مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قيم الفتوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم -الرياضة-

رياضة العدو:

مارس النبي صلى الله عليه وسلم رياضة العدو أو الجري السريع، وكان يسابق زوجه عائشة رضي الله عنها، فمرة تسبقه ومرة أخرى يسبقها، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: فسابَقْتُهُ فسَبَقْتُهُ على رِجليَّ، فلما حَمَلتُ اللَّحمَ سابقتُهُ فسبقَنِي. فقال: “هذه بتلك السَّبْقَة”،[1] فقد كانت المسابقة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمنا عائشة رضي الله عنها، في العدو أي الجري، فسبقته أي غلبته وتقدمت عليه، فلما حملت اللحم أي سمنت، وكانت بينهما مسابقة مرة أخرى، تقدم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها (هذه بتلك السبقة) أي هذه السبقة التي تقدمت فيها عليك هي في مقابل تقدمك في النوبة الأولى، وفي هذا الحديث دليل على رشاقة النبي صلى الله عليه وسلم وقوته، سواء في النوبة الأولى وبالأحرى في الثانية، لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في النوبة الأولى ما تزال رشيقة وقوية وهو أمر طبيعي بالنسبة لسن الشباب، والنبي صلى الله عليه وسلم متقدم في السن، وبقاؤه على حالة القوة بعد مدة تدل على رشاقته، وحسن اعتنائه بجسمه، وانتظامه بشكل مستمر في تنمية لياقته البدنية، كما يدل الحديث على الروح الرياضية للنبي صلى الله عليه وسلم، وعظيم أخلاقه، وحسن معاشرته مع أهله وتطييب قلوبهم، كما نستلهم من الحديث كيف نتعامل مع بعضا بإحسان وأخلاق عالية خصوصا الشباب أثناء المناسبات الرياضية التي كثيرا ما تتحول إلى حمام دم، وتخريب وانتهاك… وما أحوج المجتمع اليوم إلى الأخلاق النبوية حتى لا نقع في مثل هذه الأحداث المؤلمة وغير المشرفة، ونرتقي بسلوكنا نحو الأفضل وما فيه خير لأمتنا وديننا.

وفي قصة أخرى فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم هرول، والهرولة هي المشي بسرعة، والجري بين المشي والعدو، ولكن هناك عبارة أخرى في الحديث الذي روته أمنا عائشة رضي الله عنها فيه أنه أَحْضَرَ، أي: عدَا عَدْوًا وهو فوق الجريِ، “قال كراع: أحضر الفرس إحضارا وحُضْرا، وكذلك الرجل”،[2] وقال الأزهري: “الحُضْرُ والحِضَار: من عدو الدواب، والفعل الإحْضَار”،[3] وفيه أنها سبقته إلى فراشها حتى لا يدركها،  وفيما يلي قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع أمنا عائشة رضي الله عنها كاملة، قالت رضي الله عنها: “ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا: بلى، قالت: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتي الَّتي كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِيهَا عِندِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُما عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إزَارِهِ علَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا رَيْثَما ظَنَّ أَنْ قدْ رَقَدْتُ، فأخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ البَابَ فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي في رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ علَى إثْرِهِ، حتَّى جَاءَ البَقِيعَ فَقَامَ، فأطَالَ القِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فأسْرَعَ فأسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فأحْضَرَ فأحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فليسَ إلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقالَ: (مالَكِ؟ يا عَائِشُ، حَشْيَا رَابِيَةً) قالَتْ: قُلتُ: لا شيءَ، قالَ: (لَتُخْبِرِينِي، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) قالَتْ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، بأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فأخْبَرْتُهُ، قالَ: (فأنْتِ السَّوَادُ الذي رَأَيْتُ أَمَامِي؟) قُلتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي في صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قالَ: (أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسولُهُ؟) قالَتْ: مَهْما يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، نَعَمْ، قالَ: (فإنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي، فأخْفَاهُ مِنْكِ، فأجَبْتُهُ، فأخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقالَ: إنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ البَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لهمْ)،[4] فهذا الحديث يدل كذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم يتمتع ببنية جسدية قوية، وأنه كان شجاعا لا يهاب شيئا، يقظا في كل أحوله صلى الله عليه وسلم.

كما لا ننسى قصة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وهو لا يزال شابا في العشرينيات من عمره في غزوة ذي قرد، فسلمة رضي الله عنه يعتبر عداء كبيرا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حادثة سرقة ابل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أظهر رضي الله عنه قوته في الركض حتى سبق خيول اللصوص، فكانت قوته سببا في ارجاع ما نهبوه، كما أنه رضي الله عنه هزم رجلا من الأنصار، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما تحدى الجميع أن يسابقوه، يقول سلمة رضي الله عنه: “فبينما نحن نسير، قال: وكان رجل من الأنصار لا يُسبق شدّا، قال: فجعل يقول: ألا مُسابق إلى المدينة؟ هل من مسابق؟ فَجَعَلَ يُعِيدُ ذلكَ قالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهُ، قُلتُ: أَما تُكْرِمُ كَرِيمًا، وَلَا تَهَابُ شَرِيفًا؟ قالَ: لَا، إلَّا أَنْ يَكونَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، بأَبِي وَأُمِّي، ذَرْنِي فَلِأُسَابِقَ الرَّجُلَ، قالَ: (إنْ شِئْتَ)، قالَ: قُلتُ: اذْهَبْ إلَيْكَ، وَثَنَيْتُ رِجْلَيَّ، فَطَفَرْتُ فَعَدَوْتُ، قالَ: فَرَبَطْتُ عليه شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، أَسْتَبْقِي نَفَسِي، ثُمَّ عَدَوْتُ في إثْرِهِ، فَرَبَطْتُ عليه شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، ثُمَّ إنِّي رَفَعْتُ حتَّى أَلْحَقَهُ، قالَ: فأصُكُّهُ بيْنَ كَتِفَيْهِ، قالَ: قُلتُ: قدْ سُبِقْتَ وَاللَّهِ، قالَ: أَنَا أَظُنُّ، قالَ: فَسَبَقْتُهُ إلى المَدِينَةِ”،[5] ” فقد نجح  سلمة رضي الله عنه في التحدي وسبق ذلك الأنصاري، وهو ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يُعلي من شأنه، ويقلده وساما معنويا كبيرا، وذلك بقوله: “كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخيرَ رَجَّالَتِنَا سلمةُ”،[6] وليس هذا فقط بل أعلى من شأنه، وأكرمه بقربه،  فجعله رديفا له صلى الله عليه وسلم على ناقته العضباء، صدره ملتصق بظهر النبي صلى الله عليه وسلم، بخاتم النبوة الشريف، وقلبه ينبض قريبا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحضن النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، شعور لا يوصف ومكرمة جليلة نالها هذا الفتى العشريني القوي الذي حمى إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الهوامش:

[1] سنن أبي داود، لأبي داود سليمان بن الأشعت السجستاني الأزدي، شرح وتحقيق: السيد محمد سيد، وعبد القادر عبد الخير، وسيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، 1420هـ/1999م، كتاب الجهاد، باب في السبق على الرجل، رقم الحديث: 2578، 3/ 1117.

[2] تاج العروس من جواهر القاموس، السيد محمد مرتضى بن محمد الحسيني الزبيدي، اعتنى به ووضع حواشيه: عبد المنعم خليل إبراهيم، وكريم سيد محمد محمود، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1428هـ/2008م، تتمة باب الراء، تابع فصل الحاء من باب الراء، المجلد السادس، 11/ 22،

[3] تهذيب اللغة، لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق وتقديم: عبد السلام هارون، راجعه: محمد علي النجار، أبواب الحاء والضاد، 4/ 200.

[4] صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها. رقم الحديث: 974.

[5] صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها، رقم الحديث: 1807.

[6] صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها. رقم الحديث: 974.

الصفحة السابقة 1 2
Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق