مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

قوانين القوانين

 

من الأشياء التي تنبه لها أهل البلاغة قديما وجودُ قوانين للقوانين. والحديث فيها متناثر في كتب البلاغة، لا يجمعه باب واحد. ولم يجمعها في كتاب غير قلة من العلماء منهم حازم في المنهاج ، والسجلماسي في المنزع . وهي إلى ذلك إما شديدة التجريد، وإما تكاد أن تقتصر على مباحث البديع. ولو جمعت من كتب البلاغة لظهر أن أهل البلاغة الذين اعتمدوا علم النحو في مباحثهم، ومالوا إلى الطريقة التي يسميها السيوطي في “حسن المحاضرة” طريقة العرب الفصحاء، لم يكونوا في هذا الباب أقل قدرة على وضع قوانين كلية، وإن لم تشغلهم فكرة وضع قوانين مطلقة صالحة لكل بلاغة في كل أمة، وهي الفكرة التي كان يظن حازم أنه من الممكن تحقيقها. 
ومن هذا الباب مثلا حديثهم عن قانون الأطراف والوسائط، فهو قانون جامع لأبواب من البلاغة بعضها أوسع من بعض. وذلك كقولهم عن الكناية: إنها واسطة بين الحقيقة والمجاز. وكقولهم عن فرع منها، وهو التلويح: إنه ما كثرت فيه الوسائط، وقولهم عن التجريد: إنه وسط بين الترشيح والإطلاق ، وحديثهم عن التوسط بين الكمالين ، أي كمال الاتصال وكمال الانقطاع ، في باب الفصل، إلى غير ذلك من الأمثلة. هذا مع جودة فهم هذه الطائفة من البلاغيين وعدم خلطهم بين أبواب البلاغة، كخلط قوم ممن دخلوا البلاغة من باب الفلسفة بين الكناية وبين الاستعارة  فإن مثل قول امرئ القيس:
بدلتُ من وائل وكندة عد وان وفهما صَمِّي ابنة الجبل
يجعله الفارابي من الاستعارة، وقد نقل ذلك عنه ابن رشد في تلخيص الخطابة ووافقه عليه. وأهل الفلسفة يسمون مثل هذا التغييرات المركبة ويسمونه كثرة الإبدال. وفهم غيرهم الذين يجعلون بين الحقيقة والمجاز الكنايةَ أسلم من جهة تذوق الكلام والتمييز بين مراتبه. وإنما قلنا هذا الكلام لأن الفارابي وابن رشد يذهبان إلى أن المقصود بابنة الجبل هنا الحصاة. وهو قول أبي عبيدة. فيكون تعدد الوسائط في هذا المثال على ما ذكره الفارابي أنه جعل ابنة الجبل بدلا من قوله الحصاة، وجعل قوله: صمي، بدلا من عدم صوت الحصاة، وجعل عدم صوت الحصاة بدلا من ابتلال الأرض، وجعل ابتلال الأرض بدلا من انصباب الدماء على الأرض، وجعل انصباب الدماء عليها بدلا من القتال الشديد، وجعل القتال الشديد بدلا من الأمر العظيم. وهذا الإبدال الكثير عند البلاغيين الفلاسفة غير محمود. وهذا حكم فيه مقال، وتنزيله على بيت امرئ القيس في غاية الغرابة. لأن هذه العبارة مما هو كالمثل في كلام العرب. لذلك نجدها في كتب الأمثال كثيرا. فانتقلت بذلك من مرتبة الأمر الذي يحتاج معه إلى تدبر طويل لطي إبدالاته الكثيرة إلى الأمر الذي هو في مرتبة اللفظ الحقيقي في سرعة إدراك مدلوله. فكان هذا الحكم مما تفرد به الفارابي ومن نقل عنه وهو ابن رشد. وكلاهما ليس بحجة في بلاغة العرب. 
 على أن هذه العبارة قد تكون من باب الاستعارة التمثيلية إذا أخذنا بأحد رأيين هما:
أولا: رأي من قال: إنه أراد حية لا تجيب الراقي. فشبه الحرب التي لا يقبل فيها الصلح بهذه الحية.
ثانيا: رأي من قال: إن أصله أن رجلا قال لآخر: إن بني فلان أصابتهم داهية، فرده الصدى. فقال: صمي ابنة الجبل. أي: لا أسمع هذا الخبر، ولا كانت هذه الكائنة.
وعلى هذين الرأيين فإنه لا وجود لإبدالات كثيرة، ولا حاجة لكثرة الوسائط هنا لإدراك المعنى. والله أعلم.

من الأشياء التي تنبه لها أهل البلاغة قديما وجودُ قوانين للقوانين. والحديث فيها متناثر في كتب البلاغة، لا يجمعه باب واحد. ولم يجمعها في كتاب غير قلة من العلماء منهم حازم في المنهاج ، والسجلماسي في المنزع . وهي إلى ذلك إما شديدة التجريد، وإما تكاد أن تقتصر على مباحث البديع. ولو جمعت من كتب البلاغة لظهر أن أهل البلاغة الذين اعتمدوا علم النحو في مباحثهم، ومالوا إلى الطريقة التي يسميها السيوطي في “حسن المحاضرة” طريقة العرب الفصحاء، لم يكونوا في هذا الباب أقل قدرة على وضع قوانين كلية، وإن لم تشغلهم فكرة وضع قوانين مطلقة صالحة لكل بلاغة في كل أمة، وهي الفكرة التي كان يظن حازم أنه من الممكن تحقيقها. 

ومن هذا الباب مثلا حديثهم عن قانون الأطراف والوسائط، فهو قانون جامع لأبواب من البلاغة بعضها أوسع من بعض. وذلك كقولهم عن الكناية: إنها واسطة بين الحقيقة والمجاز. وكقولهم عن فرع منها، وهو التلويح: إنه ما كثرت فيه الوسائط، وقولهم عن التجريد: إنه وسط بين الترشيح والإطلاق ، وحديثهم عن التوسط بين الكمالين ، أي كمال الاتصال وكمال الانقطاع ، في باب الفصل، إلى غير ذلك من الأمثلة. هذا مع جودة فهم هذه الطائفة من البلاغيين وعدم خلطهم بين أبواب البلاغة، كخلط قوم ممن دخلوا البلاغة من باب الفلسفة بين الكناية وبين الاستعارة  فإن مثل قول امرئ القيس:

بدلتُ من وائل وكندة عد وان وفهما صَمِّي ابنة الجبل

يجعله الفارابي من الاستعارة، وقد نقل ذلك عنه ابن رشد في تلخيص الخطابة ووافقه عليه. وأهل الفلسفة يسمون مثل هذا التغييرات المركبة ويسمونه كثرة الإبدال. وفهم غيرهم الذين يجعلون بين الحقيقة والمجاز الكنايةَ أسلم من جهة تذوق الكلام والتمييز بين مراتبه. وإنما قلنا هذا الكلام لأن الفارابي وابن رشد يذهبان إلى أن المقصود بابنة الجبل هنا الحصاة. وهو قول أبي عبيدة. فيكون تعدد الوسائط في هذا المثال على ما ذكره الفارابي أنه جعل ابنة الجبل بدلا من قوله الحصاة، وجعل قوله: صمي، بدلا من عدم صوت الحصاة، وجعل عدم صوت الحصاة بدلا من ابتلال الأرض، وجعل ابتلال الأرض بدلا من انصباب الدماء على الأرض، وجعل انصباب الدماء عليها بدلا من القتال الشديد، وجعل القتال الشديد بدلا من الأمر العظيم. وهذا الإبدال الكثير عند البلاغيين الفلاسفة غير محمود. وهذا حكم فيه مقال، وتنزيله على بيت امرئ القيس في غاية الغرابة. لأن هذه العبارة مما هو كالمثل في كلام العرب. لذلك نجدها في كتب الأمثال كثيرا. فانتقلت بذلك من مرتبة الأمر الذي يحتاج معه إلى تدبر طويل لطي إبدالاته الكثيرة إلى الأمر الذي هو في مرتبة اللفظ الحقيقي في سرعة إدراك مدلوله. فكان هذا الحكم مما تفرد به الفارابي ومن نقل عنه وهو ابن رشد. وكلاهما ليس بحجة في بلاغة العرب. 

 على أن هذه العبارة قد تكون من باب الاستعارة التمثيلية إذا أخذنا بأحد رأيين هما:

أولا: رأي من قال: إنه أراد حية لا تجيب الراقي. فشبه الحرب التي لا يقبل فيها الصلح بهذه الحية.

ثانيا: رأي من قال: إن أصله أن رجلا قال لآخر: إن بني فلان أصابتهم داهية، فرده الصدى. فقال: صمي ابنة الجبل. أي: لا أسمع هذا الخبر، ولا كانت هذه الكائنة.

وعلى هذين الرأيين فإنه لا وجود لإبدالات كثيرة، ولا حاجة لكثرة الوسائط هنا لإدراك المعنى. والله أعلم.

 

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. اتقدم لك استاذي بخالص الشكر ووافر الامتنان على ما تبذله من جهد و مشقة جعلها الله في موازين حسناتك .ومهمـــا قلت وتكلمت اعرف اني مقصره واعجز عن الشكر جعلنا ممن ينهل من بحر علمكم
    الشاسع

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق