مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكقراءة في كتاب

قراءة في كتاب: الرسالة القشيرية لابن هوازن القشيري(ت.465هـ)

2- قراءة في كتاب “”الرسالة القشيرية في علم التصوف”.

ينقسم الكتاب إلى جزئين؛

الجزء الأول تضمن مقدمة وفصول ثلاث.

  • عنوان الكتاب ومقدمته:

      العنوان والمقدمة من أهم العتبات النصية، ” إذ لا يمكننا الدخول إلى عالم أي تأليف قبل المرور بعتباته، لأنها تقوم، من بين ما تقوم به، بدور الوشاية والبوح. ومن شأن هذه الوظيفة أن تساعد في ضمان قراءة سليمة للكتاب”[19]، فالنصوص الموازية للنص الأصل علامات دلالية تشرع أبواب النص أمام المتلقي القارئ، وتشحنه بالدفعة الزاخرة بروح الولوج إلى أعماقه، كما أنها لها سياقات تاريخية ونصية ووظائف تأليفية تختزل جانبا مركزيا من منطق الكتابة، لذا نجد الدراسات الحديثة انكبت على دراسة العناوين والخطاب المقدماتي مدخلا رئيسا لمعرفة محتوى الكتاب إجمالا، فالعتبات ومختلف السياقات المحيطة بالنص سواء التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية لحظة التأليف من آليات الاشتغال التي تمكن من تفكيك مختلف العلائق القائمة داخل النسق التأليفي، لأن العنوان أو المقدمة نابعة من الوعي التام للمؤلف بموضوعه ورسالته التي يتغيى إبلاغها للقارئ، الذي يقتحم الكتاب برؤيا مسبقة مبنية على قراءة افتراضية غالبا قبل فتح باب الولوج إلى تفاصيله، وبين موضوع الكتاب ووعي صاحبه به علاقة مؤشرات تتحكم في استخلاص مكامن الفائدة في العتبات النصية، إذ أن اختيار العتبة المناسبة ـ ومنبعها الموضوع مبني أيضا على اختيار ما يفهم القارئ وما يبعث فيه التفكر والاستنباط والاستقراء، والذي لا يمكن إلا أن يكون نابعا أيضا من الوعي بذات الموضوع. ولعل المنطلق في اهتمام الصوفية عموما بعتبات مؤلفاتهم في ظاهر مبناها وتكامل فحواها، نابع من وعيهم التام بشرف التوجيه والإرشاد الذي مناطه المسير إلى الله، وكذا من وعيهم التام بما لهذه العتبات من وظيفة في فهم خصوصية التأليف وتحديد جانب هام من مقاصده الدلالية، على أن يظل القارئ لصيقا في تلقيه لهذه العناوين والمقدمات بالخصوصية الرمزية والإشارية لأهل التصوف، وقد سمى المؤلف كتابه بالرسالة في مقدمته فقال: فعلقت هذه الرسالة إليكم، أكرمكم االله. وذكرت فيها بعض سير شيوخ هذه الطريقة في آدابهم، أخلاقهم، ومعاملاتهم، وعقائدهم بقلوبهم، وما أشاروا إليه من مواجيدهم، وكيفية ترقيهم من بدايتهم إلى نهايتهم؛ لتكون لمريدي هذه الطريقة قوة، ومنكم لي بتصحيح شهادة، ولي في نشر هذه الشكوى سلوة، ومن الكريم فضلاً ومثوبة وأستعين باالله سبحانه فيما أذكره؛ وأستكفيه؛ وأستعصمه من الخطإ فيه، وأستغفره وأستعينه. وهو بالفضل جدير، وعلى ما يشاء قدير[20].

      قدم المؤلف بين يدي كتابه بمقدمة وافية استوفت الشروط التي تتطلبها المقدمة، إذ ليست المقدمة ذلك النص الذي يمكن تجاوزه بسهولة، إنها العتبة التي تحملنا إلى فضاء الكتاب الذي لا تستقيم قراءتنا له إلا بها. إنها نص محمل مشحون جدا. وهي وعاء معرفي وأيديولوجي تختزل رؤية المؤلف ومواقفه من إشكاليات عصره، لذلك فهذه الأهمية والموقع الذي تتميز به المقدمة هو الذي يسمح لها بنسج علاقة خاصة مع المتن”[21] ، “ولقد كان المصنفون العرب واعين أشد ما يكون الوعي بأهمية المقدمة ووظائفها وأدوارها المتميزة وسلطتها الخطابية الإقناعية، لذلك اتفق أن اجتمعت مقدماتهم على احترام كثير من القواعد التي تبدو أساسية في بناء المقدمة ومعماريتها من ذلك مثلا: 1ـ الحرص على حسن الصياغة والديباجة باعتماد الأسلوب السجع والمجانسة والمطابقة ولو لم يتعلق الأمر بكتاب أدبي… 2ـ عدم الإطالة في المقدمة…  3ـ الحرص على ضرورة انسجام ما تحتويه المقدمة من معلومات مع موضوع الكتاب.”[22] والخطاب المقدماتي الصوفي له بنيته الخاصة ودلالاته المتعددة، فهو يلعب دورا تواصليا مهما مع المتلقي. فنجد صاحب الرسالة الإمام القشيري رحمه الله قد استوفى كل ذلك في مقدمته حيث جرت عادة القدماء من المعلمين أن يأتوا بالرؤوس الثمانية قبل افتتاح كل كتاب وهي الغرض والعنوان والمنفعة والمرتبة وصحة الكتاب ومن أي صناعة هو، وكم فيه من أجزاء وأي أنحاء التعاليم المستعملة فيه”[23] ومن يعود لقراءة مقدمة الرسالة القشيري  يجدها قد استوفت كل ذلك وبإحكام فكري وأدبي، فكري حيث ضمنها القصد من تأليفه وبواعث ذلك وكذا المواضيع المضمنة فيها في كتابة أدبية مسجوعة غير متكلفة.

فصول المؤلَّف: ضمن المؤلف رسالته فصلا سماه بالفصل الأول الذي خصصه لبيان اعتقاد أرباب السلوك الصوفي في مسائل الأصول متطرقا لأمور منها:

معرفة الله وصفاته، الإيمان، الأرزاق، الكفر، العرش، الحق سبحانه وذلك ارتباطا بما ذكرناه في التعريف به من الفتنة التي ظهرت على عصره، والتي وضح في مقدمة تأليفه أنه لم يأت بهذه الرسالة إلا عندما “حصلت الفترة في هذه الطريقة..، لا، بل إندرست الطريقة بالحقيقة، مضى الشيوخ الذين كان لهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطوى بساطه، واشتد الطمع وقوى رباطه وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام، وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات…”[24]، فكان من المفروض أن يخصص هذا الفصل ليوضح مذهبه العقدي الأشعري وما يحيط به مكتقيا بالتفصيل في ما ذكرناه من المباحث إما باستدعاء آرارء من يوافقون رأيه تأكيدا على المواققة ومنها قوله في التوحيد: “أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله تعالى، قال: سمعت عبد الواحد بن بكر، يقول: سمعت هلال بن أحمد يقول: سئل أبو علي الروذباري عن التوحيد، فقال: التوحيد: إستقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل، وإنكار التشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة: كل ما صوره الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه، لقوله تعالى: “ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير”.[25]

   ومنه قوله في العرش: وسئل ذو النون المصري عن قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾[26] فقال: أثبته لذاته ونفى مكانه، فهو موجود بذاته، والأشياء موجودة بحكمه، كما شاء سبحانه. و سئل الشبلي عن قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾. فقال: الرحمن لم يزل، والعرش محدث، والعرش بالرحمن استوى. وسئل جعفر بن نصير عن قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فقال: استوى علمه بكل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء وقال جعفر الصادق: من زعم أن الله في شيء،أو من شيء، أو على شيء، فقد أشرك؛ إذ لو كان على شيء لكان محمولا، ولو كان في شيء لكان محصوراً، ولو كان من شيء لكان محدثاً.”[27]

يمكن أن نعتبر هذا الفصل من الرسالة القشيرية مبحثا عقديا يبرز التوجه العقدي الأشعري  للإمام القشيري رحمه الله، ينافح من خلاله عن توجهاته بالتأصيل الشرعي، مستدعيا لذلك آراء كبار الفكر العقدي الأشعري والتصوف الجنيدي؛ منهم الإمام الإسفرايني، الإمام الجنيد والواسطي أبو سعيد الخراز أبو جعفر الصيدلاني، أبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم.

      أما  الفصل الثاني فتطرق فيه  لأصول المشايخ من كبار أهل الطريقة والسلوك نذكر منهم على سبيل التمثيل لا الحصر؛ إبراهيم بن أدهم، ذو النون المصري، أبو علي الفضيل بن عياض، معروف بن فيروز الكرخي، سري بن المغلس السقطي، بشر بن الحارث الحافي، أبو عبد الله المحاسبي، داود بن نصر الطائي، شقيق بن إبراهيم البلخي، أبو يزيد البسطامي، أبو محمد التستري، أبو سليمان الداراني….، وقد نهج في التعريف بهم منهجا موحدا، حيث يأتي بالاسم الكامل والنسب ثم ما يخص حياتهم وأقوالهم في اتخاذ طريق القوم مسلكا، وهو في ذلك على نهج كتب المناقب، حيث يذكر مناقبهم وما جاء في حقهم من الرؤى والبشارات، وعنهم من الحكم والأقوال المحكمة مما يستفاد به في سلوك طريق القوم وانتهاج أهل الطريقة من المشايخ والعلماء بالله العارفين به.

    أما الفصل الثالث فقد خصه بتفسير ألفاظ تدور بين هذه الطائفة بمعنى التطرق للمصطلح الصوفي، حيث اختص كل علم من العلوم، وفن من الفنون بمصطلحات خاصة تحدد مجاله وتقنن مناحيه، لذا اقتضى التعرض لمجال بعينه التعرف على حقله الاصطلاحي قصد استكناه خصوصياته ومكامنه. والتصوف قبل أن يصبح علما فهو تجربة لا يمكن الحديث عنها دون تحديد المصطلحات، التي تصف ما يجده الصوفي في سلوكه من أحوال وأذواق، لكن هذا المصطلح ليس كغيره من المصطلحات العلمية والفنية، وإنما هو مصطلح زئبقي تتغير دلالاته ومعانيه، حسب تجربة كل صوفي ومقامه وحاله الذي بلغه في هذا السلوك التربوي الروحي، ومن ثمة فالمصطلحات الصوفية هي ألفاظ يستخدمها الصوفية قصد التعبير عن تجربتهم الروحية، فهي إذن ناتجة عن ذوق ووجدان، وهي عبارة عن مفهوم تصوري يعكس مضمون التجربة الوجدانية، التي يعيشها السالك أثناء سيره التعبدي، إن هذه الألفاظ لا يفهمها إلا أهلها، ولا يمكن إدراكها عن طريق الحس أو العقل أو عن طريق التجريد التأملي، وإنما هي مصطلحات لا يمكن استيعابها إلا عن طريق التجربة والذوق. وفي هذا الصدد يقول الباحث حسن الشرقاوي: “إن هذه الألفاظ لا تعرف عن طريق منطق العقل والنظر بقدر ما تفهم عن طريق الذوق والكشف ولا يتأتى ذلك إلا لسالك يداوم على مخالفة الأهواء، وتجنب الآثام …حتى تنكشف لهذا المريد الصادق غوامضها و تتجلى له معانيها.[28]

للمصطلح الصوفي أبعاد ثلاثة : بعد عملي يتمثل في الممارسة السلوكية، وبعد وجداني يتعلق بطبيعة التجربة الصوفية، وبعد فكري يقترن بالمذهب، وقد تعرض القشيري رحمه الله في رسالته إلى التعريف بالمصطلحات التي تعارف عليها القوم وفق منهج توضيحي، حيث قال:” أعلم أنَّ من المعلوم: أن كلَّ طائفة من العلماء لهم ألفاظ يستعملونها  فيما بينهم  انفردوا بها عمن سواهم، تواطئوا عليها؛ لأغراض لهم فيها من تقريب الفهم على المخاطبين، أو تسهيل على أهل تلك الصنعة في الوقوف على معانيهم، بإطلاقها. وهذه الطائفة يستعملون ألفاظاً فيما بينهم، قصدوا الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإجمال والستر على من باينهم في طريقتهم؛ لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب، غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، واستخلص لحقائقها أسرار قوم، ونحن نريد بشرح هذه الألفاظ تسهيل الفهم على من يريد الوقوف على معانيهم من سالكي طرقهم، ومتبعي سننهم”[29]. وقد نهج القشيري رحمه الله في ذلك التعريف بالمصطلح مع الاستئناس بأقوال العلماء الصوفية الأجلاء، وقد ضمن هذا المبحث المصطلحات الآتي ذكرها: الوقت، المقام، الحال، القبض والبسط، الهيبة والأنس، التواجد والوجد والوجود، الجمع والفرق، الفناء والبقاء، الغيبة والحضور، الصحو والسكر، الذوق والشرب، المحو والإثبات، السر والتجلي، المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة، البداوة والهجوم، التلوين والتمكين، القرب والبعد، الشريعة والحقيقة، النفس، الخواطر، علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، الوارد، الشاهد، النفس، السر.

احتكم القشيري رحمه الله في إفهام المصطلح الصوفي إلى التجربة الصوفية، جمع في بعضها بين الثنائيات الضدية المصطلحية في التعريف، مراعيا البعد التوليدي في اللغة الإشارية الصوفية التي تعتمد الإشارة والرمز، والمقصود من التوليد أن نخرق بالمصطلح الواحد آفاقا في العروج والترقية؛ من ذلك علم اليقين الذي يولد لنا عين اليقين ثم حق اليقين، أو حيث يجعل الصوفية من مسميات للمقصود الواحد ولكن في ترقياته كالنفس والروح والسر، حيث تكون نفسا وتغدو روحا ومن ثمة سرا في معراج التزكية السلوكية.

     أما الجزء الثاني من هذا الفصل فخصصه القشيري رحمه الله بتابع المقامات مما جاء في الجزء الأول، ووسمه بشرح باب المقامات: التوبة المجاهدة الخلوة، والعزلة، الورع، الزهد، الصمت، الخوف، الرجاء، الحزن، الخشوع والتواضع، باب مخالفة النفس، باب الحسد، باب الغيبة، باب القناعة، باب التوكل، باب الشكر، باب اليقين، باب الصبر.

ثم جعل الجزء الثاني من رسالته مخصصا لاستكمال المقامات وشرحها ومنها: الرضا، العبودية، الإرادة، الاستقامة، الإخلاص، الصدق، الحياء، الحرية، الذكر، الفتوة، الفراسة، الخلق، الجود والسخاء،  الغيرة، الولاية، الدعاء، الفقراء، ليختم هذا الجزء بالتعريف  بالتصوف، الأدب، أحكامهم في السفر، باب الصحبة، باب التوحيد، باب الخروج من الدنيا، باب المعرفة بالله، باب الشوق، باب حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم، باب كرامات الأولياء، الكرامات.

ثم ختم كتابه بفصول ضمنها وصية للمريدين، وفصل في عصمة المشايخ ومجموعة من الآداب الواجبة في حق المريدين وسالكي طريق التزكية.

3- القيمة العلمية للكتاب

تعد الرسالة القشيرية مصدرا أولا في التعريف بالممارسة السلوكية بجميع مناحيها، حيث ضمنها صاحبها كل ما يلزم للتعرف على الفكر الصوفي بترتيب محكم ومفيد ومسعف،كما أن ترتيب المباحث الواردة فيها كان محكما وبناء، إذ قدم فيها بأقوال علماء التصوف في أمور كلامية تشكل أهمية في بيان توجههم العقدي الأشعري، ثم ذكر العديد من شيوخ التصوف معرفا بهم وبمناقبهم مستدلا بأقوالهم المأثورة في التعريف بكل ما يحيط بالتصوف علما وممارسة سنية تهدف إلى إصلاح الفرد وتزكية نفسه، ثم المصطلحات التي تعارف عليها أرباب التربية السلوكية من أجل إفهام الناس المقصود من كلامهم، وهكذا سلمنا تدريجيا إلى المقامات التي يدركها المجرب المتقن الذي يبتغي تزكية نفسه والعروج بها لتبلغ القوامة التي أرادها الله لها، ولعل ما ختم به الإمام القشيري رحمه الله رسالته من الفصول السالف ذكرها، قد جمع فيها فكره الصوفي الذي ينبني بالأساس على الانقياد للشريعة والسير وفق خطاها وعدم مخالفتها أو ترك حدودها بحال من الأحوال، فيقول في فصل حفظ آداب الشريعة: “بناء هذا الأمر ومِلاكه على حفظ آداب الشريعة وصون اليد عن المد إلى الحرام والشبهة، وحفظ الحواس عن المحظورات، وعد الأنفاس مع االله تعالى عن الغفلات، وأن لا يستحل مثلاً سمسمة فيها شبهة في أوان الضرورات فكيف عند الاختيار، ووقت الراحات؟! ومن شأن المريد دوام المشاهدة في ترك الشهوات، فإن من وافق شهوته عدم صفوته، وأقبح الخصال بالمريد رجوعه إلى شهوة تركها الله تعالى”.[30] وفي هذا سداد القول ونفي الريب وتحقيق المراد من التربية الصوفية التي مناطها السير بالعبد في طريق الفلاح وتعليق قلبه بالحق عز وجل، وما ذاك إلا بالتزام حدود الشريعة والابتعاد عن الشبهات، فالتصوف يسعى إلى إصلاح الخلائق عن طريق الالتزام بتعاليم كتاب الله عز وجل والاقتداء بهديه عليه أفضل الصلاة والسلام وصحبة المشايخ أهل التقى والورع، مع اعتقاد الصلاح فيهم لا العصمة كما بين ذلك في قوله: ‘ولا ينبغي للمريد أن يعتقد في المشايخ العصمة بل الواجب أن يذرهم وأحوالهم؛ فيحسن بهم الظن ويراعى مع االله تعالى حده فيما يتوجه عليه من الأمر، والعلم كافيه في التفرقة بين ما هو محمود وما هو معلول.[31] وقد جعل الصحبة على ثلاثة أقسام: “صحبة مع من فوقك: وهي في الحقيقة خدمة، وصحبة مع من دونك وهي تقضي على المتبوع بالشفقة والرحمة، وعلى التابع بالوفاق والحرمة وصحبة الأكفاء والنظراء: وهي مبنية على الإيثار والفتوة؛ فمن صحب شيخاً فوقه في الرتبة، فأدبه ترك الاعتراض، وحمل ما يبدو منه على وجه جميل، وتلقى أحوالا بالإيمان به .[32] وفي ذلك أن الصحبة المثمرة تكون بصحبة من هو أفضل منا في الأحوال مع ربه، بصفاء الظاهر ونقاء الباطن لتنهض همة المريد مقالا وحالا للتوجه إلى الحق وطلب وجهه صدقا وإخلاصا، وتجنب الأغيار مع التزام الأدب، وقد ساق في ذلك الإمام القشيري رحمه الله قولا لابن سعيد بن المسيب أنه قال: من لا يعرف ما الله عز وجلّ عليه في نفسه، ولم يتأدب بأمره ونهيه كان من الأدب في عزلة”[33]. وفي الأدب وتوقف الشريعة عليه يسوق قولا  للجلالي البصري يقول: “التوحيد موجب يوجب الإيمان؛ فمن لا إيمان له فلا توحيد له، والإيمان موجب يوجب الشريعة؛ فمن لا شريعة له فلا إيمان له ولا توحيد، والشريعة موجب يوجب الأدب؛ فمن لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان ولا توحيد.[34] فالأدب زينة الأعمال عند أهل التصوف وبه متم الصالحات.

وفي تعريف التصوف كان الإمام القشيري رحمه الله جامعا مانعا، إذ ساق جل تعريفات الصوفية التي تبرز منطلقاته الأخلاقية، مبتدئا بالتفصيل في أصل التسمية التي غلبت على هذه الطائفة؛ “فيقال: رجلٌ صوفي، وللجماعة صوفية، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له: متصوف، وللجماعة: المتصوفة. وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق. والأظهر فيه: أنه كاللقب، فأما قول من قال: إنه من الصوف، ولهذا يقال: تصوف إذا لبس الصوف كما يقال: تقمص إذا لبس القميص، فذلك وجه. ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف!! ومن قال: إنه مشتق من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى االله. وقول من قال: إنه مشتق من الصف، فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم فالمعنى صحيح، ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف. ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعينهم إلى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق. وتكلم الناس في التصوف: ما معناه؟ وفي الصوفي: من هو؟ فكلُّ عبر بما وقع له. واستقصاء جميعه يخرجنا عن المقصود من الإيجاز وسنذكر هنا بعض مقالاتهم فيه على حد التلويح، إن شاء االله تعالى. “[35] ليسوق الإمام القشيري ما يراه ملائما من التعريفات للتصوف فمنها ما ناسب الاجتهاد في العمل مع استحضار الإخلاص،  ومنه: “سئل رويم عن التصوف فقال: استرسال النفس مع االله تعالى على ما يريده[36].

ومنها ما ناسب الأخلاق فيقول: “سئل أبو محمد الجريري عن التصوف، فقال: الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دنيّ. [37] وقال محمد بن علي القصاب: التصوف: أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام. “[38]ومنها ما ناسب الزهد حيث قال: “سمعت أبا حمزة البغدادي يقول: علامة الصوفي الصادق: أن يفتقر بعد الغني، ويذلّ بعد العز، ويخفى بعد الشهرة، وعلامة الصوفي الكاذب: أن يستغني بالدنيا بعد الفقر، ويعز بعد الذلّ، ويشتهر بعد الخلفاء.[39]

حافظ الإمام القشيري رحمه الله تعالى في تعريفه للتصوف على استدعاء الشواهد التي تعرفه تعريفا سنيا واضحا سلسا ترتضيه الفطرة وتوافقه السجية السليمة التي تبتغي القدوة الحسنة وحسن الاتباع والابتعاد عن الابتداع.

خاتمة:

أسفرت رسالة القشيري عن منهج واضح وراسخ يؤصل للتجربة الصوفية بممارساتها المبنية على الاقتداء بالصحبة الصالحة ثم الإكثار من ذكر الله عز وجل، والتزام الآداب للتقرب من الله عز وجل والتحقق بالمعرفة الربانية اللدنية، مستندا في ذلك إلى جهابذة هذا العلم وكبار المحققين فيه والمتحققين به، حيث أجاد القشيري رحمه الله في استدعاء الشواهد في مواضعها اللائقة، والمنافحة عن علو شأن هذه الطائفة من العلماء الراسخين في العلم، المتشبتين بمعتقد أهل السنة والجماعة مما بوأ هذا المصدر مكانة كبيرة ورفيعة في الدرس الصوفي السني الجنيدي، محكمة التقسيم حيث دقق صاحبها فيها في مسائل يهدف إلى تنوير القارئ وإماطة الشبه عن هذا العلم بها، وقد حظيت بتحقيقات من طرف الباحثين نظرا لأهمية ما اشتملت عليه من التأصيل لعلم التصوف على اعتباره مقام الإحسان من الدين الذي يقتضي الإتقان ودوام المراقبة لله عز وجل في كل الحركات والسكنات هيبة ورغبة ومحبة في نوال رضى الحق جل وعلا.

*****************************************************************************************************************************

لائحة المصادر والمراجع

المصادر:

–  الرسالة القشيرية، عبد الكريم بن هوازن القشيري، نسخة رقمية، مكتبة المصطفى الرقمية.

–  دمية القصر وعصرة أهل العصر، علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي، دار الجيل، بيروت، ط.1، 1414 هـ.

–  سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، تحقيق شعيب الأرنؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، ط.1، سنة 1405هـ ـ

–  طبقات المفسرين، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، علي محمد عمر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط.1، 1396هـ.

– الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستغربين والمستشرقين، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط10، 1413هـ.

ـ- الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى،: علي بن ماكولا، دار الكتب العلمية – بيروت، ط.1 ، 1411م.

– التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد، محمد بن عبد الغني البغدادي أبو بكر، تحقيق كمال يوسف الحوت، الناشر دار الكتب العلمية، مكان النشر بيروت، ط. 1408م.
– معجم ألفاظ الصوفية، حسن الشرقاوي، مؤسسة مختار للنشر، ط.1، 1987.

– المنتخب من كتاب السياق لتاريخ نيسابور، أبو إسحاق الصيرفيني، تحقيق خالد حيدر، دار الفكر للطباعة والنشر التوزيع، ط. 1414هـ.

– تاريخ بغداد، أبو بكر الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت.

-ـ طبقات الشافعية الكبري، تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي، تحقيق محمود الطنجاوي وعبد الفتاح الحلو، دار احياء الكتب العربية، سنة 1413هـ.

– طبقات الصوفية، أبو عبد الرحمن السلمي، تحقيق نور الدين شريبة، دار الكتاب العربي بمصر، ط.1،  1372هـ/1953م.

– طبقات الفقهاء الشافعية، عثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح، تحقيق محيي الدين علي نجيب، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط. 1992م.

– طبقات المفسرين، أحمد بن محمد الأدنروي، تحقيق سليمان بن صالح الخزي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة ط.1، 1997م.

– وفيات الأعيان، شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر ، بيروت، ط. 0 ، 1900..

المراجع:

– مدخل إلى عتبات النص، دراسة في مقدمات النقد العربي القديم، عبد الرزاق بلال، إفريقيا الشوق.

– مقاربة أوليه لكيفية اشتغال المقدمة في الخطاب النقدي القديم، المصطفى الشاذلي، مجلة علامات، ج.29، سبتمبر 1998.

الهوامش:


[1] تنظر ترجمته في: ـ الأسنوي ج.2، ص.313_ ابن قاضي شهبة، ص. 111_ البداية والنهاية ،ج.12، ص. 107_ مرآة الجنان،ج. 3ص.91_ وفيات الأعيان ، ج.7 ص.319_ تاريخ بغداد، ج. 11ص.83 _ ودمية القصر: 194 وتبيين كذب المفتري،271 _ والمنتظم، ج. 8،ص. 280 _ وتاريخ ابن الأثير، ج. 10،ص.88 _ وانباه الرواة، ج. 2، ص. 193 _ وطبقات السبكي،ج. 3، ص.243 _ والنجوم الزاهرة ، ج.8،ص.98_  وطبقات المفسرين، ص. 31، والشذرات ،ج.،3،ص. 319 _ وعبر الذهبي ،ج.3ص. 259_ سير أعلام النبلاء،ج.18، ص.225. طبقات الشافعية، ج5، ص.153.

[2] ـ طبقات الشافعية، ج.5، ص.153.

[3] وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أحمد ابن خلكان البرمكي الإربلي، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط.1، 1900، ج.3ص.105.

[4] سير أعلام النبلاء، ج.18، ص.227.

[5] الأعلام،ج.6، ص.226.

[6]  سير أعلام النبلاء، ج. 18، ص.229.

  [7] وهي محققة مجموعة ضمن كتاب أربع رسائل في التصوف لأبي القاسم القشيري لمحققها قاسم السامرئي مطبعة المجمع العلمي العراقي،1969.

[8] الاعلام، ج4، ص.57.

[9]  سير أعلام النبلاء، ج.18،ص.227.

[10] سير أعلام النبلاء، ج.18، ص. 229.

[11] سير أعلام النبلاء، ج.18،ص.230

[12] طبقات الشافعية لابن الصلاح، ج. 2، ص.565.

[13] سير أعلام النبلاء، ج.18، ص. 230.

[14] سير أعلام النبلاء، ج.18،ص231.

[15] السياق لتاريخ نيسابور، ج.1، ص.365. تبيين كذب المفتري فيما نسب للأشعري ص271.

[16] طبقات ابن الصلاح: 2ج. ص.، 562.

[17]  دمية القصر وعصرة أهل العصر، ج. 2،ص. 993.

[18] وفيات الأعيان، ج. 3، ص.205.

[19]  ـ مدخل إلى عتبات النص، دراسة في مقدمات النقد العربي القديم، عبد الرزاق بلال، إفريقيا الشوق، ص.23ـ 24

[20]  الرسالة القشيرية، ص. 3.

[21]  ـ مقاربة أوليه لكيفية اشتغال المقدمة في الخطاب النقدي القديم، المصطفى الشاذلي، مجلة علامات، ج.29، سبتمبر 1998، ص.303

[22]  ـ مدخل إلى عتبات النص، ص. 39ـ 40ـ 41

[23]  ـ  مدخل إلى عتبات النص، ص.28

[24] الرسالة، ص.3.

[25]  الرسالة القشيرية، ص. 8.

[26]  سورة طه، اللآية : 5.

[27] الرسالة القشيرية، ص.9.

[28]  ـ معجم ألفاظ الصوفية، حسن الشرقاوي، مؤسسة مختار للنشر، ط.1.، 1987، ص.7.

[29]  الرسالة القشيرية، ص.64.

[30] الرسالة القشيرية، ص.342.

[31] الرسالة القشيرية، ص.338.

[32] الرسالة القشيرية، ص.351.

[33]  الرسالة القشيرية، ص.242.

[34] الرسالة القشيرية، ص. 243.

[35] الرسالة القشيرية: ص.238-239

[36] الرسالة القشيرية،ص. 239.

[37]  الرسالة القشيرية، ص. 239.

[38] الرسالة القشيرية، ص.239.

[39]  الرسالة القشيرية، ص. 239.

الصفحة السابقة 1 2

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق