مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينأعلام

قصة عَدِيّ بن حاتم الطَّائي، رضي الله عنه

وَفَدَ عَدِيٌّ، رضي الله عنه، على النبي، صلى الله عليه وسلم، في وسط سنة سبع، فأكرمه واحترمه.

قِصَّةُ إسلامه:

يروي عَدِيُّ بن حاتم، رضي الله عنه، قصة إسلامه فيقول:

>ما كان رجل من العَرَبِ أشدَّ كراهية لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، منِّي، وكنتُ امرأً شريفاً قد سُدْتُ قومي، فقلت: إن اتبعته كنت دنيّاً([1])، وكنت نصرانيّاً، فقلتُ لغلام لي: أَعِدَّ لي من إِبِلي أجمالاً ذُلُلاً([2]) سِمانا احْبِسْهَا قريباً مني، فإذا سمعتَ بجيش محمد قد وطئ هذه البلاد فآذِنِّي فإني أرى خيله قد وطئتْ بلاد العرب كلَّها.

فلمَّا كان ذات غداة جاءني غلامي فقال:

ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فأصنعه، فإني قد رأيتُ رايات فسألتُ عنها، فقيل: هذه جيوش محمد.

قلت: قَرِّب لي أجمالي، فقرَّبها فاحتملتُ بأهلي وولدي، ثم قلتُ: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، وَخَلَّفْتُ ابنة حاتم([3]) بالحاضر([4]).

وتخالفتني خيلُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم، فأصابوا نساءً وأطفالاً وشاءً وابنة حاتم، فقدم بها على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وقد بلغ النَّبِيَّ، صلى الله عليه وسلم، هربي، فَجُعِلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد- كانت النساء يُحْبَسْنَ فيها- فمرَّ بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقامت إليه، وكانت امرأة جميلة جَزْلة..

فقالت: يا رسول الله، مات الوالد وغاب الوافد، فامنن عليَّ مَنَّ الله عليك.

قال: “ومَنْ وَافِدُكِ؟”.

قالت: عَدِيُّ بن حاتم.

قال: “الفارُّ من الله ورسوله؟”.

قالت: ثم مضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتركني حتى إذا كان من الغد مَرَّ بي، فقلتُ مثل ذلك وقال مثل ذلك، حتى إذا كان بعد غد مَرَّ بي وقد يئستُ فلم أَقُلْ شيئاً، فأشار إليَّ رجلٌ خَلْفَهُ أن قُومِي فكلميه، فقمتُ فقلتُ: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد فامنن عليَّ مَنَّ الله عليك.

قال: >فإنِّي قد فعلتُ فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذِنِينِي<.

قالت: فسألتُ عن الرجل الذي أشار إليَّ أن أُكلِّمه، فقيل: هو علي بن أبي طالب، فأقمتُ حتَّى قدم ركب من قضاعة.

قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلت:

قد جاء من قومي من لي ثقة وبلاغ، فكساني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحملني([5]) وأعطاني نفقة، وخرجتُ معهم حتى قدمتُ الشام:

قال عَدِي: فوالله إني لقاعد في أهلي إذ نظرتُ إلى ظَعينة([6]) تصُوب إليَّ تؤمنا([7])، قلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي، فلمَّا قَدِمتْ عليَّ انْسَحَلَتْ([8]) تقول:

“القاطع الظالم، احتملتَ أهلك وولدك، وتركتَ بقية والدك !”.

قلتُ: يا أُخَيَّة لا تقولي إلا خيراً، فقلت: والله ما لي من عذر قد صنعت ما ذكرت، ثم نَزَلَتْ فأقامت عندي.

فقلت: ما تَرَيْن في أمر هذا الرجل، وكانت حازمة، فقالت:

أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبيّاً فالسبق إليه أفضل، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عزّ اليمن، وأنتَ أنتَ، وأبوك أبوك، مع أني قد نبئتُ أن علية أصحابه قومك الأوس والخزرج.

فخرجتُ حتى أقدمَ على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدخلتُ وهو في مسجده، فسلمتُ عليه.

فقال: “من الرجل؟”.

فقلتُ: عَدِيُّ بن حاتم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إلى بيته إذ لَقِيَتْهُ امرأةٌ ضعيفة كبيرة فَاسْتَوْقَفَتْهُ فوقف لها طويلاً تكلِّمه في حاجتها، فقلت في نفسي: واللهِ ما هذا بِمَلِك، إن للملك حالاً غير هذا.

ثم مضى حتَّى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم مَحْشُوة ليفاً، فقدَّمها إليَّ فقال:

>اجلس على هذه<.

فقلت: لا بل أنت. فجلس عليها فرأى في عنقي وثناً من ذهب، فتلا هذه الآية: (اتَّخذُوا أحبارهم ورُهْبانهم أرْباباً مِنْ دُونِ الله) ([9]).

فقلت: واللهِ ما كانوا يعبدونهم.

فقال: “أليس كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئاً استحلُّوه وإذا حَرَّمُوا شيئاً حرَّمُوه؟”.

قلت: بلى.

قال: “فتلك عبادتهم”.

وقال: “إيه يا عَدِيّ، ألم تكن تسير في قومك بالمِرْبَاع في مالٍ فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك !”.

قلتُ: أجل واللهِ. فعرفتُ أنه نبيٌّ مرسل.

ثم قال: >لَعَلَّكَ يا عَدِيّ إنما يمنعك من الدخول في هذا الدِّين ما ترى من حاجتهم، فواللهِ لَيُوشِكَنَّ هذا المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك ما ترى من كثرة عدوِّهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكنَّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعير حتى تزور هذا البيت، لا تخاف، ولعلَّك إنما يمنعك من الدخول أن المُلْكَ والسلطان في غيرهم، وَايْمُ اللهِ ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتِحَتْ عليهم<.

قال عَدِي: فأسْلمتُ.

وكان عديّ يقول: قد مضت اثنتان وبقيَتْ واحدة: فيض المال.

وفي رواية: فلقد رأيتُ اثنتين، وَأَحْلِفُ بالله لتجيئَنَّ الثالثة: يعني فَيْضُ المال([10]).

قلت: وفاض المال في عهد >عمر بن عبد العزيز< والحمد لله رب العالمين.

ولمَّا أسلم عَدِيّ، رضي الله عنه، رجع إلى بلاد قومه.. فلمَّا قُبِضَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وارتدَّت العرب ثبت عَدِيٌّ وقومه على الإسلام، وجاء بصدقاتهم إلى أبي بكر، وحضر فتح المدائن، وشهد مع علي >الجَمَل< و>صِفِّين< و>النَّهْروان<.

جوده وكرمه:

ضرب عَدِيّ بن حاتم، رضي الله عنه، مثلاً رائعاً في الجود والكرم.. حتَّى طال جُوده دوابَّ الأرض !!.

يقول ابن الجوزي، رحمه الله تعالى، عنه:

“وكان جواداً يفتُّ للنَّمل الخبز ويقول: إنَّهُنَّ جارات !!”.

وأرسل الأشعث بن قيس إلى عَدِيّ يستعير منه قدُور >حاتم<([11])، فَأَمَرَ بها عَدِي فملئت وحملها الرِّجال إلى الأشْعث، فأرسل الأشعث: إنما أردناها فارغة، فأرسل إليه:

>إنا لا نُعِيرُهَا فارغة !<.

مكانته، رضي الله عنهُ:

أتى عَدِي بن حاتم عُمر بن الخطَّاب في أناس من طيء فجعل عمر يفرض لرجال من طيء في أَلْفَيْن أَلْفَيْن.

يقول عَدِي: فاستقبلته فأعرض عنِّي !! فقلت: يا أمير المؤمنين، أَمَا تعرفني؟

قال: نعم إني واللهِ أعرفك، أسلمتَ إذ كفروا، وأقبلتَ إذ أدبروا، ووفَّيْتَ إذ غَدَرُوا، وإن أول صدقة بيَّضت وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووجوه أصحابه صدقة طيء، جئتَ بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وهكذا يهذِّب الإسلام النَّفْسَ البشرية.. ويُصَفِّيها من الأدْرَان التي عَلِقَتْ بفطرتها.. وَيَصْقَلُها بنوره.. فَإِذَا بالخير يتفجَّر من جوانبها.. والنُّورِ يغشاها من كل مكان.. فينطلق اللسان بالذكر واليدُ بالعطاء.. وينكسر الإنسان لله الواحد القهار.. فتذوب الفوارق.. وتتلاشى العنجهية الجاهلية والكبرياء الكَذُوب..

وتظهر الصورة الآدمية الحقيقية.. التي تحمل فطرة الله المركوزة في نفس الإنسان.. فَتَفِيضُ بالخير وتشع النور.

هذا درسٌ عظيمٌ لِبَنِي الإنسان (فهل من مُدَّكر)([12])؟.

وفي سنة ثمان وستين.. فاضت روحه إلى خالقها.. وانتقل عَدِيّ بن حاتم إلى الآخرة، رضي الله عنه وأرضاه([13]).

الدروس والعبر المستخلصة من القصة:

  • إذا جاء أَمْرُ الخالق بَطَلَ تدبير الخَلْق.
  • الإسلام خيرٌ عميم، والرسول، صلى الله عليه وسلم، أرسله الله رحمة للعالمين.
  • سرعة انتشار الدعوة الإسلامية كانت أشبه بانتشار سرعة الشمس على الأكوان كلِّها.
  • كلمات الاستعطاف، مثل: >مات الوالد، وغاب الوافد<، >فَامْنُنْ عليَّ، منَّ الله عليك< تُؤَثِّرُ في مواقف خير الكرام، وَتَسْتَدِرُّ العطف والرَّحمات.
  • وَعْدُ الكرام مُحقَّقُ الإنجاز، والتَّنفيذ.
  • إكرام الأسير مَنْقبة عُظمى، وتشريع حكيم، واعتراف أصيل بحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية.
  • حرارة الظُّلْمِ تَدْفَعُ صاحبها إلى عدم امتلاك لسانه عن ظالمه.
  • قَبُولُ الأعذار من شِيَمِ الأخيار.
  • مَنْ دَلَّكَ على الخير، فقد أرشدك ونصحك، وأحسن إليك، وشاركته في فرحة الوصول إلى الخير على يديه.
  • إكْرام الضيف مظهر عظيمٌ من أخلاق الفضلاء التي جاءت بها الأنبياء والمرسلون.
  • مَنْ أحلَّ ما حرَّم الله، أو حرَّم ما أحلَّ الله، فقد خالف أمْر السماء الذي جاء به جميع الأنبياء.
  • قد ظهر جليّاً للعيان ما أخبر به الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتحقَّق ذلك لكل معترف مُنصف.
  • إنَّ العناية الإلهية، إذا أَدْرَكَتْ شخصاً، أصبح من السعداء دُنيا وأُخرى، وتمَّت له الفرحة الكبرى، بفضل الله وبرحمته، وذلك مصداق قوله عزَّ وجل: (قُل بفضل الله وبرحمته فبذلك فَلْيَفْرَحُوا هو خيرٌ ممَّا يَجمعُون)([14]).

                                                                                                                                                    والحمد لله رب العالمين

———————————————————————————————-

([1]) دنيا: أي وضيعاً.

([2]) ذُللا: جمع ذلول؛ وهو الجمل السَّهل الذي قد رُوِّضَ.

([3]) ابنة حاتم: هي سفانة؛ كما ترجمها السُّهيلي.

([4]) الحاضر: الحي حيث تسكن.

([5]) أي: أعطاها ناقة تركبها.

([6]) الظَّعينة: المرأة في هَوْدَجِهَا.. أو في غير هودجها.

([7]) تقصد وتؤم.

([8]) انْسَحَلَتْ: أَخَذَتْ في اللَّوْمِ وَمَضَتْ فيه مُجِدَّة.

([9]) سورة: التوبة، آية: 31.

([10]) رواه أحمد في مسنده، بقية حديث عَدِيّ بن حاتم، رقم: (19378) من طريق محمد بن أبي عَدِيّ، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أبي عُبيدة بن حُذيفة، عن عَديّ: 32/ 119، وابن حبان في صحيحه، باب إخباره، صلى الله عليه وسلم، عما يكون في أمته من الفتن والحوادث، ذِكْرُ الإخبار عن فتح الله، جلَّ وعلا، على المسلمين كثرة الأموال، رقم: (6679)، وقال فيه شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي: 15/ 71، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، رقم: (252) 17/104، وذكره ابن الأثير في: أسد الغابة، من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، به: 3/ 506.

([11]) حاتم: هو والد عَدِيّ.

([12]) سورة: القمر، من آية: 22.

([13]) القصة من كتاب: صور ومواقف من حياة الصحابة؛ لسعد يوسف أبو عزيز، بتصرف، ص: 326- 331.

([14]) سورة: يونس، آية: 58.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق