوحي عن منهج الأزهية: «أكاد أدّعي أنه في منهجيته ودقته في هذا الكتاب يوشك أن يكون أكثرَ منهجيةً ودقةً من ابن هشام، على رغم الفرق الشاسع بين زَمَنيْ هذين العالِمين». (ص 6)

ويقوم هذا المنهج على خُطْوات مترابطة، أولاها الإشارة إلى عدد مواضع الحرف المَعْني وأوجه استعماله في العربية، فالانتقال إلى تفصيل القول في كل موضع أو استعمال منها على حِدَة، مع الحرص على التمثيل له بما يناسب من أمثلة دالّة، والاستشهاد له بجملة من الشواهد القرآنية أو الشعرية أو غيرها، وتحليلها وتوضيحها بعد تحديد موضع الشاهد فيها. والواضحُ من تصفح الكتاب كله، ومن إلقاء نظرة على فهرس الشواهد الوارد في آخره، أن هذه الأخيرة كثيرة ومتنوعة في الأزهية، وقد اجتهد المحقق، مشكوراً، في تخريجها، مستعيناً – أحياناً – بعدد من الباحثين ذوي الاطلاع الواسع على الأدب العربي القديم. ثم إن جملة من تلك الأمثلة والشواهد لا نعثر عليها في كتب النحو التي بين يدينا، ممّا يرجّح أنها ممّا قد يكون الهروي متفرِّداً بإيراده.

وكان الهروي، في أثناء شرحه الحروفَ والعوامل، وبيان استعمالاتها المختلفة، يأتي بأقوال لنحاة من مدارس متنوعة، طالما احتدّ بينها الخلاف، دونما تعصُّب أعمى لإحْداها. فهو لم يُقيِّدْ نفسَه باتباع مذهب نحويّ مَا، بل كان يميل إلى حيث تبدّى له الصواب، وإلى الرأي القوي المُقْنِع، دون اعتبارٍ لهُوية المدرسة التي ينتسب إليها صاحب هذا الرأي. ولهذا، نُلْفيه يورد، في كتابه، آراء لنحاة البصرة (الخليل – سيبويه – المبرّد…)، ونحاة الكوفة (الكِسائي – الفرّاء – ثعلب…)، ونحاة مدرسة بغداد (الزجاجي – أبو علي الفارسي – ابن جنّي…). يقول مُحقق «الأزهية» في هذا السياق: «ليس للهروي في كتابه هذا مذهبٌ واحد يلتزم به؛ فهو يأخذ من الكوفيين والبصريين على حدٍّ سواء، ويُورِد آراء الفريقين، ويؤيّد هذا الرأي أو ذاك، دون حمْلةٍ على واحد منهما، وربما أتى بآراء المدرسة البغدادية. وقد يتفرّد بتقرير رأي خاصّ به، ولكنْ هذا التفرُّد غير كثير». (ص 12)

ولتوضيح منهج تناول الهروي موضوعَ كتابه، بصورة أجْلى، ارتأيتُ الوقوفَ عند أحد أبوابه فحَسْبُ، ويتعلق الأمر بـ«باب مواضع (مِنْ)» [من ص 224 إلى ص 230]. فقد حَصَر المؤلِّف، في أوله، مواضعَ العامل «مِنْ»، وأوْجُه استعماله في اللغة العربية، في أربعة. إذ إن هذا الحرف قد يكون لابتداء الغاية، وقد يكون للتبْعيض، وقد يكون لتبيين الجنس، وقد يرد في الكلام زائداً للتوكيد. وتوسّل الهروي، في شرْح هذه الاستعمالات، بجملة وافرة من الأمثلة المُوَضِّحة والشواهد المختلفة (آيات عديدة – حديث نبوي – بيت شعري – نصّ من كتاب سيبويه)، على أنه – في الكتاب كلِّه – لا يهتمّ – غالباً – بذكر القراءات القرآنية وأصحابها. ولم يكن الهروي يأتي بالمثال أو الشاهد لأجل الإتيان به فقطّ، بل كان يعلّق على كلٍّ منها تعليقاً ينصبّ، بالأساس، على استخراج موضع الشاهد أو المَعْنيّ بالشرح فيه، ومعالجته، وبيان شتى أوجه القراءة الممكنة له، والمقارنة بينها أحياناً، بما يقرّر القاعدةَ المُنْطَلَقَ منها. ولم يجد حَرَجاً في إيراد أقوال نحاة عديدين، لدى شرحه مواضع «مِنْ» في العربية، وإنْ كانوا من مدارسَ متعارضةٍ، مِنْ غير إظهار أي تحامل أو تحيُّز أو تعصب حِيالها؛ إذ نجده، في هذا الباب، يستحضر آراء لكلٍّ من سعيد بن مسعدة (الأخفش الأوسط)، وسيبويه، والكسائي، والفراء، وأبي إسحاق الزّجاج. فقد كان، هنا، يكتفي بإيراد الرأي كما هو، وشَرْحِه، دون أنْ يصْدُر عنه ما يفيد ترجيحَه أحد الآراء على الباقي.

وختم الهروي حديثه عن «مِنْ» بالوقوف عند بعض أحكامها، ولاسيما المتعلقة منها بهذا الحرف لَمَّا يُسْتعمَل زائداً (الموضع الرابع)؛ فقال عنها: «واعلم أن «مِنْ» الزائدة للتوكيد لا تدخل على المَعْرفة، ولا تدخل في الإيجاب. لا تقول: «ما جاءني من عبد الله»…» (ص 230). وقال مؤكِّداً أنّ زيادة «مِنْ» إنما تكون لفائدة، وليست مجّانيةً غيرَ ذات جدوى: «واعلم أنك إذا قُلْتَ «ما جاءني من رجل»، فإنّ فيه فائدة ومعنى زائداً على قولك «ما جاءني رجلٌ»؛ وذلك أنك إذا قلتَ «ما جاءني رجل»، احتمل أن يكون نافياً لرجل واحد، وقد جاءك أكثرُ من رجل واحد، واحتمل أن يكون نافياً لجميع جنس الرجال. وإذا أدْخَلْتَ «مِنْ»، فقلتَ «ما جاءني من رجل»، كنتَ نافياً لجميع الجنس. فـ«مِنْ»، ها هنا، تُوجِبُ استغراقَ الجنس، وكذلك ما أشْبَهه». (ص 230)

تلكم، إذاً، قراءة مركّزة في مؤلَّف «الأزهية» الذي وصفه، قديماً، ياقوت الحموي الروميّ (ت 626هـ) بأنه «كتاب جليل أبان فيه مؤلِّفه عن فضله» (معجم الأدباء، 14/249)، وكان إضافة مهمّة إلى مجموع ما صنّفه علماؤنا الأقدمون في باب الحروف، تطرَّق إلى شرح جملة من هذه العوامل النحوية، من حيث بيانُ أوجه استعمالها ومواضعها وأحكامها ونحو ذلك ممّا يتمحَّضُ لها، متوسِّلاً بمنهاج مُحْكَم دقيق واضح الصُّوى، وبلُغةٍ علمية وحِجاجية رَصينة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق