مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

قبس من منهج الصحابة في طلب العلم وتحصيله

   بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمْد لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّد الأولين والآخِرين، وعلى آل بيته الطَّيبين الطَّاهرين، وأَزْوَاجه أُمَّهات المؤْمِنين، وأَصْحَابه من الأنْصَار والمُهَاجِرين.

وبعد؛

لقد كان للصحابة الكرام رضي الله عنهم اعتناء بالعلم، وقد رسموا لذلك منهجا في غاية الدقة، أهلهم أن ينهلوا من ينابيع المعرفة أصفاها، ومن درر العلوم أعلاها، فكان منهم العلماء الفحول، والفقهاء والعلماء الأثبات؛ ولذلك قد يتساءل كثير منا، كيف سبق الصحابة في مضمار  هذا العلم؟ وما السبيل إلى اللحاق بركابهم؟

إن هذا المقال سيحاول الإجابة عن هذا التساؤل، من خلال بيان منهج الصحابة الكرام رضوان الله عليه في النهل من العلوم والمعارف، وبيان طرائقهم القويمة في ذلك، فأقول وبالله التوفيق:

من مناهج الصحابة في تلقي العلم:

1-الإخلاص والخشية والتقوى في طلبه:

حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصون لله في طلب العلم؛ لأنهم لم يجعلوا العلم مطية لأغراض أخرى غير عبادة الله بعلم ومعرفة وخشية، وتقوى، ولهذا أثر عنهم شدة إخلاصهم في طلب العلم من ذالك:

عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «لا تعلموا العلم لثلاث: لتُماروا به السفهاء، وتُجادلوا به العلماء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم ما عند الله؛ فإنه يدوم ويبقى، وينفذ ما سواه…كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سُرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تُعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض»[1].

وعنه أيضا رضي الله عنه، قال: «من طلب العلم لأربع دخل النار – أو نحو هذه الكلمة – ليُباهي به العلماء، أو ليُماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أو ليأخذ به من الأمراء»[2].

وعنه أيضا رضي الله عنه ، قال: «ليس العلم بكثرة الرواية؛ ولكن العلم الخشية»[3].

 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾[4]، قال: من يخشى الله فهو عالم»[5].

2- كثرة المذاكرة والحفظ له:

من منهج الصحابة في طلب العلم كثرة المذاكرة له، والحرص على حفظه وتثبيته في الصدور؛ حيث نجد في سير علماء الصحابة رضوان الله عليهم أنهم لم يتوانوا في يوم من الأيام في الاعتناء بمذاكرة العلم وحفظه، وأُثِرت عنهم أقوال تَحُثُّ على ذلك منهم: أنس بن مالك، وعلي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس…وغيرهم رضوان الله عليهم.

قال أنس بن مالك رضي الله: «كنا نكون عند النبي ﷺ فنسمع منه الحديث؛ فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه»[6].

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «تزاوروا وتذاكروا هذا الحديث؛ إن لا تفعلوا يُدرس»[7].

وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «تزاوروا وتذاكروا فإن الحديث يُذَكر الحديث»، وقال أيضا:  تذاكروا فإن الحديث يُهيج الحديث»[8].

وقال ابن عباس رضي الله عنه: «إذا سمعتم مني حديثا فتذاكروه بينكم؛ فإنه أجْدر وأحْرى ألا تنسوه»[9]، وقال أيضا: «تذاكروا الحديث لا يتفلت منكم إنه ليس بمنزلة القرآن؛ إن القرآن محفوظ مجموع»[10].

3- التفرغ التام لطلبه وعدم الانشغال عنه بغيره:

من منهج الصحابة في طلب العلم الحرص على التفرغ له كلية، وترك مشاغل الحياة التي تلهي عنه جانبا؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضُرُ ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون»[11].

4- اعتماد أسلوب المناوبة في طلبه:

من منهج الصحابة الكرام في طلب العلم التناوب في طلبه؛ فإذا تعذر تفرغ الصحابي للعلم فإنه يسلك مع أخيه أسلوب المناوبة في طلب العلم، فعن  عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: «كنت أنا وجارٍ لي من الأنصار، في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزل جئتُه بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك»[12].

5- اعتماد منهج تقييد العلم وكتابته:

من منهج الصحابة الرائد في طلب العلم الاعتناء بتقييده، وكتابته، وضبطه في كتاب حتى لا يضيع، وإن كان اعتمادهم على حفظ الصدور هو المقدم؛ بيد أن كتابته تزيد من ضبطه ، ولهذا أثرت أقوال عنهم تحث على كتابة العلم، وتقييده من ذلك:

عن عمر بن الخطاب وابنه عمر رضي الله عنهما، قالا: «قيِّدوا العلم بالكتاب»[13]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب الحديث، ولا أكتب»[14].

6-  الحرص على الرحلة في طلبه:

من منهج الصحابة الذي ضربوا فيه بسهم وافر، واعتنوا به، الرحلة في طلب العلم، وتحمل المشاق والصعاب لجمعه، وحفظه؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولا أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه»[15].  

و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: «بلغني حديث عن رجل سمِعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريتُ بعيرًا، ثم شددتُ عليه رحلي، فسرتُ إليه شهرًا، حتى قدمتُ عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلتُ للبواب: قُل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلتُ: نعم، فخرج يطأُ ثوبه، فاعتنقني واعتنقتُه، فقلتُ: حديثًا بلغني عنك أنك سمِعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيتُ أن تموتَ، أو أموتَ قبل أن أسمعه»[16].   

7- العمل به :

من منهج الصحابة الرائد العمل بما تعلموه من علوم الشريعة، ويمارسونه في  واقعهم ومعاشهم اليومي، فكانوا يتعلمون القرآن والسنة ويطبقون أحكامهما وما فيهما من أوامر ونواهي؛ ولم يكن قصدهم من العلم مجرد الرواية والتلقي والحفظ، وإنما غايتهم القصوى منه العمل به؛ ولهذا أثر عنهم الدعوة الشديدة للعمل بالعلم، وعدم الاقتصار على روايته، وذم من تعلق بالعلم وترك العمل من ذلك:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعبد الله بن سلام رضي الله عنه: «مَنْ أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون بما يعلمون»[17].

 وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: «يا حملة العلم، اعملوا به؛ فإنما العالم من عمِل بما علِم، ووافق عملُه عِلمَه»[18].

 وعنه قال رضي الله عنه: «تعلَّموا العلم تُعرَفوا به، واعمَلوا به تكونوا من أهله»[19]، وعنه رضي الله عنه، قال: «هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلَّا ارتحل»[20].

 وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «تعلَّموا العلم، فإذا علمتم فاعملوا»[21]، وعنه أيضا قال رضي الله عنه: «كان الرجل منا إذا تعلَّم عشر آيات، لم يجاوزهنَّ حتى يعرِف معانيهن والعمل بهنَّ»[22]، وعنه رضي الله عنه قال: « قال ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصحته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون»[23]،  وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: «إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار»[24].

 وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: « إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي: قد علمت فما عملت فيما علمت؟ »[25] .

هذا قبس قليل من منهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في طلب العلم، أهلهم أن يتبوؤا مكانة سامقة في العلوم والمعارف، ويصبحوا سادة الناس في العلم والعمل، فما أحوجنا للتأسي بهم، والنهج على منوالهم، للننال شرف الانتماء والانحياش في ركبهم.

والحمد لله رب العالمين

*********************

هوامش المقال:

[1]–   أخرجه الدارمي في سننه (275).

[2]–   أخرجه الدارمي في سننه (397).

[3]–   حلية الأولياء (1 /131).

[4]–  فاطر: 28.

[5]–   أخرجه الدارمي في سننه (359).

[6]   الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب البغدادي (1 /236).

[7]   الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب البغدادي (1 /236).

[8]   الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب البغدادي (2 /267).

[9]   الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب البغدادي (1 /237).

[10]   الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب البغدادي (1 /547).

[11]–   أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: حفظ العلم (118).

[12]–   أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: التناوب في العلم (89).

[13]–   حديث عمر أخرجه الدارمي في سننه (536)، وحديث ابنه عبد الله أخرجه الدارمي في سننه (537).

[14]–   أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: كتابة العلم (113).

[15]–   أخرجه البخاري في كتاب: فضائل القرآن، باب: القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (5002)، ومسلم  في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله عنهما (رقم 2463).

[16]–   أخرجه أحمد في المسند (25 /431)(16042).

[17]–   أخرجه الدارمي في سننه (616).

[18]–   أخرجه الدارمي في سننه (412).

[19]–   أخرجه الدارمي في سننه (279).

[20]–   أخرجه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل (40).

[21]–   أخرجه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل (10).

[22]–   مقدمة تفسير القرآن العظيم (1 /8).

[23]–   التبيان في أخلاق حملة القرآن للنووي(ص: 54).

[24]–   التبيان في أخلاق حملة القرآن للنووي(ص: 54).

[25]–   أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (34598).

*****************

ثبت المصادر:

اقتضاء العلم العمل: لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، ت: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط4، 1404هـ/1984م.

التبيان في آداب حملة القرآن: لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، حققه وعلق عليه: محمد الحجار، دار ابن حزم، بيروت، ط3، 1414 هـ – 1994 م.

تفسير القرآن العظيم: لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، ت: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2، 1420هـ /1999م.

الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه: لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 1423هـ/2002م.

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع : للخطيب البغدادي تحقيق: د. محمود الطحان ، مكتبة المعارف ، الرياض ، 1403ه‍ – 1983م .

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم احمد بن عبد الله الأصفهاني، مكتبة الخانجي، القاهرة، ودار الفكر، بيروت، ط1،  1416هـ/1996م.

مسند أحمد بن حنبل: لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال  الشيباني المروزي، ت: شعيب الأرنؤوط، وعادل مرشد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 14116هـ/ 1995م.

مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي: لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهرام بن عبد الصمد الدارمي، دار التأصيل، ط1، 1436هـ/2015م.

المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله ﷺ: لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، ط1، 1427هـ/2006م.

المصنف: لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، ت: محمد عوامة، دار القبلة، جدة، ومؤسسة علوم القرآن، بيروت، ط1، 1427هـ/2006م.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق