مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

قول في الكمال المحمدي

يقول العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس رحمه الله:

“ينبغي أن نقدم قبل الشروع في كلام المصنف مقدمة لم نسبق إليها فيما نعلم، ليقوى باعث الرغبة فيما ذكره من شمائل النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقول:

 مقصود المصنف ذكر ما ورد عن الصحابة- رضي الله عنهم- من شمائله -صلى الله عليه وسلم- وحسنه الظاهر والباطن، ومعرفة ذلك مما يتأكد، بل يتعين على كل مؤمن لوجوه:

 (الوجه الأول)، أن معرفة صفاته السنية، ونعوته البهية السمية -صلى الله عليه وسلم- وسيلة إلى امتلاء القلب بتعظيمه، وتعظيمه وسيلة إلى تعظيم شريعته، لأن حرمة الكلام على قدر حرمة المتكلم به، وتعظيم الشريعة واحترامها وسيلة إلى العمل بها، والوقوف عند حدودها، والارتباط لأمرها ونهيها، وإيثارها على مألوفات النفس، وعوائدها وشهواتها الشاغلة لها عن مالكها وخالقها، وذلك هو معنى الانقطاع إلى الله الذي لأجله خلق الإنسان؛ (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)[الذاريات: 56]، وهو وسيلة إلى السعادة الأبدية، والسيادة السرمدية، و الفوز برضوان الله- تعالى- الذي هو غاية رغبة الراغبين، ونهاية آمال المؤملين، وطلب الطالبين، “اليوم أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا”، وهذا من فوائد تنويه الله تعالى بقدره -صلى الله عليه وسلم- وتعظيم شأنه وأمره في غير ما آية من كتابه العزيز، كآية (وإذا أخد الله ميثاق النبيين)، وكآية (إنا فتحنا لك فتحا مبينا)[الفتح: 1] الخ، وكآية (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) [الفتح: 10]  الخ، وكآية (من يطع الرسول فقد أطاع الله)[النساء: 80]، وكآية (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [آل عمران: 31]الخ، وكآية القسم بمدة حياته (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون)[الحجر: 72]، وبعصره (والعصر إن الإنسان لفي خسر)[العصر: 1] الخ، وببلده (لا أقسم بهذا البلد)[البلد: 1]، وعلى صدقه (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم و ما غوى)[النجم: 1] الخ، وعلى إكرامه والإنعام عليه (والضحى والليل إذا سجى)[الضحى: 1-2]؛ أقسم تعالى أن صفاء المحبة باق كما كان، و خلوص المودة لم يزل ولم يتبدل.

 (الوجه الثاني) أن معرفتها تتضمن معرفة حسنه و إحسانه -صلى الله عليه وسلم- وذلك وسيلة إلى محبته؛ لأن أسباب المحبة وإن تكاثرت فمدارها على أمرين، الحسن والإحسان، فإن النفوس مجبولة على حب الحسن، كما أنها مجبولة على حب المحسن إليها، ولا حسن يماثل حسنه -صلى الله عليه وسلم- كما لا إحسان يماثل إحسانه- صلى الله عليه وسلم- إذ كل خير و بركة قلّت أو [جلت] منه حصلت، و بطلعته ظهرت، و محبته -صلى الله عليه وسلم- هي روح الإيمان الذي هو أصل كل سعادة وسيادة، وفي محبتنا له -صلى الله عليه وسلم- منن عظيمة علينا، لأنها موجبة لمعيته ومجاورته وصحبته، لحديث “أنت مع من أحببت” “والمرء مع من أحب”، وروى الحافظ أبو نعيم عن معسر بن كدام عن عطية قال: كنت مع ابن عمر -رضي الله عنه- جالسا فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمان وددت أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال ابن عمر: فكنت تصنع ماذا؟ فقال: كنت والله أومن به، وأقبل بين عينيه، فقال له ابن عمر: ألا أبشرك، قال: بلى يا أبا عبد الرحمان، قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما اختلط حبي بقلب أحد فأحبني، إلا حرم الله جسده على النار.

 (الوجه الثالث) أن السعي في معرفتها خدمة لجانبه- صلى الله عليه وسلم- وثناء عليه، وتعلق به، وتعظيم لقدره، وتقرب وتودد واستعطاف وانتساب، وتعرض لنفحات فضل الممدوح واستمطار لسحائب إحسانه، واستنزال لغزير بره وامتنانه، ومد ليد الفاقة والاضطرار، وبسط لبساط الإلحاح والإكثار، وفتح لأبواب خزائن ما يأتي من قبله، فان الكرام إذا مدحوا أجزلوا المواهب والعطايا، وقد أعطى العباس بن مرداس لما مدحه- صلى الله عليه وسلم- مائة من الإبل، وخلع حلته على كعب بن زهير لما مدحه بقصيدته التي يقول فيها:

إن الرسول لسيف يستضاء به           مهند من سيوف الله مسلول

وفي ذلك أيضا تعرض لنفحات الرحمة الإلهية، لأنه إذا كانت رحمته تعالى تتنزل عند ذكر الصالحين، فما بالك بسيدهم وسندهم وممدهم- صلى الله عليه وسلم- و بالجملة فأدنى انتساب إليه صلى الله عليه وسلم يحصل غاية النفع والشرف؛ إذ لم يخلق الله خلقا أكرم عليه من محمد -صلى الله عليه و سلم- كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- و لم يخلق جاها أعظم من جاهه -صلى الله عليه وسلم- فيحصل لخادمه من الجاه بحسب ما له صلى الله عليه وسلم من العز والشرف. قال سيدي عبد الوهاب الشعراني- رحمه الله تعالى-: “ما في الوجود من جعل الله تعالى له الحل والربط دنيا وآخرة، مثل النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن خدمه على الصدق والمحبة والوفاء، دانت له رقاب الجبابرة، وأكرمه جميع المؤمنين، كما ترى ذلك فيمن كان مقربا عند ملوك الدنيا، ومن خدم السيد خدمته العبيد، وكما أن غلام الوالي لا يتعرض له إذا سكر مثلا إكراما للوالي، فكذلك خدام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تتعرض لهم الزبانية يوم القيامة إكراما لرسول- الله صلى الله عليه وسلم- فقد فعلت الحماية مع التقصير ما لا تفعله كثرة الأعمال الصالحة، مع عدم الاستناد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الاستناد الخاص، ولشيخنا العلامة سيدي محمد بن عبد الرحمان بن زكري -رحمه الله تعالى- في هذا المعنى من قصيدته همزية المديح:

و إذا ما الجناب كان عظيما       مد منه لخادمه لــــواء

وإذا عظمت سيادة متبــو        ع أجل أتباعه الكبراء

(…) وانظر ما ورد في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يتضح لك الأمر ويرتفع عنك الحجاب، و ينفتح لك الباب…

و أنشدوا :

أهل الحديث هم أهل النبي وإن        لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا

(الوجه الرابع) أن معرفة صفاته معينة على شهود ذاكره، وفي رؤيته -صلى الله عليه وسلم- يقظة أو نوما فوائد عظيمة، ومزايا كبيرة… وإن أردت فهم ذلك فانظر إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: “إن لله عبادا من نظر في وجه أحدهم نظرة سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وقوله: “هم القوم لا يشقى بهم جليسهم” فإنهم ما نالوا ذلك إلا بنوره المشرق عليهم ومدده الساري فيهم.

 (الوجه الخامس) أن في ذكرها وسماعها تنعمنا وتلذذا بحبيب القلوب، وقرة العيون صلى الله عليه وسلم وهو ضرب من الوصال به- صلى الله عليه وسلم- ووجه من وجوه القرب منه، والاجتماع به، لما فيه من إمتاع حاسة السمع واللسان بأوصاف المحبوب، الذي هو وسيلة إلى حضور ما بالقلب، فإذا فات النظر إليه بالبصر لم يفت التمتع به بالسمع و النظر بالبصيرة، كما قال بعضهم:

يا واردا من أهيل الحي يخبرني       عن جيرتــي شنف الأسمــاع بالخبـــــر

نشدتك اللــه يا راوي حديثهــــم       حدث فقد ناب سمعي اليوم عن بصري

وقال سيدي أبو مدين- رحمه الله تعالى و نفعنا به-:

ونحيا بذكراكـــم إذا لم نراكم        ألا إن تذكـــار الأحبــــة ينعشنـــا

فلولا معانيكم تراها قلوبنـــــا        إذا نحن  أيقاظ وفي النوم إن غبنا

لمتنا أسى من بعدكم وصبابة        ولكن فـــي المعنى معانيكم معنـــا

يحركنا ذكر الأحاديث عنكـم        ولولا هواكم فــي الحشا ما تحركنا

وقال ابن الجزيري في مدح الشمائل مشيرا الى المعنى:

أخلائي إن شط الحبيب وربعه        وعز تلاقيه وناءت منازلــــه  

و فاتكــــم أن تنظروه بعينكــم      فما فاتكم بالسمع هذى شمائله

ولبعضهم في المعنى:

يا عين إن بعد الحبيب وداره      ونأت مرابعه وشط مزاره

فلقد ظفرت من الحبيب بطائل      إن لم تراه فهــــــذه آثــاره

 ولشيخنا الفقيه المشارك المحدث الصوفي سيدي عبد السلام بن حمدون جسوس -رحمه الله تعالى- في مدح الشمائل مشيرا للمعنى:

علمت محاسن أحمد حيث اختفت     فقد التصبر من رقيق مائل

فبدت وأبدت للعيان شمـــــــائلا     فإذا المحاسن كلها بشمــائل

ولذا قيل: والأذن تعشق قبل العين أحيانا، ولا شك أن كتاب الشمائل من أحسن ما صنف في شمائله وأخلاقه صلى الله عليه وسلم بحيث إن مطالع هذا الكتاب كأنه يطالع طلعة ذلك الجناب، و يرى محاسنه الشريفة في كل باب.

 (الوجه السادس) أن ذكر محاسنه -صلى الله عليه وسلم- يحرك ما في القلوب من الحب الساكن، والشوق الكامن، ويحصل من انشراح الصدر وتفريج القلب ما يناسب إجلاء تلك المحاسن، وقد يغيب المحب عند ذكر أوصاف المحبوب -صلى الله عليه وسلم- ولا سيما إن كان القارئ حسن الصوت، وكانت قراءته على وجه يثير الخشوع، ويرقق القلوب، كما هو المطلوب عند قراءة القرآن. ويرحم الله الشيخ عبد الرحيم البرعي إذ قال:

وتأخد قلبـــــي نشوة عند ذكركم       كما ارتاح صب خامرته خمـــور

أصوم عن الأغيار قطعا وذكركم         سحور لصومي في الهوى وفطور

ومدح رسول الله أصل سعادتي       أفوز بــه يوم السماء تمـــــور

نبي تقـــــي أريحي مهــــــــذب       بشير لكل العالميـــــن نذيـــــر

    إذا ذكر ارتاحت قلوب لذكــره         وطابت نفوس وانشرحن صدور

شرح العلامة سيدي محمد بن قاسم جسوس الموسوم الفوائد الجليلة البهية على الشمائل المحمدية، ص: 2 وما يليها، الطبعة الأولى، 1330ه، مطبعة الجمالية، مصر.

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق