مركز الأبحاث والدراسات في القيمدراسات عامة

قيم التنمية البشرية من المنظور الإسلامي

إن موضوع القيم يطرح صعوبات ترتبط بشكل حضور هذا المفهوم عند الباحث المشتغل به، و خاصة حينما يتعلق الأمر بتحديد علمي دقيق للفظة «قيمة»، ذلك أن موضوع القيم يدخل ضمن اهتمامات متخصصين عدة حسب الحقول المعرفية التي يهتم بها كل باحث. و هكذا تنعكس خاصيات التخصص و الأرضية المعرفية للباحث في كيفية بسط مفهوم القيمة و تناوله و دراسته. وعلى سبيل المثال فإن مفهوم القيمة يختلف من الفيلسوف إلى السوسيولوجي إلى الاقتصادي إلى السيكولوجي و هلم جرا.

   القيم والمنظومة القيمية

  القيم عبارة عن الأحكام التي يصدرها الفرد  لاستحسان  أو استهجان موضوع سيكولوجي ( شخص أو شيء أو حدث أو فكرة )، وذلك في ضوء تقييمه أو تقديره لهذه الموضوعات أو الأشياء ، وتتم هذه العملية من خلال احتكام الفرد في ذلك  لمعارفه وخبراته و مكونات الإطار الحضاري الذي يعيش فيه  ويكتسب من خلاله هذه الخبرات  و  المعارف.
و القيم ترسم الخطوط وتضع المعايير و الشروط التي بموجبها يتم إشباع الحاجات: فالارتواء إشباع للعطش الذي هو حاجة، و تناول الأطعمة إشباع للجوع الذي هو حاجة أيضا، و لكن لا يمكن إرواء الظمأ بشراب محرم و لا إطفاء غلة الجوع بمأكول منهي عنه شرعا. و الإحجام عن هذه الأشربة    و الأطعمة المنهي عنها إنما يضمنه تبني مجموعة من القيم التي تسير في هذا السياق،تتميز بكونها مترابطة فيما بينها ؛وهذا ما يعرف ب »المنظومة القيمية« أو» نسق القيم « . ويقصد بنسق القيم :
–    مجموعة القيم المترابطة  التي تنظم سلوك الفرد وتصرفاته ؛     
–    الترتيب الهرمي ﻟﻤﺠموعة القيم التي يتبناها الفرد  أو أفراد اﻟﻤﺠتمع ، ويحكم سلوكه أو سلوكهم .
–    مجموعة قناعات لدى الفرد أو اﻟﻤﺠتمع مرتبة وفقا لأولويتها .
وقد انبثقت فكرة نسق القيم من تصور مؤداه أنه لا يمكن  دراسة قيمة معينة أو فهمها بعزل عن القيم الأخرى ، فهناك مدرج أو نسق هرمي تنتظم به القيم مرتبة حسب أهميتها بالنسبة للفرد أو الجماعة : فحينما يقول الله تعالى في سورة المائدة:حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (الآية 4) يكون هذا القول الرباني أساسا لبناء عقيدة المسلم و مرتكزا لمبادئه و سلوكياته في موضوع الأطعمة. إنه المنظومة القيمية التي تؤطر الإنسان المؤمن في مأكله و مشربه. و حينما يقول الله تعالى في سورة النساء:حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ الَّلاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّلاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا…وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (الآيتان 23 و 24) إنما يضع معايير الشرع للمسلم في مجال الأنكحة، و هذا جزء من المنظومة القيمية التي تؤطر حياة المسلم. و عليه فإن المنظومة القيمية تمثل » تصورا صريحا أو ضمنيا يميز الفرد أو الجماعة « ، و من ثمة فإن لكل جماعة  منظومتها القيمية التي تدافع عنها ضمانا لاستمراريتها، إذ في موت هذه القيم تداعٍ لمقومات و حياة الجماعة. و العولمة في مدها الوحشي الجارف قد تدمر شباب الأمة إذا لم يتم تحصينهم بالقيم التي تميز كيانهم عن كيانات أخرى تتخذ لعبة العولمة مطية لتسويق أفكار و سلوكيات و ممارسات مدمرة، فالعولمة، في موضوع العلاقات الجنسية تفسح المجال واسعا لكل السلوكيات و الممارسات دون وضع أي خط أحمر: فالمخادنة، و المثلية و السحاق و تجارة الجنس كلها سلوكيات مقبولة تحت مبرر حقوق الإنسان  و حرياته تارة و باسم الحداثة تارة أخرى في حين أن الشرع ينهى عن الخدان و السفاح: قال تعالى في سورة النساء: ….فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ… (الآية 25)، و قال جل و علا في سورة المائدة: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (الآية 6).
فالمنظومة القيمية تصور » يمثل التوجه و السلوك التفضيلي أو السلوك المرغوب من بين عدد من التوجهات المتاحة   ، بحيث يسمح لنا بالاختيار من بين الأساليب المعبرة للسلوك و الأهداف الخاصة بالفعل «   .
و في هذين التعريفين تبرز قوة المنظومة القيمية في توجيه سلوك الأفراد، إلا أن هذه القوة تنبني على أسس وعوامل و قناعات تمكن الفرد من الاختيار، علما أن الاختيار لا يكون إلا من متعدد. و نحن بصدد التفكير في كيفية تمنيع الشباب المغربي و تحصينه ضد الغزو العولمي. علينا أن نمكنه من منظومة قيم مرجعية تتسم بالموضوعية و المصداقية و القابلية للإنجاز، واضحة و صادقة، يقتنع بها و يستضمرها ليواجه بها قيم العولمة ضمن مسار يكون فيه حرا لاختيار القيم المناسبة.

 القيم من المنظور  الإسلامي  

إن القيم في الإسلام لا تنحصر في القيم الثلاث ( الجمال والخير والحق) التي اهتم بها الفلاسفة و إن كان من الظاهر أنها متصلة بها و متداخلة معها، لأن القيم في الإسلام لها استقلاليتها ومنها  قيم مرجعية كثوابت و منها قيم فرعية تستلّ منها. و قد لخص الدكتور ناصر الدين الأسد مضمون القيم الإسلامية في قوله:”…ف”العدل” قيمة كبرى في الإسلام، و هي من “الحق”، و لكنها تمتاز منه، بل ربما كانت جميع القيم منضوية تحت لواء “الحق” و لكن لها شيئا من التمايز. و قد جاء أمر الله بالعدل أمرا واضحا صريحا في القرآن، قال تعالى:إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل الآية 90). و الإحسان منزلة أخرى من منازل القيم الإسلامية، تختلف عن العدل، و لكنها تنسجم معها في هذه المنظومة الإسلامية. و هل أوضح من أمر الله تعالى بالعدل الوارد في قوله:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ…(النساء الآية 134). و أكد سبحانه هذا الأمر بالعدل بقوله:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى …(المائدة الآية 9). و قال لنبيه عن أهل الكتاب : ….وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ….(الشورى الآية 15). و من ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ.…(النساء الآية 57). و سوى هذه الآيات آيات أخرى كثرة تكررت في كتاب الله لأن العدل هو قوام المجتمع وأساس نظامه. و من القيم الإسلامية “الوفاء” قال تعالى:وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ….(النحل الآية 91). و قال : …..وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ….(الإسراء الآية 34).

و هكذا يتضح أنه ليس من السهل الإحاطة بالقيم الإسلامية جملة و تفصيلا، و ليس من الممكن إدراج كل القيم الإسلامية في هذه الدراسة التي القصد منه التعريف بالقيم و مجالاتها. و مع ذلك يمكن الإشارة إلى أن القيم الإسلامية هدفت إلى بناء الإنسان وفق الطينة الخيرة التي أرادها له الله سبحانه وتعالى و التي من تجلياتها:

   –  التكريم :مصداقا لقوله تعالى:وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الإسراء، الآية 70).

و في موضوع التكريم حدث الإمام علي كرم الله وجهه قائلا: لما أتينا بسبايا طيئ كانت في النساء جارية جميلة هي سفانة بنت حاتم. فلما رأيتها أعجبت بها، فقلت لأطلبنها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم  ليجعلها من فيئي فلما تكلمت أنسيت جمالها، لما سمعت من فصاحتها، فقالت: ” يا محمد هلك الوالد، و غاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني، فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي. كان أبي يفك العاني، و يحمي الذمار، و يقري الضيف، و يشبع الجائع، و يفرج عن المكروب، و يطعم الطعام، و يفشي السلام، و لم يرد طالب حاجة قط، أنا بنت حاتم طيئ” فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم : ” يا جارية هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه، خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، و الله يحب مكارم الأخلاق”  
–  الاستخلاف: أي أن يتبوأ المكانة التي ارتضاها له تعالى كخليفة له في الأرض :وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (البقرة ، الآية 29).

تحمل المسؤولية: التي أناط الله سبحانه وتعالى الإنسان  بها، و التي وصفها الله تعالى ب »الأمانة«  و  »التكليف « قال تعالى:إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا (الأحزاب، الآية 72).وقال تعالى أيضا: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...(البقرة، الآية 285).

إعمال العقل و تحكيمه في الأمور: وقد وردت الدعوة إلى ذلك بصيغ متعددة، وفي آيات كثيرة من أمثلتها:
الدعوة إلى التفكير، وردت هذه الدعوة في ثمانية عشر موضعا بصيغة الفعل و هي ( فكر- تتفكرون – يتفكرون – تفكرون) ، ومنها قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الأعراف، الآية 176). وقوله جل وعلا: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس، الآية 24). وقوله عز من قائل: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الرعد، الآية 4). وقوله جل وعلا:الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران، الآيتان 190-191) .

وورد في السنة المطهرة الكثير من الأحاديث النبوية الدالة على أهمية  التفكر والتدبّر: جاء بلال إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم  يؤذنه بصلاة الصبح ، فوجده يبكي ، فقال : يا رسول الله ، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال الرسول صلّى الله عليه وسلم: ويحك يا بلال ! و ما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله تعالى عليّ  في هذه الليلة: ” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى  جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ” ثمّ قال: ويلٌ لمن  قرأها ولم يتفكّر  (رواه ابن حبّان)  .

الدعوة إلى التعقل: قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة، الآية 163).

قال تعالى:وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ….وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ(البقرة، الآيتان 169 و170). قال تعالى: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (المائدة، الآية 60).

 و للتعقل قيمة كبرى في منظومة القيم العربية. و من الشواهد على ذلك أنه لما ظهر النبي  صلّى الله عليه وسلم بمكة  و دعا الناس إلى الإسلام بعث أكثم بن صيفي ابنه حبيشا لاستجلاء الخبر فلما أتاه بما رأى و سمع جمع بني تميم و خطب فيهم قائلا: “يا بني تميم، لا تحضروني سفيها، فإنه من يسمع يخل، إن السفيه يوهن من فوقه، و يتبب من دونه. لا خير في من لا عقل له. كبرت سني و دخلتني ذلة، فإذا رأيتم مني حسنا فاقبلوه، و إن رأيتم مني غير ذلك فقوموني أستقم. إن ابني شافه هذا الرجل مشافهة، و أتاني بخبره، و كتابه يأمر فيه بالمعروف، و ينهى عن المنكر، و يأخذ فيه بمحاسن الأخلاق، و يدعو إلى توحيد الله تعالى، و خلع الأوتان، و ترك الحلف بالنيران، و قد عرف ذوو الرأي منكم أن الفضل في ما يدعو إليه، و أن الرأي ترك ما ينهى عنه، إن أحق الناس بمعونة محمد صلّى الله عليه وسلم  و مساعدته على أمره أنتم، فإن يكن الذي يدعو إليه حقا، فهو لكم دون الناس، و إن يكن باطلا كنتم أحق الناس بالكف عنه و بالستر عليه…فقال مالك ابن نويرة: قد خرف شيخكم، فلا تتعرضوا للبلاء، فقال أكثم: ويل للشجي من الخلي وا لهفي على أمر لم أشهده و لم يسعني” ثم رحل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم  فمات في الطريق، و بعث بإسلامه مع من أسلم ممن كان معه.

الدعوة إلى التدبر: قال تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (النساء،الآية 81). وقال عز من قائل:أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمد، الآية 25). و قال تعالى: قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (الأنعام، الآية 105 ).  و قال تعالى أيضا:أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج الآية 44).

توجيه الخطاب إلى الفئات التي تحكم العقل في الأحكام :  وردت كلمة ” الفكــر” في القرآن الكريم 18 مرة،و كلمة ” العقـل ” 49 مرة، و كلمة ” الألباب ” 16 مرة ،وكلمة ” التدبـر” 4 مرات وهذا يبين مدى اهتمام الإسلام بمنظومة التفكر بكل مدلولاتها:

-قال تعالى:كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى (طه الآية 53).

-وقال عز من قائل:أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى (طه الآية 129).

-وقال جل وعلا أيضا:إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ (آل عمران، الآية 190).

-الخير : يمتلك الفعل البشري قيمته مما يتسم به من خيريّة، وكلما ازدادت نسبة الخيريّة في الفعل ازدادت القيمة التي يمتلكها، وفي هذا الصدد تعرّف القيمة الأخلاقيّة بأنّها: “شكل لتجلي العلاقات الأخلاقيّة في المجتمع . قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (آل عمران ، الآية 110). وقال عز من قائل: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  (البقرة ، الآية 147). وقال صلّى الله عليه وسلم : » لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه «.رواه الشيخان عن أنس بن مالك.

 إن العمل بمقتضى هذه القيم الإسلامية و تحكيمها في اختيار السلوكيات و تبني المسارات عن فهم   و استيعاب و اقتناع قد يؤدي، في أغلب الأحيان، إلى درء مخاطر الهجمات المبيتة الهادفة إلى المس بالشباب خلقا و عقيدة و سلوكا و ممارسات. إن هذه القيم و ما يمكن أن يتفرع منها من قيم مكملة تشكل صرحا إذا لاذ به المرء جعله في مأمن من مخاطر ما يتهدده من إصابات مصوبة إليه بدقة لتعطيل آلياته الفكرية و الوجدانية بما فيها الميكانيزمات العقدية.
إن روح التجديد في كل الأعمال المراد منها بناء الإنسان (المنظومة التربوية، الإعلام، الحقل الفني بكل أنواعه، الإنتاج الأدبي و الفكري…) يجب أن تتخذ من المنظومة القيمية الإسلامية مقتعدها لأن هذه المنظومة كونية بكل المقاييس.  
الأستاذ محمد بلكبير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق