مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

قواعد التفسير عند الإمام الطبري

        د. منعم السنون
باحث في الدراسات القرآنية

يستعرض الباحث في هذه المساهمة أهم ما جاء في أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه في الشريعة، وحدة التكوين والبحث: «مناهج البحث في القرآن والسنة»، في جامعة القرويين ـ كلية الشريعة، سنة (2012م)، والتي يتناول موضوعها: «قواعد التفسير عند الإمام الطبري:310هـ من خلال جامع البيان».

مقدمة:

   الحمد الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، وهدى للمتقين، وشفاء للناس أجمعين، فيه نبأ من قبلنا وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، هو القول الفصل ليس بالهزل، أحكم فيه سبحانه وتعالى الشرائع أيما إحكام، وبين فيه العقائد أحسن بيان، وهذب به النفوس بأجمل الأخلاق والآداب، ونور بضيائه القلوب، وبصر بنوره العيون، وفتح به كل مستغلق مشكل، وأبان بنهجه كل مجمل مبهم. من تمسك به نال مناه، وطاب سعيه وممشاه، ومن تعدى حدوده وأضاع حقوقه خسر دينه ودنياه، وباء بغضب من الله. وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده الفرد الصمد لا شريك له في خلقه وملكه، الكامل في صفاته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الأكرمين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

   فإن أمر الاشتغال بكتاب الله سبحانه وتعالى من عظيم المهام، وجسيم الشرف والامتنان، التي أنعم الله بها على أمة سيدنا محمد عليه السلام، لما في ذلك من زمر الفوائد، وجليل الدرر النفائس، المستخلصة من معانيه ومبانيه، ومقاصده ومراميه، وأغراضه وأساسياته الكلية والتفصيلية.

   وأيّا كان هذا الاشتغال؛ سواء على نصه الشريف؛ المعجز بمبناه ومعناه، أو بما أنجز على نصه الكريم من أبحاث ودراسات؛ فإن من رام اقتناص زمرة من تلكم الحقائق والظفر بقدر وحظ وافر من تلك المعارف، لزمه بذل الجهد واستفراغ الوسع لتشوف ما اختزنه نص الكتاب، و ما تم إنجازه عليه من أعمال، التي أعربت عنها قرائح السلف درسا وتحليلا، وجلتها تطبيقاتهم العملية تصنيفا وتأليفا، فكان النظر في عطائهم المعرفي غاية مقصودة لرصد ذلك النتاج العلمي المنجز.

   ومساهمة في تحقيق تلكم الغاية؛ يأتي هذا العمل بحول الله سبحانه وتعالى؛ لبنة يراد بها كشف الحجاب عن ضرب علمي في فكر أحد الأئمة الأعلام، ألا وهو الإمام أبو عبد الله محمد بن جرير الطبري ت:310هـ والضرب الفكري المقصود: الدرس التقعيدي في مادة التفسير، فجاء عنوان الرسالة موسوما ب:«قواعد التفسير عند الإمام الطبري ت:310هـ من خلال جامع البيان».

أهمية الموضوع:

   موضوع التقعيد شغل حيزا مهما في المنظومة الفكرية والمنهجية عند علماء الأمة على اختلاف تخصصاتهم، فقلما تجد عالما إلاَ ونسق التقعيد حاضر في فكره، مترجم في تراثه، متجذر في قناعته، والحديث عن الأهمية من شأنه إبراز فوائد التقعيد في تراث كل تخصص؛ بغية كشف ملامحه ورسم معالمه، وسبر مساره في تأصيل المسائل وضبط الشوارد، من هذه الحيثية اهتم السلف به، وكان من مظاهر عنايتهم أيضا تنصيصهم في مقدماتهم عليه، ممّا يشهد بعراقة البحث:

1- قال ابن تيمية (ت:728هـ): «لابد وأن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلاَ فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم»[مجموع الفتاوي لابن تيمية (110/19)].

2- وقال الزركشي (ت:794هـ): «أما بعد: فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة هو أوعى لحفظها، وأدعى لضبطها، وهي إحدى حكم العدد التي وضع لأجلها، والحكيم إذا أراد التعلم لابد له أن يجمع بين بيانين: إجمالي تتشوف إليه النفس، وتفصيلي تسكن إليه..»[ المنتور في القواعد (65/1ـ66)].

   فتسمية القاعدة يوحي بقيمتها التي تحمل: «من القيم العلمية والمعاني العقلية ما لا يخفى. فهي «قواعد» والقاعدة هي ثمرة ونتيجة لا يتوصل إليها إلاَ بمجهود علمي كبير، وبعد تجربة وزمان طويل وهي«أصول»، وفي هذه الكلمة مثل ما في سابقتها من القيمة العلمية والعقلية. وهي «كلية» وفي هذه الكلمة ما فيها من معنى الشمولية وقوة الانطباق والسريان، ولا يغض من ذلك كونه أغلبيا وغير مطرد.. وهي أيضا تسمى «الفروق».. وهي أيضا تسمى «الأشباه والنظائر»..»[القواعد الفقهية عند القاضي عبد الوهاب، لمحمد الروكي (ص: 179)].

   وإذا كان هذا شأن القواعد عموما، فإن تقييدها بعلم معين له أهميته، فيكون بذلك ـ أي العلم ـ أعم من القواعد من جهة اشتماله عليها إلى جانب زمرة من القضايا والمباحث والمسائل، وبالنظر لطبيعة القواعد المتسمة بالاستيعاب والشمول في صيغ التأصيل والتنظير؛ تكون أعم منه، فتتجاذب المسألة صفة الخصوصية والعمومية، والنظر فيهما معا يقوي جانب التكامل والانسجام في الخدمة والإفادة.

   وعلى كلا المستويين يحظى موضوع التقعيد بعناية بالغة، بحكم اختصاص البحث وطبيعة النظر الذي ينم عن حصافة فكر المشتغلين بها، وجودة قريحتهم في نظم خصوصياتها العلمية والموضوعية والمنهجية من حيث الارتقاء من حيز الجزئية إلى الكلية، ومن الخصوصية إلى العمومية، ومن الظنية لتوارد الاحتمالات إلى القطعية، لاسيما القواعد الكلية الكبرى المتفق عليها بين العلماء.

الإشكال العلمي لموضوع البحث:

   إذا كان شأن التقعيد حاضرا في عدد من العلوم، فإن:«علم التفسير» لم يشذ عن ذلك، بغض النظر عن الكم والكيف مقارنة بقواعد علوم حازت قصب السبق اهتماما وتدوينا، غير أن السمة المميزة لـ«قواعد التفسير»، تتجلى في كونها متنوعة المباحث لخصوبة علم التفسير، فكانت طبيعة قواعده كذلك أيضا، الأمر الذي يستدعي تقييد القضية بشرطين أساسين:

أولهما: تحديد نوعية الاتصال المباشر بالدرس التفسيري من غيره من باب التمييز، كقيد يحترز به من إقحام أي دخيل عن المادة،

وثانيهما: الاكتفاء بالقدر المحقق للغاية والخادم للدرس التفسيري من باب التوجيه والترشيد لمسار البحث والتناول.

   وبإنعام النظر في مصنف الإمام الطبري:«جامع البيان عن تأويل آي الفرقان»، نلحظ حضور القيدين في عرض وتحليل ومناقشة جملة من القضايا المتعلقة بالدرس التفسيري، سواء في مقدمته التأسيسية التأصيلية، أو في ثنايا مادته التأويلية الإجرائية، فكان هذا الملحظ الوجيه منطلق الرؤية والنظر في هذه الأطروحة.

  ف:«قواعد التفسير» فن تم تناوله قديما وحديثا إلى جانب مباحث تتعلق بعلوم القرآن والتفسير لذلك لم تتحدد معالمه وتتضح مسالكه، فاحتاج الأمر تخصيص بحثه بإفراد، ذلك أن المتقدمين تطرقوا إليه من جوانب يتقدمها مستوى التطبيق والتمثيل، والإشارة الضمنية والصريحة أحيانا في مقدمات تفاسيرهم أو ضمن مباحث كتب علوم القرآن.

   بيد أن بحثه بالمستوى المطلوب لم يكن بالقدر الذي عرفته قواعد علوم أخرى، الشيء الذي نلحظه في غياب تعريفه الدقيق، وإن ظهرت بوادر ضبطه على يد باحثين تناولوه بمسميات: «قواعد التفسير»،«أصول التفسير»،«مباحث أصول التفسير»، وتبعا لتراجم كتبهم تعددت تعريفاتهم، فجاءت مضامينها شاملة لقضايا التفسير، وعلوم القرآن.. فكان هذا أهم أسباب اختيار الموضوع، إضافة إلى أسباب أخرى، أتناولها في النقطة الموالية.

دواعي الاختيار:

  هي دواع عديدة كانت وراء الاختيار أروم من خلالها إبراز جهد الطبري في الباب من أهمها:

أولا: أهمية بحث موضوع التقعيد في العلوم عموما والدرس التفسيري بوجه خاص؛ للخصوصية المنهجية والموضوعية، التي تطبع تناول وتحليل القضايا، فذلك له انعكاس إيجابي على النتائج المتوصل إليها.

ثانيا: لم تستوف قواعد التفسير حظها من النظر والاهتمام، الذي عرفته القواعد في علوم أخرى، وما جاء عن السلف في الباب، جاء متداخلا مع علوم القرآن، والقراءات، ومباحث الخطاب القرآني، فكان تخصيص بحثه ذو أهمية بالنظر لمكانته القيمة، ولقلة البحوث المتخصصة في الباب.

ثالثا: حضور الجانب التقعيدي في فكر الطبري المترجم في أقواله واختياراته المبثوتة في تصانيفه، وعلى رأسها مصنفه التفسيري:«جامع البيان عن تأويل آي الفرقان».

رابعا: ندرة تناول الجانب التقعيدي في تراث الطبري، إلا ما ورد من إشارات في رسائل بعض الباحثين، أما عن الدراسة المتناولة لفكره التقعيدي فلم يصل إلى علمي أن هنالك بحثا أفرد لها.
خامسا: تميز قواعده بالتنوع من حيث الانتماء والتخصص، والتعدد من حيث الأغراض، والمرونة والجزالة من حيث الأسلوب والصياغة، والبراعة والإبداع في نظمها مع مادته التأويلية، الأمر الذي يؤكد أن تأويل معاني الآي لم يكن غرضه الوحيد، بل قصد الضبط والتقنين للتفسير جملة كان حاضرا بخصوصياته ومعالمه في فكر وعمل الإمام الطبري.

سادسا: تطرقه لقضايا علمية وموضوعية تتعلق بالعلوم الموظفة في كشف معاني الآي، لم يأت بشكل عرضي، بل جاء مستوعبا لما سلف، ومحررا لمحل النزاع ومواضع الإشكال بتدقيق منهجي.

خطة الإنجاز:   

   أما عن خطة الإنجاز، فقد قسمت الأطروحة إلى أربعة أبواب أولها باب تمهيدي نظري بعد مقدمة وخاتمة تتضمن الخلاصات والاستنتاجات والتوصيات بالإضافة إلى فهارس عامة.

   فأتناول في الباب التمهيدي الموسوم بـ:«قواعد التفسير والفكر التقعيدي عند الإمام الطبري» الموزع على ثلاثة فصول؛ قضايا تعريف مصطلحات: القاعدة، والتفسير، بصفة الإفراد والإضافة، وما يندرج تحتهما من فروق، وأهمية قواعد التفسير، ونشأة التأليف، ومصنفات ومناهج المؤلفين، والفكر التقعيدي من خلال تفسير الطبري وبعض مصنفاته الأخرى التي أمكن الظفر بها، مع إبراز منهج إعماله، وخصائص قواعده، وبيان الحصيلة العددية والنسب المئوية لمجموع قواعد التفسير عند الإمام الطبري.

   أما الباب الثاني: فقد تم تخصيصه للقواعد المتعلقة بالعلوم الأساس، التي ليس للدرس التفسيري غنى عنها، والتي تكون إفادتها في درس التفسير وضبطه إفادة مباشرة، ولذلك جاء عنوان هذا الباب كما يلي:«قواعد تتعلق بعلوم القرآن والقراءات والنسخ» وقد تم تشقيقه إلى ثلاثة فصول تتضمن قضايا التعريف، والأهمية، ووجه التعلق بالمادة التفسيرية، ثم دراسة جملة من القواعد المندرجة في كل فصل من فصول الباب.

   وأتناول في الباب الثالث: قواعد علوم تعتبر أدوات وعناصر لازمة لتناول وتحليل الدرس التفسيري، فبمعزلها يقع الخلط والخطأ الجسيم مسلكا وتحريرا، فجاء عنوان الباب ناظما:«قواعد علوم اللغة، والحديث، والأصول»، وقد تم تشقيقه إلى ثلاثة فصول تتضمن قضايا التعريف، والأهمية، ووجه التعلق بالمادة التفسيرية، ثم دراسة جملة من القواعد المندرجة في كل فصل من فصول هذا الباب.

   وأتناول في الباب الرابع قواعد موضوعات وقضايا اشتمل النص القرآني عليها، وبالتالي كان حظها الذكر والاهتمام في الدرس التفسيري، ولذلك جاء عنوان هذا الباب كالآتي:«قواعد تتعلق بعلمي الكلام والفقه»، وقد تم تشقيقه إلى فصلين يتضمنان قضايا التعريف، والأهمية، ووجه التعلق بالمادة التفسيرية، ثم دراسة جملة من القواعد المندرجة في الفصلين من هذا الباب.

   وخصصت الخاتمة لتناول أبرز الخلاصات والمقترحات التي لاح لي بحثها مستقبلا، وعقد فهارس تخص الآيات، والأحاديث، والقواعد المدروسة، والأعلام، والملل والفرق، والمصادر والمراجع، والموضوعات.

منهج البحث ومميزاته:

   لما كان موضوع الأطروحة يتناول:«قواعد التفسير عند الإمام الطبري ت:310هـ من خلال جامع البيان»، فإن المنهج المتبع في هذه الدراسة استدعى نهج مسلك يقوم على مراعاة المشهور من دراسة القواعد عموما، وفي الوقت ذاته تطلبت الدراسة تنزيل خصوصية المُؤلّف والمؤلّف وطبيعة المادة، وبالتالي كان المنهج جامعا بين صفة العمومية والخصوصية المنطبقة على المادة التفسيرية عند الإمام الطبري، ولتحقيق ذلك نهجت منهجا قوامه الاستقراء والتحليل للقواعد التفسيرية جملة، وفيما يخص منهج السير وتناول تلكم القواعد فيرتكز على الآتي:

أولا: بعد القيام بعملية الجمع والجرد والتصنيف للقواعد، قمت بعرض نماذج منها للدراسة في كل باب وفصل ومبحث ومطلب وفرع عند الحاجة، بالنظر لمباحثها العلمية وتراتبية قضاياها الموضوعية، مقتصرا على بعضها باعتبارها أهم المباحث الدقيقة في كل علم وفن ـ في اعتقادي ـ.

ثانيا: عملت على بيان قول الطبري وإبراز اختياره في المسألة المدروسة، وكشف غرض إعماله، وعقد مقارنات بين أقواله وآراء غيره من أهل العلم سلفا وخلفا من خلال الاستشهاد بنصوص من مصنفاتهم المتخصصة في صدر تحليل القواعد تارة، أو في ختام الأمثلة الإجرائية من تفسير الإمام الطبري:«جامع البيان».
ثالثا: عملت أثناء الدراسة والتحليل على توثيق القواعد المدروسة من مظانها التأصيلية والتطبيقية، ذات التنوع العلمي والموضوعي، معتمدا على مصنفات عديدة في الباب، لاسيما تلكم التي سلفت الطبري في الزمن تنصيصا، والتي تلته تأليفا وتصنيفا، وهاهنا تجدر الإشارة إلى أن الطبري برع في نظم ما تفرق في كتب، ولمّ ما كان متناثرا من آراء واجتهادات في كثير من العلوم.

   والقصد الأساس مما تقدم تحقيق غاية علمية، وحاجة موضوعية، وباعث حثيث على تناول وبحث ودراسة موضوع:«قواعد التفسير» في مصنف الإمام الطبري:«جامع البيان»، ومتعلق ذاك القصد؛ رصد موقع الإمام الطبري في المسألة والقضية، وكشف أثره في أعمال اللاحقين، ومدى استفادته من السابقين، وخصوصية نظره بالنسبة للأقران الملازمين والمعاصرين.

   الأمر الذي مكننا من توضيح مسار الدرس التفسيري في زمانه، والإعراب عن الجديد والتطور الواقع في منهج بحث وتناول المادة التفسيرية، بما يقوي استقلالها ويعزز ذاتيتها، وبيان غاية إعمال قواعده في تفسيره، وبراعة فكره، ودقة منهجه، وجليل صنيعه في التوفيق بين النظرين التأصيلي والتطبيقي، إذ بالاستقراء لعمله، يتكشف لنا أن قصد تناول ودرس وتحليل معان الآي الكريمة في مصنفه التفسيري:«جامع البيان» لم يكن غرضه الوحيد، وإنما قصد الضبط والتأصيل، والتقعيد والتنظير لمعالم خطوات التفسير، كان حاضرا بجلاء بحيث يسهل أمر اقتناصها والظفر بها.

   وهاهنا تجدر الإشارة إلى أمر أساس مُتعلقه؛ أن المقصود بالقواعد المندرجة في الإحصاء، تلك القواعد التي تبينّ أنها مشتملة على العناصر المتعارف عليها في تعريف القاعدة، وما تردد فيه النظر من حيث الاشتمال على العناصر كلا أو بعضا، فقد ارتأيت إيرادها بعد تشاور مع فضيلة الأستاذ المشرف حفظه الله سبحانه وتعالى من باب الأخذ بالاحتياط، وعملا بالمنهج العام القاضي بعدم التفريق بين القاعدة والضابط على اصطلاح الفقهاء، ولأن خصوصية موضوع قواعد التفسير تختلف عن غيره، من حيث عدم التميز بين القواعد الخاصة والعامة، ومن حيث البحث فيه بشكل دقيق لا زال في بدايته، وهذا العمل لا يعدوا أن يكون لبنة في إطار محاولة تأسيس مفهوم قواعد التفسير، والعمل بعد اكتمال الرؤية وتوجيهات السادة المناقشين على التوسع فيه بحثا.

الخلاصات والتوصيات.

   إن موضوع قواعد التفسير ما زال بحاجة لمزيد بحث ونظر، وعقد دراسات وأبحاث متخصصة؛ بقصد تجلية معالمه وإماطة اللثام عن خصوصياته، والنهوض بمجال بحثه من حيز الجزئية في مصنف ما إلى مسالك وضع مدونة التقعيد التفسيري، تستوعب خطوات تناول الدرس التفسيري، وتشمل القضايا والعلوم المعينة على الخدمة؛ من أجل الرقي بموضوعه من سمات التداخل والاشتراك التي عرفها سابقا، إلى معالم الاستقلال وقوام الذات المنشودة حاضرا ومستقبلا.

   فتناوله قديما عرف تداخلا بينه وبين غيره من مباحث التفسير، وعلوم القرآن على وجه الخصوص، وحديثا لم يرق للمستوى المطلوب من حيث تخصيص بحوث مفردة مستفيضة، أو من حيث تدقيق تعريفه وتحقيق مفهومه، فغياب تكوين فكر أغلبي على تعاريفه وقضاياه، جعل الباب مفتوحا على مصراعيه للآراء والاجتهادات الفردية، منها ما قارب الصواب ومنها ما جانبه بحثا ومنهجا وموضوعا، وبالتالي بقي موضوع قواعد التفسير في أمس الحاجة للضبط.

    وإن اختيار بحث قواعد التفسير عند الإمام الطبري، انطلق من خصوصية التقعيد التي تطبع فكره، وتنطبق على أقواله وآرائه، وتسطع بها مصنفاته ومحرراته، فبإجالة النظر في مصنفاته تظهر همينة الموضوع حضورا وإعمالا؛ لأغراض الترجيح والانتصار لعدد من الاختيارات والاجتهادات.

   وإذا كان ذلك شأن سائر مصنفاته، فإن همينة فكر التأصيل في:«جامع البيان»لم يشذ عن تلكم الخاصية، فتفسيره تضمن دررا غالية؛ تبوء بقصد الشمول في تناول القضايا، وسلك الجزئيات في كليات، وهذا لا يتأتى إلا لرجل خبر العلوم وسبر أغوارها، ونهل من معينها، واستفاد من جهود السابقين، وتشبع بأبحاث المعاصرين، الشيء الذي مكنه من رسم معالم منهج دقيق للاحقين.

   والناظر في مقدمة تفسيره، يلحظ مسألة التقعيد واضحة في كل صفحة من صفحاتها الغزيرة بالفوائد قضايا وموضوعات، وقواعد وتأصيلات، الأمر الذي يبعث على دوام النظر فيها وتجديد القراءة المرة تلو المرة لاعتبارات عدة، لعل أهمها كون مقدمة الإمام الطبري من أوائل المقدمات العلمية والمنهجية والموضوعية في الباب، التي جادت بها قريحة الرجل ونطقت بها حصافة فكره، فكانت منطلقا أصيلا بالنسبة للاحقين، ومثالا يحتذى به في أعمال المتخصصين.

    المسألة نفسها قصدتها من تدقيق النظر في مقدمته، فتبيّن لي أن القضايا والمسائل والمباحث، التي تناولها الإمام الطبري في مقدمته، التي يمكن اعتبارها بحق مقدمة تأسيسية تأصيلية من حيث العموم والإطلاق، والشمول والاستيعاب، ومن حيث التخصص والتدقيق؛ يتكشف أن مقدمته تناولت علوما وفنونا يمكن إدراجها في علاقتها بالدرس التفسيري في مستويات ثلاث أساس:

 أولها: تطرقه لعلوم أساس بالنسبة للدرس التفسيري، بحيث لا يمكن الحديث عن قوامه بمعزل عنها، فحق أن تكون في مرتبة الصدارة تناولا وعناية، لصلتها المباشرة، فصدق الأمر على خطوات التفسير؛ ببيان طرقه وموارده ومنهج تناول تفسير النص القرآني، كما صدق الأمر على قضايا القراءة والتلاوة والنزول على سبعة أحرف وما يتعلق بذلك من تدقيقات نفيسة، وتحريرات رصينة.

ثانيها: تطرقه لعلوم تعتبر من الأدوات الضرورية والعناصر اللازمة للدرس التفسيري، من حيث تحليل الخطاب وإيضاح مكنونات الألفاظ وفهم المعاني، ففي غيابها يحصل الخلط والاضطراب، فصدق الأمر على علم الحديث المؤسس لمنهج الرواية والدراية، واللغة باعتبارها مفتاح النظر في الخطاب القرآني، وبوابة فهم تعاليمه التشريعية والأخلاقية، فأثار في مقدمته دررا وغررا بديعة.

ثالثها: تطرقه لعلوم تعتبر من موضوعات وقضايا التفسير، على اعتبار أن النص القرآني تناولها أصالة في تعاليمه وأحكامه، فكان حق الدرس التفسيري أن يتناولها بعناية واهتمام، فصدق الأمر على كلامه المتعلق بقصد بيان الأحكام الفقهية الشرعية في مادته التأويلية المشفوعة بالأدلة والحجج.

   واللطيف في الأمر الذي دأب الطبري على التنصيص عليه ولفت الانتباه إليه؛ كون العلوم المستثمرة في المادة التفسيرية سواء كانت مباشرة أو وسيلة خادمة أو أداة أو موضوعا، فإن المنهج الأمثل في إعمالها؛ هو قصد التوسط والاعتدال من غير إفراط ولا تفريط، وقصد الاكتفاء بالقدر الخادم في العملية التأويلية دون التهافت والانسياب في ذكر القضايا، وإغراق الدرس التفسيري بمباحث كتب أهل الفن أليق بذكرها وتحريرها، فكان الحال أن تذكر في الدرس التفسيري مسلمة دون حاجة لإقامة الدليل على صدقها وصحتها، فذلك من الفضول لا من الأصول.

  فمن خلال هذه المنطلقات التي اختزنتها المقدمة، آثرت أن تكون هي رائدي في الرسالة، ووفق ما تقرر فيها من تأصيل وتدقيق، ورسم لخطوات السير ومنهج التناول، وبما تحصل من جرد وتصنيف لقواعد العلوم المستثمرة في التفسير، جاء هيكل الأطروحة السالف في خطة الإنجاز آنفا.

 ومجموع ما تحصّل من تحرير أبوابها، مكننا من اقتناص زمرة من الخلاصات والتوصيات.

أولا: إن الفكر التقعيدي حاضر بتجلياته في فكر الطبري، وجلي تطبيقا وإجراء في مصنفاته، وهو يكشف قوة عارضة، وحصافة فكر، وملامح إبداع وتألق، وميزة وخاصية تبرزه الإمام الطبري في مصاف أهل التجديد، في زمان اتسم بأهل العلم وقوة الأقران من أعيان المذاهب والفقهاء وأهل التأويل.

ثانيا: الفكر التقعيدي في تفسيره نال حظا وافرا، باعتبار التفسير يستلزم ملكة علمية وموضوعية، فضلا عن سمات أخلاقية وتربوية، فالنص هو كتاب الله سبحانه وتعالى، وذلك يستدعي استحضار قدسيته قبل الإقدام أو الإحجام، وهو ما يتطلب نهج التوسط والاعتدال في استثمار القضايا والمسائل، وقصد مراعاة المعهود من خطابه وأساليبه ولغة تنزيله، ووقائع حال المرسل إليهم، وزمان الإرسال، فقد كان دائم التأكيد في مواطن تأويله على الخاصيات، فلم يتكلف في تفسيرها أو يتعسف في توجيهها بما يوافق مذهبا؛ الشيء الجلي في ملاحظاته على المفسرين، وظاهر في انتقاده للمؤولين واللغويين وغيرهم.

ثالثا: إن القواعد التفسيرية التي قعدها الطبري، تتسم بالتعدد والتنوع، فزمرة من مباحث تلكم الفنون؛ لها صلة وطيدة بالدرس التفسيري، لاسيما الشق المتعلق بجوانب البيان والتفسير للخطاب، وإدراك خصائص التعبير القرآني وبلاغة نصه المعجز لفظا ومعنا، وفقه مقاصده وتشريعاته، وتلمس معالمه التربوية والإصلاحية، كل هذه المباحث تثير قضايا وإشكالات بحثها أهل العلوم، فكان التفسير بحاجة إليها إما بحثا مختصرا، أو نهلا من نخبة ما استقر الأمر عليه نصا أو دلالة.

رابعا: إن إعمال قواعد التفسير عند الطبري، كان بقصد الاعتضاد والانتصار لآراء الموالف، وبالنقد والاعتراض على المخالف، وبالتأسيس والتأصيل وإنشاء منهج التعامل، وبالتأكيد والتقرير وزيادة التوضيح للمعلوم من المبادئ والمسلمات، فهي أهداف رام تحقيقها بقصد مباشر أو بغيره في مشروعه التأويلي، فبانت بوضوح في عمله تأصيلا وتقعيدا، وإجراء وتمثيلا، فتوافق بذلك الشق التنظيري بالتطبيقي في عمله.

خامسا: ما تقدم من الخلاصات يكشف اختيارات الطبري التفسيرية والفقهية والحديثية والأصولية والكلامية واللغوية والقرائية، والنسخ وغيرها، وذلك يجلي حقيقة مذهبه، ويوضح قناعته، بما يبينه مفسرا وأصوليا وفقيها..، فكتابه التفسير بالأساس، إضافة إلى مصنفاته التي اعتمدتها في الرسالة بيّنت حقائق وترجيحات واختيارات، منها المعلوم، ومنها الذي أثير حوله إشكالات، ومنها ما يفتح شهية البحث مستقبلا، والقيد الأخير يقودنا للحديث عن بعض التوصيات منها:

أولا: تعميق البحث في تفسير الطبري في عدد من الجوانب العلمية التي زخر بها، فهو ليس كتاب تفسير للآيات القرآنية بما تضمنته من معارف وإفادات فحسب، بل هو مجال للتنظير والتأسيس، والتوجيه والترشيد لمسار الدرس التفسيري، بما ارتبط به من قواعد تتعلق بالدرس التفسيري من حيث الأساسات والأدوات والموضوعات، فصاحبه حمل هم الدعوة الإصلاحية والتربوية والعلمية، ونادى تأصيلا وتقعيدا، وبيّنها إجراء وتمثيلا، فحقيق بالباحثين بحثه ودراسته، بقصد رصد الجهد، وبيان الجديد، ولمس جوانب التألق والإبداع، ومواطن السبق والتفرد عنده.

ثانيا: كثير من الجوانب العلمية والقضايا الموضوعية هي بحاجة لمزيد بحث وتدقيق عميق من بينها؛ قضية الإجماع، والقراءات، وأصول الفقه، والنسخ، والأسانيد، فالطبري له مصنفات في الباب، وللأسف هي مفقودة أو لا زالت محجوبة، وتلمس قضاياها من التفسير وباقي مصنفاته، من شأنه إعطاء لمحة وصورة، وتعميق النظر في مؤلفاته جميعها من شأنه إيضاح القضية ببعد أشمل ونظرة أوسع، لاسيما إذا تضافرت جهود الباحثين.

ثالثا: تشكيل فريق عمل لجرد حصيلة القواعد بأنواعها في مصنفات الطبري، وتصنيفها ودراستها بشكل أعمق ونظر أوسع، والعمل على توثيقها وعقد مقارنات بين ما تحصل من تراثه التأصيلي، وبين جهود السابقين، وأعمال اللاحقين، لرصد جهده في الباب، وبيان موقعه بين أقرانه، وتكشيف مدى تأثره بالسابقين، وأثره في اللاحقين، فهذا مجهود جبار يحتاج تضافرا وعملا متكاملا، والتفكير فيه يقودنا إلى التوصية الأخيرة التي أختم بها فأقول وبالله التوفيق:

رابعا: إن القيام بهذا العمل لا تسعه بحوث ودراسات أفراد فحسب، بل تلزمه التعبئة الجماعية لفرق من أهل البحث والاشتغال في العلوم الإسلامية، ولا يتأتى ذلك إلى بعقد ندوات ومؤتمرات وملتقيات تتخصص في بيان الفكر التقعيدي للإمام الطبري في تراثه، ويبرز أثره في خدمة العلوم، وتجلي إلى أي مدى ساهم الطبري بصنيعه في الارتقاء بالفكر التقعيدي من حيز الجزئية التفريعية إلى الكلية التأصيلية، المنيرة طريق الباحثين في المادة التفسيرية خصوصا والعلمية عموما.

  هذا عن الإمام محمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين، وعن الدرس التفسيري فأعتقد أن مجال الدراسات القرآنية والتفسيرية خاصة بحاجة ماسة إلى التفكير الجدي في وضع مدونة التقعيد التفسيري، تُستخلص من مجموع المصنفات والمحررات التفسيرية على مرّ العصور وبشتى المناهج والمدارس والتيارات التي عرفها حركة التأليف والتصنيف، وفق منهج دقيق يستوعب الخطوات الاستثمارية اللازمة؛ ليفي بالغرض ويحقق الغاية المنشودة.

   وفي الختام لا يسعني إلا تجديد الشكر وعظيم الامتنان لفضيلة الأستاذ المشرف الدكتور:«إدريس الفاسي الفهري حفظه الله سبحانه وتعالى»، على تجشم مشاق الإشراف والمتابعة، والتدقيق والتصحيح، والتوجيه والترشيد، وللسادة أعضاء لجنة المناقشة فضيلة الدكتور عبد العالي مسؤول، وفضيلة الدكتور الحسين العمريش، وفضيلة الدكتور محمد مهدي رمح لقبولهم مناقشة هذا العمل في وقت دقيق يتميز بنهاية الموسم الدراسي الحالي وما يصحبه من تعب ينضاف لمشاغيلهم ومسؤولياتهم الإدارية والتربوية، ومع ذلك قبلوا ورحبوا وتجشموا المشاق فجزاكم الله عني جميعا خير الجزاء.

  والشكر موصول للوالدين الكريمين وللأهل والأحباب، ولكل من كانت له يد العون والمساعدة في إنجاز هذا العمل من حيث التمكين من بعض الكتب والمراجع النفيسة، ومن حيث المذاكرات والاستشارات والمناقشات، والنصائح والخدمات الجليلة، فلكم مني جميعا حسن التقدير والامتنان، وجزاكم الله عني خير الجزاء وجعل حسن صنيعكم في ميزان حسناتكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق