مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامقراءة في كتاب

قراءة في كتاب: “في التحرير الإسلامي للمرأة” للدكتور محمد عمارة

 

 

 

 

 

نادية الشرقاوي

صدر لأحد المفكرين الإسلاميين البارزين على الساحة العلمية وهو الدكتور محمد عمارة، الذي تتميز طروحاته بالجدية والجرأة والموضوعية والاتزان، كتاب “في التحرير الإسلامي للمرأة” ضمن سلسلة “في التنوير الإسلامي” عدد 64، عن دار النشر “نهضة مصر” للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى في نونبر 2003م، وهو من الحجم الصغير، ويقع هذا الكتاب في 54 صفحة.

قسَّم محمد عمارة كتابه إلى خمسة محاور، تدور حول نفس القضية وتنصب في محور كبير وهو الذي لخصه عنوان الكتاب: “في التحرير الإسلامي للمرأة”، وهي:

–       تنوع التكامل بين الرجال والنساء

–       مجتمع المشاركة في العمل العام

–       في الجهاد النسائي

–       الضبط الوسطي لقاعدة سد الذرائع

–       الجهاد الإعلامي للمرأة

تنوع التكامل بين الرجال والنساء:

ينطلق صاحب هذا الكتاب في مناقشته في هذا المحور من فكرة أساسية وهي أن الإسلام دين الفطرة، انطلاقا من قوله تعالى:﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾[1]، وهذه الفطرة الإنسانية تبدّدت عبر الزمان والمكان في مدنية الإنسان واجتماعيته، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش فردا وحيدا منعزلا عن المجتمع، فهذا شذوذ عن الفطرة، ولذلك كان للجماعة في ظل الإسلام قوة كبيرة، فهي السبيل إلى الرشد واليقين الذي يحقق الطمأنينة والأمن والسعادة للإنسان.

“والمجتمع بكل مكوناته إنما تتكون أمته وجماعته من الذكور والإناث… وهذا التنوع في الذكورة والأنوثة، قد أخبرنا الحق، سبحانه وتعالى، نابع من أصل واحد ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[2]”[3].

وبيَّن محمد عمارة أن العلاقة بين النوعين هي علاقة المساواة في الخلق وفي التكريم وفي التكليف وفي المشاركة والارتفاق في المال العام وفي الحساب وفي الجزاء، والهديُ القرآني تحدث عن دائرتين من دوائر المشاركة والاشتراك والارتفاق بين الذكور والإناث:

الأولى: دائرة الأسرة، فتحدث القرآن في إطار هذه الدائرة عن الميثاق الغليظ والفطري الذي يربط الزوجين ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾[4]، وفيه أيضا تحدث عن التماثل بين الزوج والزوجة في الحقوق والواجبات ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[5]، والمماثلة التي تحدثت عنها هذه الآية ليست بين الذكر والأنثى، وإنما هي المماثلة في الحقوق والواجبات بين الزوجين في دائرة الاجتماع الأسري، ومعنى لفظ “الدرجة” في الآية هي “درجة الإنفاق”، يقول الدكتور عمارة: “والأوجه في تفسير “الدرجة” التي للرجال على النساء –في المشاركات الأسرية- هي درجة الإنفاق، التي هي –مع الطبيعة المميزة للرجولة- جماع المؤهل الفطري للقوامة والقيادة لسفينة الأسرة ومجتمعها، وعندما تكون المماثلة في المشاركة بالحقوق والواجبات، وليست بين الأنوثة والذكورة، فإنها تحقق مساواة التكامل بين الذكر والأنثى على النحو الذي لا يطمس التمايز الفطري بين الذكورة والأنوثة.”[6]

أما الدائرة الثانية: فهي دائرة الأمة والمجتمع، أي دائرة المشاركة في العمل الاجتماعي العام، وهي مندرجة “تحت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تشمل كل تكاليف وأحكام السياسة والاجتماع والاقتصاد والآداب العامة ومنظومة القيم والأخلاق والعادات والأعراف، فلقد شرع القرآن الكريم لمبدأ الاشتراك والمشاركة بين الرجال والنساء في كل هذه الميادين عندما قال:﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾[7]… فكل التكاليف العامة المؤسسة للفرائض (الاجتماعية- الكفائية)، إنما هي في القرآن الكريم موجهة إلى الأمة، وإلى الجماعة المؤمنة، أي إلى النساء والرجال”[8].

ويقدم الدكتور عمارة في هذا الصدد مثالا تطبيقيا من صلب الدعوة الإسلامية، حين جعلت الرجل والمرأة سواسية في تقديم البيعة للنبي صلى الله عليه وسلم، “فلقد ساوت الدعوة الإسلامية الأولى بين النساء والرجال عندما جعلت للمرأة بيعة مستقلة عن بيعة الرجل –زوجها أو أبيها أو أخيها أو عمها-، تدخل بهذه البيعة المستقلة إلى الإسلام وأمته، مثلها في ذلك مثل الرجل سواء بسواء:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[9][10].

مجتمع المشاركة في العمل العام:

منذ اللحظة الأولى لنزول الوحي بدأت مشاركة المرأة في الإيمان بالدين الجديد، وفي الدعوة إليه، والدفاع عنه، والتضحية في سبيله، فبخديجة بنت خويلد رضي الله عنها بدأت الأمة والجماعة المؤمنة ، “ولقد ظلت حياة السيدة خديجة سلسلة من المشاركات الخاصة والعامة في الدعوة الإسلامية إلى أن جاءها اليقين، حتى سمى الرسول صلى الله عليه وسلم عام موتها “عام الحزن” –الحزن العام وليس الحزن الخاص-.”[11]

وذكر الدكتور عمارة نماذج أخرى من المشاركات النسائية في الإسلام، على رأسها سمية بنت الخياط أم عمار بن ياسر التي كانت في طليعة الشهادة والشهداء، بها بدأت المشاركة الدامية في بالروح في سبيل نصرة الدين الجديد.

كما شاركت المرأة في الهجرة إلى الحبشة، وكان عدد النساء ثماني عشرة امرأة مع ثلاث وثمانين رجلا.

وفي بيعة العقبة التي كانت بمثابة “الجمعية العمومية لعقد تأسيس الدولة الإسلامية” كانت المرأة حاضرة في شخص أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية وأم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي الأنصارية.

وفي حدث الهجرة النبوية التي مثلت بداية التحول العظيم للدعوة الإسلامية، شاركت المرأة في هذا العمل العام، عندما ائتمنت أسماء بنت أبي بكر وأختها عائشة رضي الله عنها على السر الذي توقف على حفظه وصيانته مستقبل الإسلام.

وفي الغزوات كانت المرأة حاضرة بقوة، فعن الربيع بنت معوذ، قالت:”كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة.”[12]

وذكر محمد عمارة نماذج أخرى ذكرها القرآن الكريم تدل على المشاركة، كمجتمع النبي شعيب الذي تجلت فيه المشاركة بين الرعاة والراعيات، ومملكة سبأ التي تجلت فيها المشاركة بين ملكة سبأ وبين قومها، فمشاركة المرأة للرجل في العمل العام سنة متبعة عبر المجتمعات والرسالات.

في الجهاد النسائي:

هذه النهضة النسائية التي شهدها صدر الإسلام لم تكن لتتحقق دون “جهاد نسائي” و”حركة نسائية” و”احتجاج نسائي” كما يقول الدكتور عمارة، “فلقد كانت هناك العادات الموروثة والمتكسلة، في إهمال المرأة وتحقيرها، والتي يستحيل أن تختفي في بضع سنوات.. وكانت هناك تكاليف الإسلام بتغيير الواقع الجاهلي والمثل الجاهلية، وهي التكاليف التي تحتاج إلى “جهاد نسائي” يغالب تلك الموروثات الجاهلية.”[13]

ويدعم الدكتور عمارة كلامه بما روي في صحيح البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال:”والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم، كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقا”.

            كانت النساء يحضرن مجالس العلم في المسجد النبوي، ويصلين بالمسجد حتى في صلاة الفجر والعشاء، ولقد اتخذ هذا الجهاد النسائي في بعض الأحيان الشكل المنظم، الذي نلمح فيه جنين (جمعية نسائية) على عهد النبوة، فيذكر هنا أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية التي لقبت بـ “وافدة النساء”، وكانت واحدة من أبرز خطيبات النساء في عصر النبوة.

فبجهاد المرأة المسلمة خرجت النساء من أسر الجاهلية والوثنية، وشاركت الرجال في الكثير من ميادين العمل العام، قبل أن تعرف الدنيا شيئا عن هذه الحرية وذلك التحرير.

الضبط الوسطي لقاعدة سد الذرائع:

قاعدة سد الذرائع هي قاعدة فقهية من خلالها تُعَالج قضية الاختلاط والاشتراك في العمل العام بين النساء والرجال، وهذه القاعدة لا بد في ضبط تطبيقاتها من الاعتصام بمنهاج الوسطية التي تحقق المقاصد الإسلامية، مع الحذر من غلو الإفراط والتفريط.

فالمباحات تبقى على أصل الإباحة، ولا تخرج عنه إلى الكراهة والتحريم إلا إذا تحققت المفسدة أو كثرت، ولا بد من الحذر الشديد عند التعامل مع تطبيقات قاعدة سد الذرائع، وذلك بالتدقيق في الموازنة بين المصالح والمفاسد.

فالكثير ممن يتوسعون في تطبيقات “قاعدة سد الذرائع” في علاقة النساء بالرجال والاختلاط والمشاركة في العمل العام -حسب رأي الدكتور محمد عمارة- “إنما يقودهم إلى هذا التوسع النية الحسنة والرغبة الصادقة في تحقيق ” المجتمع المثالي” في الحياة الإسلامية”[14].

ويُنبه عمارة هؤلاء إلى مسألة مهمة وهي: أن تحقيق “المثال الإسلامي” في “المجتمع الإنساني” حتى على عهد النبوة هو محال من المحالات، فالإنسان ليس معصوم من الخطأ، وهو مزيج من الخير والشر.

ويقدم عمارة أمثلة من هدي النبوة في ضبط الاختلاط في المجتمع، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم الاختلاط ولا دخول الرجال بيوت الغائبين، وإنما ظلت الإباحة للاختلاط وأكد على تحريم الخلوة بالمرأة الغير المحرم التي غاب عنها زوجها عن بيتها، ، فقال النبي صلى الله عليه: “لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان”، وعندما أخذ بعض المنافقين في التحرش ببعض النساء أثناء خروجهن ليلا لقضاء حوائجهن، لم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج النساء من بيوتهن، وإنما نزل القرآن داعيا النساء إلى الحشمة الإسلامية التي تميز الحرة، فكان تعامل المجتمع النبوي مع الشوائب والأخطاء بالموازنة بين المصالح والمفاسد.

الجهاد الإعلامي للمرأة:

في هذا المحور بيَّن الدكتور محمد عمارة أن الكلمة الإسلامية هي ميدان كبير وعظيم وخطير من ميادين الجهاد الإسلامي، ومستجدات الواقع الذي نعيشه اليوم تزيد من وزن هذه الكلمة أمام أنواع الكلمات المتواجدة لكل الديانات والفلسفات والمنظومات الفكرية والعقدية، كما يستوجب الأمر “استدعاء كل إمكانات الجهاد بالكلمة الإسلامية تبليغا للدعوة، وإقامة للحجة، وإزالة للشبهة، وعرضا “للبديل الإسلامي” في مواجهة “البدائل” الأخرى”[15].

والإعلام هو الوسيلة التي يمكن من خلالها أن تقام كلمة الإسلام، فهو ميدان كبير من ميادين الجهاد، الذي هو فريضة على كل من الرجال والنساء على السواء، وعلى هذا يجب على المرأة أن تأخذ مكانها في ميدان الدعوة الإسلامية المعاصرة، وفي السينما والمسرح والتمثيلية، وفي الفضائيات والتلفاز والإذاعات، وكل هذه القضايا تحتاج إلى تدارس وتشاور، يفصل قواعدها، وضوابط الأداء لرسالتها في إطار مبادئ المساواة بين النساء والرجال.

هذا الكتاب في الحقيقة رغم صغر حجمه، فقد استطاع فيه مؤلفه الدكتور محمد عمارة أن يلخص لنا رسالة الإسلام في تحرير المرأة، وكان بالحق كتابا متميزا ضمن الكتابات الجديدة في حقل الفكر الإسلامي، وإسهاما منيرا للقارئ المسلم يعيد له الثقة بالنفس ويشده إلى دينه وتراثه، وبديلا عن “التنوير الغربي العلماني” الذي يقيم قطيعة مع التراث.


[1] سورة الروم، الآية: 30.

[2] سورة النساء، الآية: 1.

[3] “في التحرير الإسلامي للمرأة” الصفحة 4.

[4] سورة النساء، الآية: 21.

[5] سورة البقرة، الآية: 228.

[6] “في التحرير الإسلامي للمرأة” الصفحة: 7.

[7] سورة التوبة، الآية: 71.

[8] “في التحرير الإسلامي للمرأة” الصفحة:9-10.

[9] سورة الممتحنة، الآية: 12.

[10] في التحرير الإسلامي للمرأة” الصفحة: 11.

[11] “في التحرير الإسلامي للمرأة” الصفحة: 14.

[12] رواه البخاري

[13] “في التحرير الإسلامي للمرأة”، الصفحة: 38.

[14] “في التحرير الإسلامي للمرأة”، الصفحة: 46.

[15] “في التحرير الإسلامي للمرأة”، الصفحة: 51.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق