مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةقراءة في كتاب

كتاب «إضاءات علمية في الحضارة الإسلامية بالمغرب العربي»

الكتاب الذي أتشرف بتقديمه إلى القراء اليوم كتاب نفيس، لأنه يضع اليد على إشكالية من أبرز الإشكاليات المعرفية في العالم العربي والإسلامي، وهي تثمين معطيات التاريخ العلمي لاستشراف مستقبل علمي وإنساني زاهر.

إن تأليف الدكتور الفاضل عبد الله بنصر العلوي لهذا الكتاب القيم يأتي ضمن سياق اهتمامه بمجالات معرفية حرص فيها – بتعبيره – على «التعريف بإسهام الحضارة العربية والإسلامية في زمن بلغت فيه مدارج الرقي والازدهار، فكان الخوض في غمارها بالقدر الذي استوعبه في تجربة فتحت له مغالق موضوع طالما كان متحفِّزاً على مساءلته في سياق تراثي مجيد وتطلع إلى معاودة التفكير في مظانه المستشرفة لواقع نعيد فيه بناء الذات، ولمستقبل نتطلع فيه إلى الإسهام بدور جديد في عالم يقرُّ بما للحضارة العربية والإسلامية من إمكانيات التجدد والإحياء».

أول ما أثار انتباهي في كتاب الأستاذ الدكتور عبد الله بنصر العلوي: إضاءات علمية في الحضارة الإسلامية بالمغرب العربي، أنه ينتقي بدقة شديدة المواضيع والشخصيات العلمية التي يشتغل عليها؛ فهو يعي تمام الوعي أن التأريخ للعلم العربي الإسلامي بشكل عام، والعلم المغربي بشكل خاص، يستدعي التسلح بعدة منهجية مناسبة من أجل حسن اختيار النماذج الأكثر تعبيرا عن العصر والحركة العلمية فيه؛ فكم من النصوص كتبت حول تاريخ العلوم الإسلامية ثم طواها النسيان، ليس لأنها بحوث يفتقر أصحابها للهمة والاجتهاد والتحقيق، لكن لأنها تفتقر لرؤية منهجية تدمج الرؤية المعرفية الإبستيمولوجية بوعي تاريخي فلسفي يراعي السياق والمآل، ضمن رؤية قصدية تدرس الماضي العلمي عبر أفق الواقع وأفق المستقبل. إن هذا في نظري مقصد نبيل من مقاصد الدراسات حول تاريخ العلوم التطبيقية؛ وأظن أن الأستاذ عبد الله بنصر العلوي نحى في كتابه القيم هذا المنحى المنهجي الواعد.

فبالاطلاع على فصول كتاب الأستاذ بنصر العلوي يتبين وجود خيط ناظم – معرفي ومنهجي – يجمع بينها، وهو ما ينم عن رؤية علمية ومنهجية مدروسة، وعن مقاصد واضحة في البحث والاستشراف. فقراءة فصول كتاب الأستاذ بنصر العلوي من قبيل  إسهام علماء القيروان في العلوم الطبية: ابن الجزار نموذجا؛ وثقافة الطفل في التراث العلمي العربي ؛ والفواكه مصدرا للعلاج الطبيعي في التراث الطبي العربي؛ والفواكه بين التراث العربي وعلم التغذية الحديثة، تدل على حرص الدكتور بنصر العلوي على توسيع دائرة الاهتمام بنصوص يكمل بعضها بعضا؛ فالأستاذ لا يرى فصلا منهجيا بين التعريف بنصوص مختصة في التغذية أو الفواكه أو طب الأطفال، وبين بحثه في التراث العلمي لجامعة القرويين، على اعتبار أن هذا المسجد المبارك/ الجامعة يمثل رمزا للتألق المغربي في العلوم الكونية، وما ارتبط بها من ازدهار المدينة الإسلامية والحياة الإنسانية وفق قواعد الاجتماع الإسلامي.

والحال أن المتعمق في بحوث الأستاذ بنصر العلوي في التراث العلمي المغربي، يخرج بانطباع أن الرجل – أمد الله في عمره – وضع لبنة أساسية في هذا المجال، وأنه ساهم في رسم الطريق لجيل من الباحثين، نرجو أن يضطلع بهذه المهمة التي أضحت ضرورة علمية وتاريخية وحضارية، إذ يتفق مؤرخو الفكر اليوم أنه يصعب تجديد العلوم لرفد الحضارة وإسعاد الناس دون الاستناد على التراث العلمي الذي يحتفظ بعبقرية الأمة وأصالتها المعرفية والإنسانية والأخلاقية..

لقد كان حافز الأستاذ بنصر العلوي، في نشر مداخلاته العلمية في مؤتمرات وطنية ودولية ضمن كتاب تركيبي جامع هو توخيه أن يجد القارئ فيها مبعث تقديره لتراث الأجداد، وأن يعي بمدى حضوره في الواقع العلمي المعاصر، ليس باعتباره تاريخا مجيدا مضى، بل واقعا حيا شديد الموائمة مع الكثير من معطيات علوم الطب والصيدلة كما رامها المحدثون، وكما يطورها المعاصرون، إذ الحضارة لا تموت، ولكنها حية باستمرار في البحث العلمي الجاد الذي يقرُّ بفعالياتها…

كم هو رائع هذا الربط الذي يقيمه الدكتور عبد الله بنصر العلوي بين تقدير علم الأجداد والتعرف عليه من جهة، وبين إبراز واقعيته وإنسانيته وموافقته لكثير من أسس العلم الكوني المعاصر، على اعتبار استمرار علوم الأولين فينا، وأنه لا يمكن لأي نهضة علمية أن تتحقق في العالم الإسلامي اليوم دون استيعاب التراث العلمي العربي والتعمق في دراسته واستثماره في العلوم المعاصرة…

أسئلة وإشكاليات كبرى يطرحها أستاذنا بنصر العلوي في كتابه القيم هذا، فاتحا بذلك آفاقا واسعة لبحث علمي ثري ونبيل، لو تيسرت له الشروط الذاتية والموضوعية لتحقيقه لساهم بحق في ربط الماضي العلمي العظيم للمغرب العربي بحاضر مشوب بكثير من الأعطاب النظرية والتطبيقية، في أفق استشراف مستقبل نتمنى أن يكون زاهرا بفضل من الله.

يحرص الدكتور بنصر العلوي في كتابه على إقناع القارئ  أن علوم الكون ما انفصلت يوما عن علوم الدين في هذا البلد الكريم، ولقد كانت القرويين بحق مجالا خصبا ورحبا لهذا الجمع المبارك بين العلم المسطور والعلم المنشور، وأملنا – مع الأستاذ – أن تضطلع القرويين من جديد برسالة نشر العلوم التطبيقية وتعميم نفعها بين الناس، من أجل التعمق في فهم دينهم وضمان عيش كريم في دنياهم…

وإن  من شأن هذا الإنجاز العلمي/ العملي أن  يحقق عدة أمور: أهمها الكشف عن التراث المغربي في مختلف العلوم؛ وإغناء البحث العلمي في التراث الطبي والصيدلي والرياضي العربي والإسلامي؛ وتطوير منهجية البحث فيما قام به  ثلة من العلماء الدارسين والمحققين؛ ولمُّ شتات الإشارات العلمية المتفرقة في كتب القدماء والمحدثين، وغيرها من المقترحات العلمية والمنهجية التي وردت في الفصل الأخير من هذا الكتاب..

لقد تمنى أستاذنا بنصر العلوي – حفظه الله – أن تكون دراساته قد حققت مبتغاها في تلاحم الماضي بالحاضر بالمستقبل، مادامت المعارف ملكا إنسانيا يحمل الكثير من التواصل والانسجام والتكامل؛ وأنا أقول من موقع الباحث المختص في العلوم الطبيعية لأستاذنا الفاضل لقد أعطيت ووفيت.

والحال أنني حرصت في هذه المقدمة التي شرفني بها الدكتور بنصر العلوي، أن أثير الانتباه إلى ثراء أعمال هذا الفاضل ومقاصده النبيلة، في حفظ تراث الأمة العلمي وتوظيفه المعاصر في خدمة العلم و الحضارة والمجتمع..

جازى الله أستاذنا الفاضل عبد الله بنصر العلوي على مجهوداته العلمية الكبيرة، وعلى غيرته على الحضارة العلمية  العربية الإسلامية خصوصا حضارة المغرب، وهي لا شك غيرة مرفقة بالنقد والتحقيق والتحليل، أملا في استعادة التألق العربي الإسلامي في مجال العلوم والحضارة، في علاقة جدلية مع استعادة الوعي بضرورة ربط الماضي بالحاضر لاستشراف المستقبل.

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق