مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

قطوف لغوية من كتاب “التحرير والتنوير” (4)

نتعرض في هذه الحلقة لموضع آخر من المواضع الثمانية والعشرين التي ذكر الطاهر ابن عاشور في تفسيره أنها من مبتكرات القرآن، نسلط عليه الضوء، ونحدد نوعه، وما قاله المفسرون فيه قبل ابن عاشور.

وهذا الموضع وارد في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)  [الإسراء: 1]، وبالضبط في لفظ “الأقصى”، ولعل الكثير منا اعتاد هذا الاستعمال فلم يكن يعلم من قبل أنه استعمال قرآني مبتكر، إذ أصبح مألوفا جدا بعد الاستعمال القرآني، لكن ذلك لم يمنع الطاهر ابن عاشور من البحث عن استعماله عند العرب قبل نزول القرآن، ليخلُص إلى أنه من مبتكرات القرآن.

يقول ابن عاشور: “والأقصى أي الأبعد، والمراد بعده عن مكة، بقرينة جعله نهاية الإسراء من المسجد الحرام، وهو وصف كاشف اقتضاه هنا زيادة التنبيه على معجزة هذا الإسراء وكونه خارقا للعادة، لكونه قطع مسافة طويلة في بعض ليلة. وبهذا الوصف الوارد له في القرآن صار مجموع الوصف والموصوف علما بالغلبة على مسجد بيت المقدس كما كان المسجد الحرام علما بالغلبة على مسجد مكة، وأحسب أن هذا العلم لهو من مبتكرات القرآن، فلم يكن العرب يصفونه بهذا الوصف، ولكنهم لما سمعوا هذه الآية فهموا المراد منه أنه مسجد إيلياء، ولم يكن مسجد لدين إلهي غيرهما يومئذ”(1)، ونقف فيما يلي على أربع نقاط رئيسة تتعلق بهذا الموضع وهي كالآتي:

أولا: هذا الموضع يدخل في مبتكرات القرآن في الألفاظ والتراكيب.

ثانيا: ورد الحكم على كونه من المبتكرات أيضا بصيغة الاحتمال وليس الجزم على عادة الطاهر ابن عاشور في ذلك.

ثالثا: كان ابن عاشور سباقا في عده هذه الصيغة من مبتكرات القرآن أو ما كانوا يسمونه إبداعا أو اختراعا، فلم يشر المفسرون قبله إلى شيء من ذلك فيما وقفت عليه، وإنما يكتفون بتفسيره بأن المقصود به مسجد إيلياء أو بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وأنه قيل له الأبعد، لأنه أبعد المساجد التي تزار(2).

رابعا: أصبح هذا الوصف للمسجد بعد الاستعمال القرآني واردا في كلام العرب شعرا ونثرا، وفي الحديث الشريف: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى”(3).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1 التحرير والتنوير 16/10.

2 انظر مثلا: تفسير الطبري 5/6، وتفسير الزمخشري ص: 589، وتفسير القرطبي 13/12، وتفسير ابن كثير 3/3.

3 ورد الحديث بصيغ مختلفة، وقد أخرجه البخاري في صحيحه بهذه الصيغة في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة [رقم: 1132].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق