مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

قواعدُ في صناعة الشعر! القاعدة الرابعة: معرفة ضرائر الشعر (الحلقة الخامسة)

إنَّ من قواعد صناعة الشعر وآداب الشاعر معرفةَ الضرائر الشعرية، وهي – على مذهب الجمهور -: «مَا وَقع فِي الشّعْر، سَوَاء كَانَ للشاعر عَنهُ فُسحة أم لَا»(1)، أو هيَ رخصٌ لغويّة يَجوز للشاعر ارتكابها عند الاضطرار، بأن يخالف القواعدَ النحوية أو الصرفية لإقامة الوزنِ أو للاتّساع في المعاني.

ويتأكّد على الشّادِي معرفة الضرائر والتمييز بينَ المستحسنة منها والمستهجنة؛ لأن قيود الوزن والقافية قد تجرُّ إلى مخالفةِ القياسِ وتلجئُ إلى العدول عن سَنن الكلام، و«ليكونَ له حجَّة لما يقع في شعره، مما يضطر إليه من استقامة قافيةٍ، أو وزن بيتٍ، أو إصلاح إعراب»(2)، يقولُ ابن جنيّ – رحمه الله تعالى-: «الشّعرُ موضع اضطرار، وموقف اعتذار، وكثيرا ما يحرَّفُ فيه الكلم عن أبنيته، وتحال فيه المُثُل عن أوضاع صِيغَتها لأجله»(3).

وعليه بعد ضبط الضرورات التحفظُ والاقتصادُ؛ بأن يحترز منها ما أمكن، ويرتكبَ عند الاضطرار ما استُحسنَ منها، ويتحفّظ مما استهجنَ واخشوشنَ؛ لأنَّ قصرَ الممدود ليس كمدِّ المقصور، وصرف غير المنصرف ليس كمنع المصروف من الصرف(4)، وكذلك أن يعلم أن نُقّاد الشّعر – وإن جوّزوا الخُروج على القواعدِ – فلم يختلفوا في أنَّ «ما لا يُؤدِّي إلى الضرورة أولى مما يُؤَدِّي إليها»(5)، وأن ما فيه ضرورة أحسنُ مما فيه ضرورتان أو أكثر!

ويقول ابن جني –رحمه الله تعالى – في «الخصائص»: «لا يَضع في نفسه أنّ الشعر موضع اضطرار، وأنّه يسلك سبيل من كان قبله، ويحتج بالأبيات التي قد عيبت على قائليها، فليس يقتدَى بالمسيءِ، وإنما الاقتداء بالمحسن»(6).

 ويقول المظفّر العلوي –رحمه الله تعالى – في «نضرة الإغريض»: «وأمّا ارتكابُ الضروراتِ غير المحظوراتِ فيجوزُ استعمالُها وإن كانت عند المحقّقينَ عيباً، وقائلُها عندهم مسيئاً، إلا أنّ اجتنابَها مع جَوازها أحسنُ»(7).

ويقول أَبُو هلالٍ العسكري في «كتاب الصناعتين»: «وينبغي أن تجتنبَ ارتكابَ الضرورات، وإن جاءت فيها رخصة من أهل العربية، فإنها قبيحة تَشين الكلام وتَذهبُ بمائهِ، وإنما استعملها القدماء في أشعارهم لعدم علمهم بقباحتها، ولأنَّ بعضهم كان صاحب بداية والبدايةُ مزَلّة، وما كان أيضا تنقد عليهم أشعارهم، ولو قد نُقدت وبهرج منها المَعيب كما تُنقَد على شعراء هذه الأزمنة، ويُبهرج من كلامهم ما فيه أدنى عيبٍ لتَجنّبوها»(8).

وينبغي أيضا أن يعلم أنّ الضرورة الشعرية ما كان عن علمٍ ودراية، وأما ما كان عن جهلٍ وخفة بضاعةٍ في اللغة والنحو والصرف، فليس منها في شيء، لذلك قال السيرافي – رحمه الله تعالى-: «وليس في شيء من ذلك [أي من الضرورة] رفعُ منصوبٍ، ولا نصب مخفوضٍ، ولا لفظٌ يكون المتكلم فيه لاحنًا، ومتى وجد هذا في شعر كان ساقطًا مطّرحًا، ولم يدخل في ضرورة الشعر»(9).

 ما ألف في ضرائر الشعر:

عني العلماء والنّقاد بضرائر الشعر؛ فمنهم من ذكرها عرضًا، مثل:

– سيبويه – رحمه الله تعالى- (ت:180هـ) في «الكتاب»؛ فقد عقد بابا سماه : «هذا باب ما يحتمل الشعر»(10)، وذكر فيه طرفا من الضرائر، مثل: صرف ما لا ينصرف، وفك المدغم، وختمه بقوله: «وليس شيء يضطَرّون إليه إلا وهمْ يحاوِلون به وجها. وما يجوز في الشعر أكثر من أن أذكره لك ههنا، لأنّ هذا موضع جُمَلٍ، وسنبيّن ذلك فيما نَستقبِلُ إن شاء الله»(11)، ثم تعرض لبعض الضرائر في مواضع متفرقة من الكتاب(12).

–  أبو حيان – رحمه الله تعالى – (ت:745هـ) في «ارتشاف الضرب»؛ فقد عقد بابا سماه «باب الضرائر»، وافتتحه بقوله: «يجوز للشاعر في الشعر ما لا يجوز في الكلام عند سيبويه، بشرط الاضطرار إليه، وردّ فرع إلى أصل، وتشبيه غير جائز بجائز خلافًا لابن جني في كونه لم يشترط الاضطرار، ووافقه ابن عصفور قال: لأنه موضع قد أُلِفَتْ فيه الضرائر»(13)، ثم ذكر طائفة منها.

– ابن رشيق القيرواني –رحمه الله تعالى -(ت:463هـ)، في «العمدة»؛ فقد عقد بابا سمّاهُ: «باب الرخص في الشعر»، وابتدأه بقوله: «وأذكر هاهنا ما يجوز للشاعر إذا اضطُرّ إليه، على أنه لا خير في الضرورة، غيرَ أن بعضها أسهل من بعض، ومنها ما يُسمع عن العرب ولا يُعمَل به؛ لأنهم أتوا به على جبلّتهم، والمولّد المُحدث قد عرف أنه عيب، ودخوله في العيب يلزمه إياه»(14)، ثم ذكر منها جملةً.

– جلال الدين السيوطي – رحمه الله تعالى- (ت:911هـ) في «همع الهوامع»، وعقد مبحثا سماهُ: «الضرائر»، وقال: «هَذَا مَبْحَث الْأُمُور الَّتِي تجوز لضَرُورَة الشّعْر وَلَا تجوز فِي غَيره»(15)، ثم ذكر طائفة منها.

   ومن العلماء من أفرد الضرائر بالتصنيف، وسلكوا في ذكرها مسالك مختلفة، ومن تلك المصنفات:

– ضرورة الشعر، لأبي سعيدٍ السّيرافيّ – رحمه الله تعالى- (ت:368هـ)، وطبع أيضا باسم: ما يحتمل الشعر من الضرورة، وهذا الكتاب جزء من شرح السيرافي على كتاب سيبويه، وشرحٌ لأحد أبوابه المسمى بـ«باب ما يحتمل الشعر»، لذلك يصلح إدراجه ضمن القسم الأول أيضًا.

   وقد جعل الضرائر على تسعة أوجه، وهي: الزيادة، والنقصان، والحذف، والتقديم، والتأخير، والإبدال، وتغيير وجه من الإعراب إلى وجه آخر على سبيل التشبيه، وتأنيث المذكر، وتذكير المؤنث.

– ما يجوز للشاعر في الضرورةِ، للقزّاز القيروانيّ – رحمه الله تعالى- (ت:412هـ)، وقد سرد منها طائفة، وترجع إلى «من الزيادة والنقصان، والاتّساع في سائر المعاني، من التقديم والتأخير، والقلب والإبدال».

– ضرائر الشعر، لابن عصفور الإشبيليّ – رحمه الله تعالى- (ت:669هـ)، وقسم الضرائر إلى أربعة أنواع: زيادةٍ، ونقص، وتأخير وبدل.

– الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر، للسيد محمود شكري الآلوسِيّ (ت:1342هـ)، وجعلها على ثلاثة أنواع: الحذف، والتغيير، والزيادة.

– لغة الشعر -دراسة في الضرورة الشعرية -، للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، وهو كتاب لطيف.

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) خزانة الأدب (1/46)

(2) ما يجوز للشاعر في الضرورة (ص:99)

(3) الخصائص (3/188)

(4) تنقسم الضرائر إلى مستحسنة وقبيحة، انظر:  الضرائر للآلوسي (ص:20 وما بعدها)

(5) الضرائر للآلوسي (ص:20)

(6) الخصائص (3/188)

(7) نضرة الإغريض (ص:390)

(8) كتاب الصناعتين (ص:150)

(9) ما يحتمل الشعر من الضرورة، للسيرافي (ص:34)

(10) الكتاب (1/26)

(11) الكتاب (1/32)

(12) انظر: الكتاب (2/269)، و(2/362)

(13) ارتشاف الضرائر (5/2377)

(14) العمدة (2/1050)

(15) همع الهوامع (3/273)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق