مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

قصة ضيافة الصحابي: جابر بن عبد الله الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل الخندق.

 

 

 

 إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي

يروي لنا جابرٌ بن عبد الله([1]) رضي الله عنه إحدى حَوَادِثِهِ مع رسول الله صلوات الله وَسَلَامُهُ عليه. حيث قال:

«كُنَّا يَوْمَ «الخَنْدَقِ» نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ لنا صَخْرَةٌ شديدة عَجَزْنَا عَنْ تَحْطِيمِهَا، فجئنا إلى الرسول عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَام، وقلنا: يا نبيَّ الله لقد وَقَفَتْ في سَبِيلِنَا صَخْرَةٌ صَلْدَةٌ، وَلَمْ تَفْعَلْ مَعَاوِلُنَا([2]) فِيهَا شَيْئاً.

فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: (دَعُوهَا فَإِنِّي نَازِلٌ إِلَيْهَا).

ثم قام، وكان بَطْنُهُ مَعْصُوباً بِحَجَرٍ من شِدَّةِ الجوع؛ ذلك لأننا كنا أمضينا أيّاما ثلاثة لم نَذُق خلالها طعاما، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام المِعْوَلَ، وَضَرَبَ الصَّخْرَةَ فَغَدَتْ كَثِيباً([3]) مَهِيلًا([4]).

عند ذلك ازداد أَسَايَ على ما أصاب الرَّسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من الجوع، فاتَّجهتُ إليه وقلت: أتأذن لي يا رسول الله بِالمُضِيِّ إلى بيتي؟.

فقال: (امْضِ).

فلمَّا بلغتُ البيت قلت لامرأتي: لقد رأيت برسول الله من حَرَارَةِ الجُوعِ ما لا يَصْبِرُ عليه أحدٌ من البَشَرِ، فهل عندك من شيء؟.

قالت: عندي قليلٌ من الشَّعِير، وَشَاةٌ صغيرة، فَقُمْتُ إلى الشَّاةِ فَذَبَحْتُهَا وَقَطَّعْتُهَا، وَجَعَلْتُهَا في القِدْرِ، وأخذت الشَّعير فَطَحَنْتُهُ وَدَفَعْتُهُ إلى امرأتي، فَعَجَنَتْهُ فلمَّا وَجَدْتُ أنَّ اللَّحْمَ كاد يَنْضَجُ…وأنَّ العجين قَدْ لاَنَ؛ وَأَوْشَكَ([5]) أَنْ يَخْتَمِرَ، مَضَيْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت له:

طُعَيِّمٌ([6]) صَنَعْنَاهُ لَكَ يَا نَبِيَّ الله؛ فَقُمْ أنت ورجلٌ أو رَجُلَانِ معك.

فقال: (كَمْ هُوَ)؟.

فَوَصَفْتُهُ لَهُ…فلمَّا عَلِمَ النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام بِمِقْدَارِ الطَّعَام قال: (يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ إِنَّ جَابِراً قَدْ صَنَعَ لَكُمْ طَعَاماً فَهَلُمُّوا([7]) إِلَيْهِ)…ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ وقال: (امْضِ إِلَى زَوْجَتِكَ وَقُلْ لَهَا: لاَ تُنْزِلِي قِدْرَكِ، وَلَا تَخْبِزِي عَجِينَكِ حَتَّى أَجِيءَ).

فَمَضَيْتُ إلى البيت؛ وقد رَكِبَنِي مِنَ الهَمِّ وَالحَيَاءِ ما لا يَعْلَمُهُ إلا الله. وَجَعَلْتُ أقول: أَيَجِيئُنُا أَهْلُ الخَنْدَقِ عَلَى صَاعٍ مِنَ شَعِيرٍ…وَشَاةٍ صغيرة؟!.

ثُمَّ دَخَلْتُ على امْرَأَتِي وَقُلْتُ: وَيْحَكِ([8])؛ لَقَدِ افْتَضَحْتُ([9])…فرسول الله صلى الله عليه وسلم سَيَأْتِينَا بِأَهْلِ الخَنْدَقِ أجمعين. فَقَالَتْ: هَلْ سَأَلَكَ: كَمْ طَعَامُكَ؟. قُلْتُ: نَعَمْ.

فقالت: سَرِّ([10]) عَنْ نَفْسِكَ، فاللهُ ورسولُه أَعْلَمُ، فَكَشَفَتْ عَنِّي غَمّاً([11]) شَدِيداً بِمَقَالَتِهَا تِلْكَ.

وما هو إلا قليلٌ حتى أَقْبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم…ومعه الأنصار والمهاجرون، فقال لهم: (ادْخُلُوا، وَلَا تَزْدَحِمُوا). ثُمَّ قال لامْرَأَتِي: (هَاتِ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ…وَاغْرِفِي مِنْ قِدْرِكِ…ولا تُنْزِلِيهَا عَنِ المَوْقِدِ). ثُمَّ طَفِقَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عليه اللَّحْمَ، وَيُقَرِّبُهُ إلى أصحابه…وهم يأكلون. حتى شَبِعُوا جميعاً. ثُمَّ أَرْدَفَ([12]) جَابِرٌ قائلاً:

أُقْسِمُ بالله إنهم انْفَضُّوا عن الطَّعَامِ وإن قِدْرَنَا لَتَفُورُ مُمْتَلِئَةً كما هِيَ…وإن عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كما هُوَ…ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأتي: (كُلِي…وَاهْدِي)…فَأَكَلَتْ، وَجَعَلَتْ تَهْدِي سَحَابَةَ([13]) ذَلِكَ اليَوْمِ كُلِّهِ».

هذا ولقد ظَلَّ جَابِرُ بنُ عبد الله الأَنْصَارِي مَصْدَرَ إِشْعَاعٍ وَهِدَايَةٍ للمسلمينَ دَهْراً طويلاً، حَيْثُ مَدَّ اللهُ في أَجَلِهِ حتى أَوْشَكَ أن يَبْلُغَ من العُمُرِ قَرْناً من الزمان([14]).  

العبر المستخلصة من هذه القصة:

1-   تواضعُ الرسول صلى الله عليه وسلم، ومشاركتُه أصحابه رضي الله عنهم، في جميع أعمالهم المختلفة.                                                                       

2-   في حفر الخندق إشارة إلى وجوب اتخاذ الأسباب، مع الاتِّكال على الله عَزَّ وَجَلّ، واستشارة أولي الأمر.

3-   إن عَظُمَت الأحوال، فلا يُرجَى لها إلاَّ صادق الأقوال والأفعال.

4-  الجوع، من الأعراض الجائزة في حق الأنبياء والمرسلين..

5-   تَفَتَّتَتِ الصخرة الصَّمَّاء بضرب النبي صلى الله عليه وسلم، كما انفجرت العيون من الحجر بضرب موسى عليه السَّلام.

6-  معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وبركاته لا حصر لها، كما يُعْلَمُ من كُتُبِ «السِّيرة»، و«الخصائص النبوية».

7-   وجوب الاستئذان في التَّغَيُّب عن العمل من مواقع المسؤولية.

8-   الحِوار بين الأزواج، والتعاون فيما بينهم ممَّا يُقوِّي الأُلْفَة، وَيَزْرَعُ المودَّة، وَيُوَصِّلُ للرأي السَّديد.

9-  الاعتذار عند تقديم الصَّدقة القليلة المقدار، من شِيَمِ الأخيار.

10-                    المرأة المؤمنة تكونُ مَبْعَثَ الثقة والطُّمأنينة، وَكَشْفِ الهمِّ والغمِّ عن زوجها.

11-                     خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، لأصحابه دليل على خُلُقِه العظيم، ومحبَّته لهم.

12-                     من حقوق الجيران في الإسلام: الإهداء لهم، ومساعدتهم، وتفقُّد أحوالهم.. 

 

                                                                                      و


([1]) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السَّلَمِيُّ، أحد المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن جماعة من الصحابة، وله ولأبيه صحبة، شهد العقبة، وكثيراً من الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم، مات سنة ثمان وسبعين. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة؛ للحافظ ابن حجر العسقلاني: 1/ 120- 122.

([2]) مَعَاوِلُنَا: مفرده معول، وهي أداة لحفر الأرض.

([3]) كَثِيباً: تَلاًّ من الرَّمل.

([4]) مهيلاً: ينهال فيتساقط ولا يتماسك.

([5]) أوشك: دنا وقارب.

([6]) طُعَيِّم: تصغير طعام، كناية عن قِلَّتِه.

([7]) هلمُّوا: تعالوا، وتكون لازمة ومتعدِّية، وهي من أسماء الأفعال.

([8]) وَيْحَك: كلمة ترحم وتوجع.

([9]) افْتَضَحْتُ: انكشفت واشتهر حالي.

([10]) سَرِّ: أَلْقِ الهَمَّ وَأَزِحْهُ.

([11]) غمّاً: حزناً.

([12]) أردف: تابع وأكمل.

([13]) سحابة ذلك اليوم: طوال ذلك اليوم.

([14])  من كتاب: (صور من حياة الصحابة)؛ للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، ص: 522- 525.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق