مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

قضاة قرطبة – الجزء الأول

قضاة قرطبة ج1

بقلم: محمد اباحنيني

لا نستخلص من كتاب الخشني شيئا كثيرا عن فصول الدعوى وسياق المرافعة غير أنه يفيدنا أن كثيرا من القضاة كانوا لا يجدون في نفوسهم حرجا من استشارة فقهاء الأندلس وعلمائها إذا غاب عنهم وجه الصواب والتبست عليهم سبل الفصل في أمر من الأمور وربما تجاوزوا الأندلس إلى غيرها من الأقطار فكاتبوا جهابذة الفقه في مصر مثلا يلتمسون منهم المعونة على حل ما كان يعرض لهم من المشاكل.

ولم يكن قضاة قرطبة يمارسون مهنتهم طول حياتهم بل كثيرا ما كانوا يصرفون عنها ويصابون بالعزل، وكان لهذا العزل أسباب  مختلفة فقد كان يعزل القاضي لصلابة فيه تعترض أغراض الأمير أو الخليفة وتحول بينه وبين ما يريد، استدل الخشني على ذلك بحادثة ذهب فيها أحد القضاة ضحية الشهوة الجامحة وقص علينا قصة لا يخلو إيرادها من فائدة قال:«كان السبب في عزلة محمد بن زياد عن القضاء ما كان من أمر ابن أخي عجب، وذلك أنه شهد عليه بلفظ نطق به متعبثا في يوم غيث فأمر الأمير عبد الرحمن رحمه الله بحبسه فأبرمته (عجب) في إطلاقه وكانت مدلة عليه لمكانها من أبيه فقال لها نكشف أهل العلم عما يجب عليه في لفظه ثم يكون الفصل في أمره فأمر الأمير رحمه الله محمد بن السليم وهو يومئذ وإلى المدينة أن يحضر القاضي محمد بن زياد وفقهاء البلد فجمعهم في مجلس النشمة فحضر حينئذ عبد الملك بن حبيب وأصبغ بن خليل وعبد الأعلى بن وهب وأبو زيد بن ابراهيم وأبان بن عيسى فشاورهم في أمره وأخبرهم بما كان من لفظه فتوقف عن الإشارة يسفك دمه القاضي ابن زياد وأبو زيد وعبد الأعلى وأبان وأشار نفتله عبد الملك بن حبيب وأصبغ بن خليل فأمرهم محمد بن السليم أن ينصوا فتياهم على وجهها في صك ليرفعها إلى الأمير رحمه الله ففعلوا فلما تصفح الأمير قولهم استحسن قول عبد الملك وأصبغ ورأى ما رأيا من قتله وأمر حسان الفتى فخرج عليهم فقال لصاحب المدينة قد فهم الأمير أكرمه الله ما أفتى به القوم في أمر هذا الفاسق وهو يقول للقاضي اذهب فقد عزلناك وأما أنت يعني عبد الأعلى فكان يحيى بن يحيى يشهد عليك بالزندقة ومن كانت هذه حاله فحري ألا تسمع فتياه وأما أنت يا أبان بن عيسى فأنا أردنا أن نوليك القضاء بحيان فزعمت أنك لا تحسن القضاء بأن كنت صادقا فما آن لك أن تتعلم الفتيا وإن كنت كاذبا فالكاذب لا يكون أمينا ثم قال حسان الفتى لصاحب المدينة والأمير أكرمه الله يأمرك أن تخرج الساعة مع هذين الشيخين عبد الملك وأصبغ فأمر لهما بأربعين غلاما من الغلمان ينفذون نظما في هذا الفاسق ما رأيا فخرج عبد الملك وهو يقول : سبب رب عبدناه إن لم ننتصر له إنا لعبيد سوء ثم أخرج المحبوس فوفقا حتى رفع في خشبته وهو يقول لعبد الملك: أبا مروان اتق الله في دمي فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وعبد الملك يقول آلآن وقد عصيت قبل حتى صلب وانصرفا »

وقد عزل عبد الرحمن بن الحكم القاضي إبراهيم بن العباس القرشي لأن أحد أعوان القاضي ممن كانت لهم صلة بالأمير اتهمه بأنه يدعى بابن الخلائف وكان من القضاة من عزل لأنه كان لا يأنف من قبول التحف والهدايا وكان منهم من لم  يعزل إلا لكبر سنه وعجزه عن القيام بأعباء الخطة ومنهم من لم يصب أبدا بالعزل وقد عزل بعض القضاة لأنه كان قليل المجاملة لزمرة الفقهاء الذين كان لهم في بعض العصور تأثير كبير وسلطان عريض داخل القصر، والشواهد على صولة الفقهاء وبالأخص فقهاء المالكية ميثوثة في شتى الجهات من كتاب الخشني ونفخ الطبيب، وقد ساق المقري في كتابه كلا ما لابن حزم هذا نصه: «مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرئاسة والسلطان مذهب أبي حنيفة رحمه الله ومذهب مالك عندنا بالأندلس فإن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه والناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به على أن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم وداعيا إلى قبول رأيهم لديهم. » ولا ريب أن من كان يتمتع بهذا الجاه قادر على أن يرفع من شاء ويضع من شاء، وكان استفحال شأن الفقهاء أظهر ما كان في العصر الذي عاش فيه الحكم الربضي وإن رفع من شأن الفقهاء وعمل على تمكين المذهب المالكي بالأندلس لم يكن يأتمر بأوامر فقهاء المالكية وينزل في كل حين عند رغبتهم، أما ابنه عبد الرحمن فقد كان لا يأبى عليهم شيئا ولا يخيب لهم رجاء، ولدينا نص احتفظ لنا المقري به في نفح الطيب نستطيع بفضله أن نلمس الفرق بين عقيلتي الأب والابن. ونميز موقف كليهما إزاء الفقهاء قال: « لقد أخبرت أن الحكم الربضي أراد تقديم شخص من الفقهاء يختص به للشهادة فأخذ في ذلك مع يحيى بن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء فقالوا له هو أهل ولكنه شديد الفقر ومن يكون في هذا الحال لا نؤمنه على حقوق المسلمين لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره بالدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك فسكت ولم ير منازعتهم وبقي مهموما من كونهم لم يقبلوا قوله فنظر إليه ولده عبد الرحمن الذي ولي الملك بعده لوعلى وجهه أثر ذلك فقال ما بالك يا مولاي، فقال ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوه عند الناس بمكانهم حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط بل ما لا يعنيهم ولا هو مما يرزأهم شيئا صدونا ونحلقوا أبواب الشفاعة وذكر له ما كان منهم فقال يا مولاي أنت أولى الناس بالإنصاف إن هؤلاء ما قدمتم فتضعهم في مواضعهم قال لا قال فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة قال صدقت ثم قال أما كونهم لم يقبلوا هذا الرجل لشدة فقره فالعلة في ذلك تنحسم بما يبقى لك في الصالحات ذكرا قال وما هو قال تعطيه من مالك قدر ما يلحق به من الغنى وما يؤهله لتلك المنزلة ويزيل عنك خجل ردهم وتكون هذه مكرمة ما سبقك إليها أحد فتهلل وجه الحكم وقال الي الي إنها والله شنشنة وإن الذي قال فينا لصادق:

وأبناء أملاك خضارم سادة                صغيرهم عند الأنام كبير  »

فلما آلت مقاليد الأمور إلى عبد الرحمن بن الحكم كان للفقهاء اليد الطولى فيما يأتي وما يدع وعظمت دالتهم بالمملكة حتى كان الأمير يستشيرهم في جميع شؤونه جليلها وحقيرها ويعمل بإشارتهم فقد جمعهم مرة في قصره وكان وقع على جارية يحبها في رمضان وندم أشد ندم فسألهم عن التوبة والكفارة فقال يحيى تكفر بصوم شهرين متتابعين فلما بادر يحيى بهذه الفتيا سكت الفقهاء حتى خرجوا فقال بعضهم لم لم تفت بمذهب مالك بالتخيير فقال لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور ليلا يعود. واخلق بهذا الجواب أن يصدر عن معلم حريص على أن يسلك تلميذه سواء السبيل… ولعل موقف الحكم الربضي من الفقهاء هو الذي حمل كثيرا من المؤرخين على أن يسيئوا إلى سمعته حتى أن بعضهم وصفه بأنه كان مجاهرا بالمعاصي سفاكا للدماء، وقل منهم من وصف جلالة ملكه وأبهة سلطانه ورأفته ورقة قلبه وأغلب المؤرخين يزعمون أن الفقهاء لم يورثوا عليه ولم يثيروا غوغاء الربض وعامة الناس إلا لأنه كان معرضا عن تدبير شؤون المملكة مقبلا على ذاته منهمكا فيها والحقيقة أن الحكم الربضي قضى مدة غير يسيرة من أيامه يوطد أركان المملكة ويمكن سلطان المسلمين بأرض اسبانيا ويحارب الخارجين عليه ويقمع الفتن التي كان الفقهاء يضرمون نارها آونة بعد أخرى لأن الحكم لم يكن خاضعا لسلطانهم ولا هيابا لصولتهم ونفوذهم أما ابنه عبد الرحمن فالمؤرخون مجمعون على أنه كان من أعاظم الملوك مع أن عبد الرحمن سفك الدماء بالحق والباطل وانهمك في اللذات وهام بجاريته طروب حتى كان لا يأنف من تبذير الأموال العريضة ابتغاء مرضاتها وكلف بالمدثرة والشفاء وقلم كلفا بعيدا ولكن عبد الرحمن اهتدى إلى الطريق المؤدية إلى قلوب الفقهاء واستطاع أن يستميلهم ويتصباهم فأحسنوا إلى سمعته وغضوا العيون عن عيوبه.

والغرض من هذا كله أن نفضي إلى نتيجتين: إحداهما أن بعض القضاة كان يعزل لأنه كان يأتي من الأعمال ما يشين خطة القضاء وبعضهم لأنه كان يقف تلك المواقف التي لا يجمل القضاء إلا بها وكثيرا منهم ولا سيما في عصر عبد الرحمن بن الحكم لأنهم كانوا لا يرضون طائفة من الفقهاء ولا يأتمرون بأوامرهم والنتيجة الثانية هي أن قضاة قرطبة لم يكونوا يتمتعون بأي ضمان فكانوا معرضين في كل لحظة لزوال النعمة وغضب الملوك وعلى الرغم من هذا فإن كثيرا منهم كانوا لا تأخذهم في الحق لومة لائم ولا يعرفون هوادة في نصرة العدل والشواهد في كتاب الخشني على ذلك كثيرة.

رسالة المغرب في العلم في الأدب والاجتماع العدد الرابع السنة السادسة  محرم 1367 / دجنبر 1947

انتقاء: ذة. نادية الصغير.

لا نستخلص من كتاب الخشني شيئا كثيرا عن فصول الدعوى وسياق المرافعة غير أنه يفيدنا أن كثيرا من القضاة كانوا لا يجدون في نفوسهم حرجا من استشارة فقهاء الأندلس وعلمائها إذا غاب عنهم وجه الصواب والتبست عليهم سبل الفصل في أمر من الأمور وربما تجاوزوا الأندلس إلى غيرها من الأقطار فكاتبوا جهابذة الفقه في مصر مثلا يلتمسون منهم المعونة على حل ما كان يعرض لهم من المشاكل.

 

ولم يكن قضاة قرطبة يمارسون مهنتهم طول حياتهم بل كثيرا ما كانوا يصرفون عنها ويصابون بالعزل، وكان لهذا العزل أسباب  مختلفة فقد كان يعزل القاضي لصلابة فيه تعترض أغراض الأمير أو الخليفة وتحول بينه وبين ما يريد، استدل الخشني على ذلك بحادثة ذهب فيها أحد القضاة ضحية الشهوة الجامحة وقص علينا قصة لا يخلو إيرادها من فائدة قال:«كان السبب في عزلة محمد بن زياد عن القضاء ما كان من أمر ابن أخي عجب، وذلك أنه شهد عليه بلفظ نطق به متعبثا في يوم غيث فأمر الأمير عبد الرحمن رحمه الله بحبسه فأبرمته (عجب) في إطلاقه وكانت مدلة عليه لمكانها من أبيه فقال لها نكشف أهل العلم عما يجب عليه في لفظه ثم يكون الفصل في أمره فأمر الأمير رحمه الله محمد بن السليم وهو يومئذ وإلى المدينة أن يحضر القاضي محمد بن زياد وفقهاء البلد فجمعهم في مجلس النشمة فحضر حينئذ عبد الملك بن حبيب وأصبغ بن خليل وعبد الأعلى بن وهب وأبو زيد بن ابراهيم وأبان بن عيسى فشاورهم في أمره وأخبرهم بما كان من لفظه فتوقف عن الإشارة يسفك دمه القاضي ابن زياد وأبو زيد وعبد الأعلى وأبان وأشار نفتله عبد الملك بن حبيب وأصبغ بن خليل فأمرهم محمد بن السليم أن ينصوا فتياهم على وجهها في صك ليرفعها إلى الأمير رحمه الله ففعلوا فلما تصفح الأمير قولهم استحسن قول عبد الملك وأصبغ ورأى ما رأيا من قتله وأمر حسان الفتى فخرج عليهم فقال لصاحب المدينة قد فهم الأمير أكرمه الله ما أفتى به القوم في أمر هذا الفاسق وهو يقول للقاضي اذهب فقد عزلناك وأما أنت يعني عبد الأعلى فكان يحيى بن يحيى يشهد عليك بالزندقة ومن كانت هذه حاله فحري ألا تسمع فتياه وأما أنت يا أبان بن عيسى فأنا أردنا أن نوليك القضاء بحيان فزعمت أنك لا تحسن القضاء بأن كنت صادقا فما آن لك أن تتعلم الفتيا وإن كنت كاذبا فالكاذب لا يكون أمينا ثم قال حسان الفتى لصاحب المدينة والأمير أكرمه الله يأمرك أن تخرج الساعة مع هذين الشيخين عبد الملك وأصبغ فأمر لهما بأربعين غلاما من الغلمان ينفذون نظما في هذا الفاسق ما رأيا فخرج عبد الملك وهو يقول : سبب رب عبدناه إن لم ننتصر له إنا لعبيد سوء ثم أخرج المحبوس فوفقا حتى رفع في خشبته وهو يقول لعبد الملك: أبا مروان اتق الله في دمي فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وعبد الملك يقول آلآن وقد عصيت قبل حتى صلب وانصرفا »

 

وقد عزل عبد الرحمن بن الحكم القاضي إبراهيم بن العباس القرشي لأن أحد أعوان القاضي ممن كانت لهم صلة بالأمير اتهمه بأنه يدعى بابن الخلائف وكان من القضاة من عزل لأنه كان لا يأنف من قبول التحف والهدايا وكان منهم من لم  يعزل إلا لكبر سنه وعجزه عن القيام بأعباء الخطة ومنهم من لم يصب أبدا بالعزل وقد عزل بعض القضاة لأنه كان قليل المجاملة لزمرة الفقهاء الذين كان لهم في بعض العصور تأثير كبير وسلطان عريض داخل القصر، والشواهد على صولة الفقهاء وبالأخص فقهاء المالكية ميثوثة في شتى الجهات من كتاب الخشني ونفخ الطبيب، وقد ساق المقري في كتابه كلا ما لابن حزم هذا نصه: «مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرئاسة والسلطان مذهب أبي حنيفة رحمه الله ومذهب مالك عندنا بالأندلس فإن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه والناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به على أن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم وداعيا إلى قبول رأيهم لديهم. » ولا ريب أن من كان يتمتع بهذا الجاه قادر على أن يرفع من شاء ويضع من شاء، وكان استفحال شأن الفقهاء أظهر ما كان في العصر الذي عاش فيه الحكم الربضي وإن رفع من شأن الفقهاء وعمل على تمكين المذهب المالكي بالأندلس لم يكن يأتمر بأوامر فقهاء المالكية وينزل في كل حين عند رغبتهم، أما ابنه عبد الرحمن فقد كان لا يأبى عليهم شيئا ولا يخيب لهم رجاء، ولدينا نص احتفظ لنا المقري به في نفح الطيب نستطيع بفضله أن نلمس الفرق بين عقيلتي الأب والابن. ونميز موقف كليهما إزاء الفقهاء قال: « لقد أخبرت أن الحكم الربضي أراد تقديم شخص من الفقهاء يختص به للشهادة فأخذ في ذلك مع يحيى بن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء فقالوا له هو أهل ولكنه شديد الفقر ومن يكون في هذا الحال لا نؤمنه على حقوق المسلمين لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره بالدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك فسكت ولم ير منازعتهم وبقي مهموما من كونهم لم يقبلوا قوله فنظر إليه ولده عبد الرحمن الذي ولي الملك بعده لوعلى وجهه أثر ذلك فقال ما بالك يا مولاي، فقال ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوه عند الناس بمكانهم حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط بل ما لا يعنيهم ولا هو مما يرزأهم شيئا صدونا ونحلقوا أبواب الشفاعة وذكر له ما كان منهم فقال يا مولاي أنت أولى الناس بالإنصاف إن هؤلاء ما قدمتم فتضعهم في مواضعهم قال لا قال فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة قال صدقت ثم قال أما كونهم لم يقبلوا هذا الرجل لشدة فقره فالعلة في ذلك تنحسم بما يبقى لك في الصالحات ذكرا قال وما هو قال تعطيه من مالك قدر ما يلحق به من الغنى وما يؤهله لتلك المنزلة ويزيل عنك خجل ردهم وتكون هذه مكرمة ما سبقك إليها أحد فتهلل وجه الحكم وقال الي الي إنها والله شنشنة وإن الذي قال فينا لصادق:

وأبناء أملاك خضارم سادة                صغيرهم عند الأنام كبير  »

فلما آلت مقاليد الأمور إلى عبد الرحمن بن الحكم كان للفقهاء اليد الطولى فيما يأتي وما يدع وعظمت دالتهم بالمملكة حتى كان الأمير يستشيرهم في جميع شؤونه جليلها وحقيرها ويعمل بإشارتهم فقد جمعهم مرة في قصره وكان وقع على جارية يحبها في رمضان وندم أشد ندم فسألهم عن التوبة والكفارة فقال يحيى تكفر بصوم شهرين متتابعين فلما بادر يحيى بهذه الفتيا سكت الفقهاء حتى خرجوا فقال بعضهم لم لم تفت بمذهب مالك بالتخيير فقال لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور ليلا يعود. واخلق بهذا الجواب أن يصدر عن معلم حريص على أن يسلك تلميذه سواء السبيل… ولعل موقف الحكم الربضي من الفقهاء هو الذي حمل كثيرا من المؤرخين على أن يسيئوا إلى سمعته حتى أن بعضهم وصفه بأنه كان مجاهرا بالمعاصي سفاكا للدماء، وقل منهم من وصف جلالة ملكه وأبهة سلطانه ورأفته ورقة قلبه وأغلب المؤرخين يزعمون أن الفقهاء لم يورثوا عليه ولم يثيروا غوغاء الربض وعامة الناس إلا لأنه كان معرضا عن تدبير شؤون المملكة مقبلا على ذاته منهمكا فيها والحقيقة أن الحكم الربضي قضى مدة غير يسيرة من أيامه يوطد أركان المملكة ويمكن سلطان المسلمين بأرض اسبانيا ويحارب الخارجين عليه ويقمع الفتن التي كان الفقهاء يضرمون نارها آونة بعد أخرى لأن الحكم لم يكن خاضعا لسلطانهم ولا هيابا لصولتهم ونفوذهم أما ابنه عبد الرحمن فالمؤرخون مجمعون على أنه كان من أعاظم الملوك مع أن عبد الرحمن سفك الدماء بالحق والباطل وانهمك في اللذات وهام بجاريته طروب حتى كان لا يأنف من تبذير الأموال العريضة ابتغاء مرضاتها وكلف بالمدثرة والشفاء وقلم كلفا بعيدا ولكن عبد الرحمن اهتدى إلى الطريق المؤدية إلى قلوب الفقهاء واستطاع أن يستميلهم ويتصباهم فأحسنوا إلى سمعته وغضوا العيون عن عيوبه.

والغرض من هذا كله أن نفضي إلى نتيجتين: إحداهما أن بعض القضاة كان يعزل لأنه كان يأتي من الأعمال ما يشين خطة القضاء وبعضهم لأنه كان يقف تلك المواقف التي لا يجمل القضاء إلا بها وكثيرا منهم ولا سيما في عصر عبد الرحمن بن الحكم لأنهم كانوا لا يرضون طائفة من الفقهاء ولا يأتمرون بأوامرهم والنتيجة الثانية هي أن قضاة قرطبة لم يكونوا يتمتعون بأي ضمان فكانوا معرضين في كل لحظة لزوال النعمة وغضب الملوك وعلى الرغم من هذا فإن كثيرا منهم كانوا لا تأخذهم في الحق لومة لائم ولا يعرفون هوادة في نصرة العدل والشواهد في كتاب الخشني على ذلك كثيرة.

 

محمد اباحنيني

رسالة المغرب في العلم في الأدب والاجتماع العدد الرابع السنة السادسة  محرم 1367 / دجنبر 1947

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق