مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

قواعدُ في صناعة الشعر! القاعدة الخامسة: التهذيب والتنقيح (الحلقة السادسة)

إنَّ جيّد الشِّعر ليْسَ كَرديئه الّذي تَمجُّه الطّباع، وإن مهذَّبه ومُنقَّحهُ ليس كغيرهِ الذي تنفر منه الأسمَاع، لذلك حرص جماعةٌ من الشّعراء على تهذيب أشعارهم؛ بتنقيتهَا من الحشو وتنقيحها من الألفاظ الساقطةِ والمعاني النازلة والقوافي القَلِقةِ والأبياتِ المتنافرة، فَمنهمْ «من كان يَدَعُ القصيدة تمكثُ عندهُ حولًا كَرِيتًا وزمنًا طويلًا يُردّد فيها نظره، ويُجيل فيها عقله، ويُقلّب فيها رأيه، اتّهاما لعقله، وتتبّعا على نفسه فيجعل عقلَه زِمامًا على رأيه، ورأيَه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه وإحرازًا لما خوَّله الله تعالى من نعمته. وكانوا يسمّون تلك القصائد: الحَوْليَّات، والمُقلَّدات، والمُنقّحات والمُحْكمات؛ ليصير قائلُها فحلًا خنذيذًا، وشاعرًا مفلقًا»(1).

ومن هؤلاء الشاعرُ الجاهليُّ الفحل زهير بن أبي سُلمَى الذي اشتهر بحوليّاته؛ إذْ كان يعمل القصيدة في أربعة أشهر، وينقّحها في أربعة أشهر، ثم يعرضها على الخاصّة في أربعة أشهر، ثم من بعدُ ينشدها للنّاس(2)، حتى قال الحُطيئة: «خير الشّعر الحوليّ المُنقّح المُحكّك»(3).

ومنهم الحُطيئة الذي حذَا حذو أستاذه زهيرٍ وعمل على شاكلته؛ فقد ذكر أبو هلال العسكريّ في «الصناعتين» أنه كان «يعمل القصيدة في شهر، وينظر فيها ثلاثة أشهر، ثم يبرزها»(4)، ويقول فيهما الأصمعيُّ: «زهيرٌ والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر؛ لأنهم نقّحوه، ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين»(5).

ومنهم الشاعر العباسيّ أبو نواس الذي ذكر أبو هلال أنه كان «يعمل القصيدة ويتركها ليلةً، ثم ينظر فيها؛ فيلقي أكثرَها، ويقتصر على العيون منها»(6)، أي «يَنْفِي الدنيءَ ويُبقي الجيّدَ»(7).

ومنهم أبو عبادةَ البحتريُّ الذي ذكر أبو هلال أيضاً أنه كان «يُلقي من كل قصيدةٍ يعملها جميعَ ما يرتاب به، فخرجَ شعرُه مهذّبًا»(8)، بخلاف صاحبهِ أَبي تمام الذي: «كان يرضى بأَوّلِ خاطرٍ»(9)، فكثُر ما أوخِذَ عليه، وَ«نُعِيَ عليه عيبٌ كثير»(10).

وقد تفاخَر بعض الشُّعراء بتهذيبهم لأشعارهم، وتغنّوا بما يعانونَه من بَرْحِ المراجعة والتّنقيح، ومنهم:

(*) امرؤ القيس الذي يقول(11): [المتقارب]

أذودُ القوافيَ عنّي ذياداً = ذيادَ غُلامٍ جَرِيءٍ جَرادا

فلما كثُرن وعَنَّيْنَهُ = تخيَّرَ منهنَّ شَتَّى جيادا

فأعزِلُ مَرجَانَها جانِباً = وآخذُ من دُرِّها المستَجادا

(*) وعدي بن الرّقاع العَامليُّ الذي يقول(12): [من الكامل]

وقصيدة قد بتُّ أجمع بَيْنَهَا = حتَّى أُقوِّمَ ميلَها وسنادها

نظرَ المثَقِّف في كعوب قناتِهِ = حتَّى يُقيمَ ثِقافُهُ مُنْآدَهَــا

(*)وكعب بن زهير الّذي يقول(13): [من الطويل]

فَمَنْ للقَوافي شانَها مَن يَحوكُها = إِذا ما ثَوى كعْبٌ وفوَّزَ جَرْوَل

يُقَوِّمُها حَتَّى تَقُومَ مُتُونُها = فَيَقْصُرُ عَنْهَا كُلُّ ما يُتمثَّلُ

* * *

ويتأكد بما ذكرنَا أنَّ من آداب الشاعر الذي تطمح نفسهُ إلى التجويد والتَّبريز أن يجتهدَ في تهذيب شعره، ويبالغَ في مراجعته وتنقيحهِ، وعليه ألَّا يتسرع في نشره وعرضه على المَلأ، إلا بعد أن يعيد فيه النظر كرَّتين، يقول ابن أبي الأصبع العدوانيُّ: «وأَشْعِرْهَا أَوَّلاً، ونقّحها ثانياً، وكرّر التنقيح، وعاود التهذيب، ولا تخرجها عنك إلا بعد تدقيق النقد وإنعام النظر»(14)، ويقول ابن رشيق القيروانيّ: «ولا يكون الشاعر حاذقاً مجوِّدًا حتَّى يتفقّد شعره، ويعيد فيه نظره، فيُسْقط رَدِيئَهُ، وَيُثْبت جيِّدَه، ويكون سمحاً بالركيك منه، مُطَّرِحاً له، راغباً عنه؛ فإن بيتاً جيداً مقام ألفَيْ ردِيء»(15).

ومما يستعانُ به في التهذيب أمران اثنان:

  • الأول: التغني والترنَّم فيه، قال المظفر العلويّ: «وينبغي للشّاعرِ أنه إذا نظمَ شِعراً يردِّده برفيعٍ من صوته؛ فإنّ الغِناءَ فيه يكشفُ عيوبَه، ويبيّنُ متكلَّفَ ألفاظِه؛ ألا ترى إلى قولِ حسّان بن ثابت: [البسيط]
  • تغنَّ في كلِّ شِعْرٍ أنتَ قائلُهُ = إنّ الغِناءَ لهذا الشِّعْرِ مِضْمارُ(16)»

الثاني أن يعرض قصائده على النّقّاد العارفين بجيد الشعر ورديئه قبل نشرها؛ فقد كان زهير يبالغ في مراجعة شعره، حتى بلغ به الحرص على التجويد – وهو من هو – أن يعرض قصائده الحوليّات على الخاصَّةِ قبل أن يخرجها للناس ويذيعَها بينهم.

وأمَّا من لم يُعاود التهذيب، وأعرض عن التنقيح فقد انتصَب غرضًا لسهام الناقدين، وعرَّض نفسَه للسُّخرية والازدراء، ولله در القائل(17): [الكامل]

لا تعرضنَّ على الرُّواة قصيدةً = ما لم تَكُنْ بالغتَ في تهذيبها

وإذا عرَضْتَ الشّعر غير مهذَّب = عدّوهُ منك وساوساً تهذي بها

*   *   *

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) البيان والتبيين (2/9)

(2) انظر: شرح المعلقات للزوزني (ص:128)، وخزانة الأدب (2/31)

(3) البيان والتبيين (1/204)، والشعر والشعراء (1/78)

(4) الصناعتين (ص:141)

(5) الشعر والشعراء (1/78)

(6) الصناعتين (ص:141)

(7) العمدة (1/322)

(8) الصناعتين (ص:141)

(9) الصناعتين (ص:141)

(10) الصناعتين (ص:141)

(11) العمدة (1/321)، وهي –مع اختلاف يسير – في: ديوان امرئ القيس (ص:248)

(12) ديوان عدي بن الرقاع (ص:89-90)، وفي رواية: أجمع شملها.

(13) شرح ديوان كعب بن زهير (ص:59)، ويروى: حتى تقومَ متونها.

(14) تحرير التحبير (3/414)

(15) العمدة (1/321)، وفي بعض النسخ: يقاوم ألفي بيت رديء.

(16) نضرة الإغريض (ص:391)

(17) انظر: نهاية الأرب (7/92)، وخزانة الأدب (1/59)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق