مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينأعلام

قصة عمرو بن العاص، رضي الله عنه.

“أَسْلَمَ عَمْرُو بن العاص([1]) بعد تفكير طويل وتدبُّر كبير، وقد قال عنه الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم: “أَسْلَمَ الناس، وآمن عَمْرُو بن العاص”([2]).

“اللَّهُمَّ أَمَرْتَنَا فَعَصَيْنَا…وَنَهَيْتَنَا فما انْتَهَيْنَا…ولا يَسَعُنَا إلاَّ عَفْوُكَ يا أرحم الرَّاحمين”.

بهذا الدُّعاء الضَّارع الرَّاجي ودَّع عمرو بن العاص الحياة، واستقبل الموت.

وقصة حياة عمرو بن العاص غنيَّةٌ حافلة…كَسَبَ خِلاَلَهَا للإسلام قُطْرَيْن كبيرين من أقطار المعمورة هما: “فلسطين” و”مصر”…

وَتَرَكَ للمسلمين سيرة ضخمة مَلَأَت الدُّنيا، وَشَغَلَتِ الناس دَهْراً طويلاً.

تبدأُ هذه القصة قبل الهجرة بنحو نصف قرن من الزَّمان، حيث وُلِدَ عَمْرو…وتنتهي في سنة ثلاث وأربعين بعد الهجرة حيث وافاهُ اليقين([3]).

أمَّا أبوه فهو “العاصُ بن وائل” أحدُ حُكَّام العرب في الجاهلية، وسيِّدٌ من ساداتهم المرمُوقين…وواحدٌ من الذين يرتفع نسبهم إلى الذُّؤَابَةِ([4]) من قريش…

وَأَمَّا أُمُّه فَلَمْ تكن كذلك، وإنما كانت سَبِيَّةً.

لذا كان حُسَّادُهُ يُلاَحِقُونَهُ بذِكْرها وهو جالسٌ على كُرْسِيِّ الإمارة، أو مُرْتَقٍ فوق منابر الخَطَابَة.

حتى إِنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ أَغْرَى رَجُلاً على أَنْ يَقُومَ إليه، وهو مُرْتَقٍ على المِنْبَرِ، وأن يَسْأَلَهُ عن أُمِّهِ، وذلك لِقَاءَ مَبْلَغٍ جَزْلٍ([5]) مِنَ المال أَغْدَقَهُ عليه.

فقام الرَّجل وقال: مَنْ أُمُّ الأمير؟.

فَضَغَطَ عَمْرٌو على نَفْسِهِ، وَتَذَرَّعَ بِحِلْمِه([6])، ثُمَّ قال: هي النَّابغة بنت عبد الله…أَصَابَتْهَا رِمَاحُ العَرَبِ في الجاهلية، فَبِيعَتْ بسوق “عُكَاظ”…فاشتراها عبد الله بن جَدْعَان…ثم وَهَبَهَا لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ ]يعني أباه[.

فَوَلَدَتْ له فَأَنْجَبَتْ…

فإن كان بعضُ مَنْ مَزَّقَ الحَسدُ قَلْبَهُ قد جَعَلَ لَكَ شيئاً مِنَ المال فَخُذْهُ.

وحين أَخَذَ المُعَذَّبُونَ مِنَ المسلمين يُهاجرون إلى “الحَبَشة” للتَّخَلُّصِ مِنْ بَطْشِ قُرَيْشٍ وَنَكَالِهَا([7])، وَيَسْتَقِرُّونَ في رِحَابِهَا فِرَاراً مِنْ بَنِي قَوْمِهِمْ عَزَمَتْ قريشٌ على استعادتهم إلى مكة، وَإِذَاقَتِهِم ألواناً من العذاب، وقد اختارت عَمْراً بن العاص للقيام بهذه المهمة؛ لِمَا كان بينه وبين “النَّجَاشِيِّ” مِنْ أَوَاصِرِ وُدٍّ قَدِيمٍ.

وَزَوَّدَتْهُ بما كان يُؤْثِرُهُ “النَّجَاشِيُّ” وبَطَارِقَتُهُ مِنَ الهدايا.

فلمَّا وَفَدَ على “النَّجَاشِيِّ” حَيَّاهُ وَبَيَّاهُ([8])، وقال له: إنَّ نَفَراً مِنْ قَوْمِنَا قد كفروا بدِين آبائهم وأجدادهم، واسْتَحْدَثُوا لأنفسهم دِيناً جديداً…وقد أَرْسَلَتْنِي قُريشٌ لاِسْتِئْذَانِكَ باسْتِعَادَتِهمْ إلى قَوْمِهِمْ؛ لِيَرُدُّوهُمْ إِلَى دِينِهِمْ، ويُعِيدُوهُمْ إلى مِلَّتِهِمْ.

فَاسْتَدْعَى “النَّجَاشِيُّ” نَفَراً مِنَ الصَّحابة، سَأَلَهُمْ عَنْ دِينِهِمُ الذي يَدِينُونَ، وَإِلَهِهِمُ الذي به يُؤمنُون، ونبيِّهم الذي جاءهم بهذا الدِّين.

فسَمع مِنْ كَلَامِهِمْ ما مَلَأَ قَلْبَهُ يقيناً وَاطْمِئْنَاناً، وَوَعَى مِنْ عَقِيدَتِهِم ما أَفْعَمَ فُؤَادَهُ تَعَلُّقاً بهم، وإيماناً بِدِينِهِمْ.

فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَهُمْ إلى عَمْرِو بن العاص أَشَدَّ الإِبَاءِ، وأعاد له ما أَتْحَفَهُ به من الهدايا.

ولمَّا عَزَمَ عَمْرُو بن العاص على الرَّحيل إلى مكة قال له “النَّجَاشِي”: كَيْفَ يَعْزُبُ([9]) عَنْكَ أَمْرُ “مُحَمَّدٍ” يا عَمْرُو عَلَى ما أَعْرِفُهُ مِنْ رَجَاحَةِ عَقْلِكَ وَبُعْدِ نَظَرِك؟!…

فوالله إنه لرسول الله إليكم خاصة، وإلى النَّاس كافَّة.

فقال له عَمْرٌو: أَأَنْتَ تقول ذلك أيُّها المَلِكُ؟!.

فقال “النَّجَاشِي”: إِي واللهِ…فَأَطِعْنِي يا عَمْرو، وَآمِنْ بِمُحَمَّدٍ وما جاءكم به من الحقِّ.

وَدَّعَ عَمْرُو بن العاص “الحَبَشَةَ”، ومضى على وَجْهِهِ لا يَدْرِي ما يَفْعَل. فَقَدْ أَخَذَتْ كلمات “النَّجَاشِي” تَهُزُّ فُؤَادَهُ هَزّاً…

وَظَلَّ حَدِيثُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ وما جاء به مِنَ الحق يَدْفَعُهُ إلى لقائه دَفْعاً.

لكنَّه لَمْ يُكْتَبْ له ذلك إلاَّ في السَّنَةِ الثَّامنة للهجرة.

حيثُ شَرَحَ الله صدره للدِّين الجديد؛ فمضى يَحُثُّ الخُطَا نَحْوَ المدينة المنوَّرة لِلِقَاءِ الرَّسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وإعلان إسلامه بَيْنَ يَدَيْه.

وفيما هو في بعض طريقه الْتَقَى بخالد بن الوليد، وعثمان بن طَلْحَةَ وهما يَمْضِيَانِ إلى حيثُ يَمْضِي، وَيَقْصِدَانِ ما يَقْصِد.

فانْضَمَّ إليهما وَمَضَى معهما…

فلمَّا قَدِمُوا على النبي، صلوات الله وسلامه عليه؛ بايعه كُلٌّ من خالد بن الوليد، وعثمان بن طَلْحَةَ،

ثُمَّ بَسَطَ الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، يَدَهُ لِعَمْرٍو؛ فَقَبَضَ عَمْرٌو يَدَهُ عَنِ النبي، صلى الله عليه وسلم…

فقال له الرَّسول، عليه الصلاة والسلام: (ما لَكَ يا عَمْرو)؟!.

فقال: أُبايِعُكَ على أَنْ يُغْفَرَ لي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي.

فقال النبي، عليه الصلاة والسلام: (إنَّ الإسلام والهجرة يَجُبَّان([10]) ما قَبْلَهُمَا)…فبايعه عند ذلك.

لكنَّ هذه الحادثة تَرَكَتْ أَثَرَهَا في نَفْسِ عَمْرو بن العاص؛ فكان يقول: واللهِ ما مَلأْتُ عَيْنَيَّ مِنَ الرَّسُول، عليه الصلاة والسلام، ولا تَمَلَّيْتُ مِنَ النَّظَرِ إلى وجهه حتَّى لَحِقَ بِرَبِّه.

وقد نَظَرَ الرَّسول إلى عَمْرو بن العاص بِنُور النُّبُوَّةِ، وَعَرَفَ ما يَتَمَتَّعُ به من طاقاتٍ فَذَّةٍ، فَأَمَّرَهُ على جيش المسلمين في غزوة “ذات السَّلاسل” على الرَّغْمِ مِمَّنْ كان في الجيش من المهاجرين والأنصار وأصحاب السَّابقة إلى الإسلام.

ولمَّا اسْتَأْثَرَ الله بنبيِّه، صلى الله عليه وسلم، وَآلَتِ الخِلاَفَةُ إلى الصِّدِّيق، رضوان الله عليه أَبْلَى عَمْرو بن العاص في حروب الرِّدَّةِ أعظم البلاء…

وَبَادَرَ الفتنة بِحَزْمٍ يُذَكِّرُ بِحَزْمِ الصِّدِّيق، رضي الله عنهما…

فقد نَزَلَ عَمْرُو بن العاص بِبَنِي “عَامِرٍ”، فَإِذَا بزعيمهم “قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ” يَهُمُّ بالرِّدَّةِ، ويقول له:

يا عمرو، إنَّ العرب لا تَطِيبُ لهم نَفْسٌ بهذه الإِتَاوَةِ التي فَرَضْتُمُوهَا على الناس ]يعني بها الزَّكاة[.

فإنْ أَعْفَيْتُمُوهَا مِنْ ذلك سَمِعَتْ لكم وأطاعتْ…

وإن أَبَيْتُمْ فلا تجتمعُ عليكم بعد اليوم…

فصاح عَمْرٌو بِزَعِيم بني “عامر”، وقال:

وَيْحَكَ([11])!! أَكَفَرْتَ يا “قُرَّة” ؟!…وهل تُخَوِّفُنَا بِرِدَّةِ العرب؟!…

فوالله لَأُوَطِّئَنَّ عليك الخيل في خِبَاءِ أُمِّكَ.

وَلَمَّا لَبَّى الصِّدِّيق نداء رَبِّهِ، وأسْلَمَ الزِّمَامَ([12]) إلى يَدِ الفاروق- خَيْرِ يَدٍ تُلْقَى إليها الأَزِمَّةُ- اسْتَعَان الفاروق بِقُدُرَاتِ عَمْرو بن العاص وَخِبْرَاتِه، ووضَعها في خدمة الإسلام والمسلمين…

ففتَح الله على يديْه سواحل “فلسطين” بَلَداً بعْد بلد…

وَهَزَمَ جيوش الرُّوم جيشاً بعد جيش، ثم اتَّجه إلى حصار “بيْت المَقْدِس”.

وقد شَدَّدَ عَمْرٌو الحِصَارَ على أُولَى القِبْلَتَيْنِ وثَالثِ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ حتى زَرَعَ اليأسَ في نفْسِ “أَرْيَطُون” قائد جيش “الرُّوم”.

وَحَمَلَهُ على التَّخَلِّي عن المدينة المُقَدَّسَةِ، واللِّوَاذِ([13]) بِالفِرَارِ فاسْتَسْلَمَتِ “القُدْسُ” للمسلمين.

عند ذلك رَغِبَ بِطْرِيقُهَا([14]) أَنْ يَتِمَّ التَّسْليم بحضور الخليفة نفسه.

فكتب عَمْرٌو بن العاص للفاروق رضوان الله عليه؛ يَسْتَدْعِيه لاِسْتِلاَمِ “بيت المقدس”…فَحَضَرَ وَوَقَّعَ وثيقة([15]) الاسْتِلَام.

وَآلَتِ “القُدْسُ” إلى المُسْلِمين في السَّنَةِ الخامسةَ عَشْرَةَ للهجرة على يَدَيْ عمرو بن العاص، رضي الله عنه.

وكان الفاروق إذا ذُكِرَ أمامه حِصَارُ “بيت المَقْدِس”، وما أَبْدَى فيه عمرو بن العاص مِنْ براعةٍ يقول:

لقد رَمَيْنَا “أَرْيَطُونَ” الرُّومِ “بِأَرْيَطُونِ” العرب.

ثُمَّ تَوَّجَ عمرو بن العاص انتصاراته الكبرى بِفَتْحِ “مصر”، وَضَمِّ هذه الدُّرَّةِ الثَّمينة إلى عِقْدِ الإسلام.

وبذلك فَتَحَ أمام جيوش المسلمين أبواب إفريقية، وبلاد “المَغْرِبِ”، ثم “إِسْبَانْيَا” بعد ذلك.

وقد تَمَّ لهم هذا كُلُّه في نحو نصف قَرْنٍ من الزَّمان.

وليست هذه هي كُلُّ مزايا عَمْرِو بن العاص، رضي الله عنه، وإنَّما كان عَمْرٌو أَحَدَ دُهَاةِ([16]) العَرَبِ المَعْدُودِينَ، وَوَاحِداً من عَبَاقِرَتِهِمِ الأَفْذَاذِ النَّادِرِين.

ولعلَّ مِنْ أَطْرَفِ صُوَرِ دَهَائِهِ وذكائه ما سَلَكَهُ في فتح “مصر”؛ فَقَدْ ظلَّ يُغْرِي الفاروق، رضوان الله عليه، بِفَتْحِهَا حَتَّى أَذِنَ له…

وَعَقَدَ له على أربعة آلافٍ من جُنْدِ المسلمين.

فمضى عمرو بِجُنْدِهِ لا يَلْوِي على شَيء([17])؛ لكنه لَمْ يَمْضِ على رحيله إلاَّ قليلٌ حتَّى دَخَلَ عُثْمَان بن عفان على عُمَرَ وقال له:

يا أمير المؤمنين إنَّ عَمْراً لَمِقْدَامٌ([18]) جَرِيءٌ…وإِنَّ فيه حُبّاً للإمارة…فأخشى أن يكون قد خَرَجَ إلى “مصر” في غير عُدَّةٍ ولا عَدَدٍ، فَيُعَرِّضُ المسلمين لِلْهَلَكَةِ.

فَنَدِمَ الفاروق على إِذْنِه لِعَمْرٍو بِفَتْحِ “مصر”، وَبَعَثَ خَلْفَهُ رسولاً يَحْمِلُ إليه كتاباً منه بهذا الشَّأْن.

أَدْرَكَ الرَّسُولُ جَيْشَ المسلمين في “رَفَحَ” من أرض “فلسطين”؛ فَلَمَّا عَلِمَ عَمْرٌو بقدوم الرَّسول مِنْ عند الفاروق، وأنه يَحْمِلُ إليه كتاباً منه، تَوَجَّسَ([19]) خِيفَةً مِنَ الكِتَابِ الذي معه.

فما زال يَتَشَاغَلُ عن اسْتِقْبَالِهِ وَيُغِذُّ([20]) السَّيْرَ حتى بَلَغَ قَرْيَةً مِنْ عَرِيشِ “مصر”…

عند ذلك اسْتَقْبَلَهُ وأخذ الكِتَابَ الذي جاء به وَفَضَّهُ؛ فإذا فيه:

“إِنْ أَدْرَكَكَ كِتابي هذا قَبْلَ أن تَدْخُلَ أرض “مصر” فارجع إلى مَوْضِعِكَ…

وَإِنْ كُنْتَ دَخَلْتَ أَرْضَهَا فَامْضِ لِوَجْهِكَ”.

فدعا بالمسلمين وقرأ عليهم كِتَابَ الفاروق، وقال: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّنَا في أرض “مِصْر”؟.

فقالوا: بلى.

فقال: فَلْنَمْضِ على بَرَكَةِ الله وتوفيقه.

وكان أن فَتَحَ الله على يَدَيْهِ “مصر”.

ومِنْ طرائف ذكائه ودهائه أيضاً، أنه حينَ كان يُحَاصِرُ أَحَدَ حُصُونِ “مصر” المُمَنَّعَةِ([21])، بَعَثَ بِطْرِيقُ الرُّومِ يَطْلُبُ مِنْ قائد جيش المسلمين أَنْ يَبْعَثَ إليه بِرَجُلٍ مِنْ عِنْدِهِ؛ لِيُنَاظِرَهُ، وَيُفَاوِضَهُ.

فَنَدَبَ بَعْضُ المسلمين أَنْفُسَهُمْ لذلك.

لَكِنَّ عَمْراً قال: إنِّي سَأَكُونُ رَسُولَ قَوْمِي إليه.

ثُمَّ مَضَى إلى البِطْرِيق، وَدَخَلَ عليه الحِصْنَ على أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ لَدُنْ([22]) قائد المسلمين.

الْتَقَى بِطْرِيقُ الرُّوم بِعَمْرٍو وهو لا يَعْرِفُهُ…

ودار بينهما حوارٌ نَمَّ عَنْ([23]) عَبْقَرِيَّةِ عَمْرٍو وَحِنْكَتِهِ([24])، وذكائه فَعَزَمَ بِطْرِيقُ الرُّومِ على الغَدْرِ به، وَزَوَّدَهُ بِعَطِيَّةٍ سَنِيَّةٍ([25])، وَأَمَرَ حُرَّاسَ الحِصْنِ بأنْ يَقْتُلُوهُ قَبْلَ مُغادرته الخَنْدَق.

لَكِنَّ عَمْراً رأى في عُيُونِ الحُرَّاسِ ما أثار رِيبَتَهُ؛ فَعَادَ أَدْرَاجَهُ وقال لِلْبِطْرِيقِ:

إِنَّ الهِبَةَ التي وَهَبْتَنِيهَا- أَيُّهَا السَّيِّدُ- لا تكفي أبناء عَمِّي جميعاً، فَهَلاَّ أَذِنْتَ لِي بأنْ آتِيكَ بِعَشَرَةٍ منهم لِيَنَالُوا مِنْ كريم عَطَائِكَ ما نِلْتُ؟.

فَسُرَّ البِطْرِيقُ بذلك، وَمَنَّى نَفْسَهُ بِقَتْلِ عَشَرَةٍ منهم بدلاً من واحدٍ…

فأشار إلى حُرَّاسِ الحِصْنِ بأنْ يُخَلُّوا سَبِيلَهُ.

وَكُتِبَتْ لِعَمْرِو بن العاص النَّجاة.

ولمَّا فُتِحَتْ “مصر”، وتمَّ اسْتِسْلَامُهَا للمسلمين الْتَقَى بِطْرِيقُ الرُّوم بِعَمْرِو بن العاص؛ فقال له في دَهْشَةٍ: أهذا أنت؟

فقال: نعم…على ما كان مِنْ غَدْرِكَ.

وكان عَمْرُو بن العاص إلى ذلك مِنْ أَحْسَنِ النَّاس بَيَاناً، وَأَفْصَحِهِمْ لساناً…حتى إنَّ الفاروق، رضوان الله عليه، كان يرى في فصاحته آيةً على قُدْرَةِ الله سبحانه.

فكان إذا رأى رَجُلاً يَتَلَجْلَجُ قال: آمَنْتُ بالله…إِنَّ خَالِقَ هذا وَخَالِقَ عَمْرو بن العاص واحدٌ.

وَمِنْ بَلِيغِ كلام عمرو بن العاص قولُه: الرِّجَالُ ثلاثةٌ:

رَجُلٌ تامٌّ، ونصف رَجُلٍ، ولا شيء.

أَمَّا الرَّجُلُ التَّامُّ، فهو الذي كَمُلَ دِينُهُ وَعَقْلُهُ…فإذا أراد أَنْ يَقْضِيَ أَمْراً اسْتَشَارَ أَهْلَ الرَّأْيِ؛ فلا يزال مُوَفَّقاً.

وأمَّا نِصْفُ الرَّجُل، فهو الذي يُكَمِّلُ الله له دِينَهُ وعقله…فإذا أراد أن يَقْضِيَ أَمْراً لَمْ يَسْتَشِر فيه أحداً، وقال: أَيُّ الناس أَتْبَعُهُ وأَتْرُكُ رَأْيِي لِرَأْيِهِ؟ فَيُصِيبُ وَيُخْطِئُ.

وأمَّا الذي لا شيء، فهو مَنْ لا دِينَ له ولا عَقْلَ؛ فلا يزال مُخْطِئاً مُدْبِراً…والله إنِّي لأَسْتَشِيرُ في الأَمْرِ حَتَّى خَدَمِي.

ولمَّا مَرِضَ عَمْرُو بن العاص مَرَضَ الموت وأَحَسَّ بِدُنُوِّ الأَجَلِ([26]) غَلَبَتْهُ العَبْرَةُ([27])، وقال لابنه:

كُنْتُ على ثلاثِ حالاتٍ عَرَفْتُ نفسي فيها…كُنْتُ أَوَّلَ شَيْءٍ كافراً؛ فَلَوْ مِتُّ حينئذٍ لَوَجَبَتْ لِيَ النَّارُ…

فلمَّا بايَعْتُ الرسول ، عليه الصلاة والسلام؛ كُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً مِنْهُ حَتَّى إِنِّي ما مَلَأْتُ عَيْنَيَّ منه قَطُّ؛ فَلَوْ مِتُّ حينئذٍ لقال الناسُ: هَنِيئاً لِعَمْرٍو أَسْلَمَ على خَيْرٍ، ومات على خَيْرٍ…

ثُمَّ تَلَبَّسْتُ بَعْدَ ذلك بأشياءَ؛ فلا أَدْرِي أَعَلَيَّ أَمْ لِي؟.

ثُمَّ أَدَارَ وَجْهَهُ إلى الجِدَارِ وهو يقول:

اللَّهُمَّ أَمَرْتَنَا فَعَصَيْنَا…وَنَهَيْتَنَا فما انْتَهَيْنَا…وَلاَ يَسَعُنَا إلاَّ عَفْوُكَ يا أرحم الرَّاحمين.

ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ في موضع الغُلِّ مِنْ عُنُقِهِ، وَرَفَعَ طَرْفَهُ إلى السَّمَاءِ وقال: اللَّهُمَّ لا قَوِيٌّ فَأَنْتَصِرُ…ولا بَرِيءٌ فأعْتَذِرُ…وما أنا بِمُسْتَكْبِرٍ…وإنَّما مُسْتَغْفِرٌ…فَاغْفِرْ لي يا غفَّارُ.

وَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حتَّى فَاضَتْ رُوحُه([28]).

الدروس والعبر المستخلصة من القصة:

  • إذا طَلَبْتَ شيئاً من صاحب العقل والمروءة، فَدَعْهُ يُفَكِّر، فإنه لا يُفَكِّرُ إِلاَّ في خير.
  • حياة عظماء الأُمَّةِ تَكُونُ غَنِيَّة بِالمَفَاخِرِ وَالمُنْجَزَاتِ الكبرى التي يُخَلَّدُون بِذِكْرِهَا.
  • الفوز المُبين لِمَنْ ظَفِرَ بِالْعِزِّ في الجاهلية، وَالْعِزِّ في الإسلام، لقوله، صلى الله عليه وسلم: “خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلاَمِ”([29]).
  • التَّعْيِيرُ بالألقاب، وَالصِّفَاتِ، عادةٌ جاهليةٌ يَمْقُتُهَا الإسلام، قال تعالى: (وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاَلْقَابِ بِيسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الِايمَان)([30])، وقال، صلى الله عليه وسلم: “يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّه؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ…”([31]).
  • الحِلْمُ عن المُسِيء مِنْ أَعْظَمِ أخلاق الإسلام؛ لقوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)([32])، وقوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ)([33])، وقوله: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)([34]).
  • الحِوَارُ المُنْصِفُ البنَّاءُ يُؤَدِّي إلى النتائج المُثْمِرَة، وَكَمْ في قصة عمرو بن العاص مِنْ نماذج ذلك!.
  • تَجِبُ مَحَبَّةُ الناس لِمَنْ عَرَّفَهُمْ بالحق، ودعاهم إلى قبوله بالتي هي أحسن. قال الله، عز وجل، لِنَبِيِّهِ الكريم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)([35]).
  • الرُّفْقَةُ الصَّالِحَةُ، مُوَفَّقَةُ الخُطوات، مَحْفُوفَةٌ بِالْبَرَكَاتِ. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا  الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)([36])، وقال في النَّهْيِ عن الاقتراب من ضِدِّها: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)([37]).
  • العارفون بالله أهل الخوف والخشية من الله، عز وجل، تَشْغَلُهُمْ ذُنُوبُهُمْ، وَيُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عليها، قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبُوا (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنَ اَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)([38]).
  • مِنْ أسباب القيادة الناجحة لِعَمْرو بن العاص، رضي الله عنه: قُوَّةُ الشخصية، وَدَهَاءُ المُجَرِّبِ الخَبِيرِ، وَصِدْقُ العزيمة، والذَّكاء المُفْرِط، وَفِرَاسَةُ المُلْهَمِ، والتمسك بالصبر، والحِلْم، والرغبة في تحقيق الآمال…
  • في وَحْدَةِ المسلمين: قُوَّتُهُمْ وَمَنَاعَتُهُمْ وَعِزَّتُهُمْ، وَتَجَلَّى ذلك في الصَّدْرِ الأَوَّلِ مِنَ الإسلام؛ حيث عَمِلَ المسلمون بمقتضى قوله تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)([39]).
  • التَّثَبُّتُ عِنْدَ المَمَاتِ مِنْ علامات السَّلامة والسَّعادة؛ لقوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)([40]).

                                                                                               والحمد لله رب العالمين

([1]) قال النووي في شرح مسلم: “العاصي” بإثبات الياء، ويجوز حذفها، وهو الذي يستعمله معظم المحدِّثين، أو كلهم”. شرح النووي على مسلم: 1/ 163.

([2]) رواه أحمد في مسنده، حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهَنِيِّ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، رقم: (17413)، 28/ 629، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب مَنَاقِبِ عَمْرِو بن العاص، رقم: (3844)، 6/ 170، وحسَّنه الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، رقم: (155)، 1/ 288.

([3]) وافاهُ اليقين: جاءه الموت.

([4]) الذُّؤابة من قريش: في المرتبة العليا من قريش.

([5]) مَبْلَغٍ جَزْلٍ: مبلغ كبير.

([6]) تَذَرَّعَ بِحِلْمِه: احتمى بعقله وحكمته.

([7]) النَّكَال: الانتقام الشَّديد الَّذي يكون عبرة للآخرين.

([8]) حَيَّاهُ وَبَيَّاهُ: قال له حيَّاك الله، وَبَيَّاكَ أي: رفع مقامك.

([9]) يَعْزُبُ: يبعد.

([10]) يَجُبُّ: يَقْطَعُ وَيَمْحُو.

([11]) وَيْحَكَ: كلمة يراد بها التَّرَحُّم، أو الدُّعاء عليه بمعنى ويلك.

([12]) وأسْلَمَ الزِّمَامَ: أسلم القيادة ليد الفاروق.

([13]) اللِّوَاذ بِالفِرَارِ: الاحتماء عن طريق الهروب.

([14]) البِطْرِيقُ: رجل الدِّين وكبيرهم عند النَّصارى.

([15]) وثيقة الاسْتِلاَم: الوثيقة، الصّك المكتوب باستلام بيت المقدس.

([16]) الدُّهاة: الماكرين المُخَادِعِين.

([17]) لاَ يَلْوِي على شيءٍ: لا يلتفت إلى ما وراءه، ولا يتردَّد في فعله.

([18]) المِقْدَامُ: الجريء في التَّقدم على الأخطار واقتحامها.

([19]) تَوَجَّسَ خِيفَةً: شَكَّ في الأمر وَتَمَلَّكَهُ الوسواس.

([20]) يُغِذُّ السَّيْرَ: يحث السير ويشتد فيه.

([21]) المُمَنَّعَةِ: المنيعة الحصينة.

([22]) مِنْ لَدُنْ: من عند.

([23]) نَمَّ عَنْ: أظهر.

([24]) الحِنْكَة: الخبرة والتجربة.

([25]) عَطِيَّةٍ سَنِيَّةٍ: جائزة كبيرة.

([26]) الأَجَل: الوفاة.

([27]) العَبْرَةُ: الدَّمعة.

([28]) القصة من كتاب: “صور من حياة الصحابة”؛ للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، ص: 551- 562.

([29]) رواه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ) ]البقرة 133[، الآية، رقم الحديث: (3374)، 4/ 147.

([30]) سورة: الحجرات، من آية: 11.

([31]) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: المعاصي مِنْ أَمْرِ الجاهلية، ولا يُكَفَّرُ صاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إلاَّ بالشِّرْكِ، رقم الحديث: (30)، 1/ 15.

([32]) سورة: آل عمران، من آية: 134.

([33]) سورة: الشورى، آية: 43.

([34]) سورة: النحل، آية: 126.

([35]) سورة: النحل، من آية: 125.

([36]) سورة: التوبة، آية: 119.

([37]) سورة: هود، من آية: 113.

([38]) سورة: الشعراء، آية: 89.

([39]) سورة: الأنفال، من آية: 46.

([40]) سورة: إبراهيم، من آية: 27.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق