مركز الدراسات القرآنيةدراسات محكمة

قبسات من الوحي (3): الوحدة القياسية على المستوى الفردي

لقد ساد بين المسلمين في الأزمنة الأخيرة من تاريخهم، على خلاف ما كان عليه الأمر في عهد الصحابة الكرام رضي الله عنهم، التعامل التبركي مع آثار ودلائل النبوة وشمائل النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة عليه الصلاة والسلام. وفي ذلك خير كثير في ذاته، غير أنه لو شُفِع بالوظيفية لكان الخير أعم وأتم، ونقصد بالوظيفية هنا أن يتم طرح الأسئلة العملية على آثار النبوة من أجل تبين أوجه الشهادة النبوية في مجال مخصوص. وتحديد منهجية الرد إلى الوحدة القياسية..

وهي أسئلة لا يمكن طرحها بطريقة سليمة إلا من لدن العالمين بالمجال قيد الدرس، إذ العلم بالمجال هو الذي يمكن من تلمس مواطن الهدي النبوي فيه للتأهيل الناجم عن استتباب التضاريس المعرفية والمركبات المفاهيمية والأنساق القياسية ذات الصلة بالمجال في أذهان المشتغلين به. مما لا ينتج إلا بطول الممارسة للبحث في مجال معين والتعاطي مع المشاكل المنهجية التي فيه.

ففي التربية مثلا، لن يكون أقدر على مساءلة آثار النبوة في هذا المجال من التربويين، لمكابدتهم له ولمعاناتهم البحثية داخله، معاناة تنشئ الشوق والتوق وكذا الاستعداد لوجدان الحلول.

وهل أقدر على استجلاب الدر من أعماق البحار ممن يعرفه ويعرف قيمت؟!

وأجلى مثال على ذلك في مجال التربية محاولة الجواب عن السؤال المؤرق الذي مفاده: من هو الإنسان الأمثل الذي ينبغي أن يكون القطب الجاذب للمناهج والبرامج التربوية؟ بحيث تتغيَّى الوصول بالخاضعين للعملية التربوية إلى أفقه، دونما خشية من آثاره المضادة.

وإذ إن البشرية اليوم تعيش في حيرة بهذا الخصوص من جراء توهم عدم التوافر على مثال حي خُلو من النقائص، فإن أهل الاختصاص -بدعوى الوظيفية- يحاولون النظر في ما هو متعارف على كونه مشروعا مجتمعيا لاستخلاص مختلف الاحتياجات في الموارد البشرية ثم لتصيير تيسير هذه الاحتياجات وتوفيرها أهدافا تربوية تسكب في البرامج التربوية وتبدع مناهج تربوية وتُصمَّم لتحقيقها.

وإذا علم أن المشاريع المجتمعية نفسها ناتج التدافع بين موازين القوى في المجتمعات فإن الأمر يصبح أكثر تركيبا وتعقيدا..

فالأقوى والأكثر نفاذا هم الذين يصوغون معالم المشروع المجتمعي ويشكلون العقول لقبوله، وذلك عن طريق خماسي: الإبستيم والأكاديم والاقتصاد والسلطة والإعلام.

– فالابيستيم الذي يجمع بين الرؤية للعالم (الكوسمولوجيا) والأطر المرجعية/البرادغمات (Paradigma) واليوطوبيا والمنهاجية.. إما أن يكون وليد: انطلاق استنباطي من الوحي. أو توليد فلسفي مقولاتي نسبي حر. أو إملاء متحكم (نومونكلاتورا) يفرض ما يريد مثل ما نقل عن فرعون في كتاب الله: (قال فرعون ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) [سورة غافر/الآية:29].

وجلي أن النمط الأخير هو السائد في عالمنا بألطف الطرق وأدقها أحيانا وبأصفقها وأعنفها أحيانا أخرى.

– فبما أن الأكاديم يأتي في الدرجة الثانية ضمن النمط الإملائي التحكمي بخلاف النمط الاستنباطي من الوحي والنمط الفلسفي المقولاتي النسبي الحر حيث يكون الإبيستيم متفرعا عن الأكاديم، بما أن الحال كذلك في النمط الإملائي التحكمي.. فإن الفرد المتحكم أو الجماعة المتحكمة تكون هي المنتجة للإبستيم والفارضة له على الآخرين. وهذا لا يُخلى بحال ساحة الخاضعين من المسؤولية. يقول سبحانه: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الاَنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، أم اَنا خير من هذا الذي هو مهين، ولا يكاد يبين، فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب اَو جاء مع الملائكة مقترنين، فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين) [سورة الزخرف/ الآيات: 51-54]

– ويأتي دور المكون الاقتصادي الذي يكون عموما بأيدي فارضي النوموكلاتورات بتصيير الأكاديم في وضع التابع حتى في عين كينونته، إذ التمويل للجامعات ومراكز البحث والأبحاث التي تجرى فيها يصبح مشروطا بالسير في سياق الإبستيم السائد – رغم أن الحق مع موسى عليه السلام!

– فيقع الأكاديم في التنظير لأنماط التوجهات والسلطة المادية والمعنوية والدساتير والقوانين والوسائل الممكنة من حماية وتنزيل الإبيستيمات السائدة فهي حماية متبادلة بين السلطة والإبيستيم المسخر للأكاديم.

– ليرفد الأكاديم بعد ذلك الإعلام بحمولاته الداعية إذ لن ينتج الأكاديم في هذه الحال إلا التوجهات والرؤى المتفرعة عن الإبستيم الحاكم.

فهذه حلقة مفرغة محكمة قادت وتقود العالم نحو أزمات صفيقة، وآية إفراغها وإحكامها أن المشاريع المجتمعية التي من المفروض أن تستهدي بها علوم التربية في وضع البرامج والمناهج التربوية لن تمنح سوى هذا الهدي التحكمي المفرغ للإنسان من إنسانيته.

ومن هنا فإنه لا سبيل للخروج من هذه الأزمة إلا بالتعرف على الإنسان الشاهد -الوحدة القياسية- الذي يمثل حالة السواء، والذي من خلال التعرف على بنائه النفسي والشخصي والقصدي يمكن الشروع في العمل على إنتاج العلوم الوظيفية والمناهج العملية الممكنة من رد الاختلالات إلى حالة السواء؛ وهنا الدور المحوري الخطير لوظيفة النبوة ووظيفة الذكر الذي تأتي به متى ما حلَّ الرشد في التعامل معهما والتأسي بهما.

فالتعرف على حالة السواء -كما تقدم- يمكن من تجريد المثال التفصيلي الذي ينبغي أن يشمّر من خلال البرامج والمناهج للسير بالمتربين نحوه بغير عِوج ولا أَمْت. وهذا مضمار -في علوم التربوية- للبحث والإبداع فسيح خصيب.
ودائما في علاقة بالوحدة القياسية على المستوى الفردي فإن علم النفس وعلم النفس السلوكي وعلم التحليل النفسي كلها علوم تعاني الأمرَّين لغياب العلم بماهية حالة السواء، ولا شك أن أهل هذه المجالات إن أعملوا عقولهم ووجداناتهم لتجريدها من آثار النبوة، فسوف يحلُّون إشكالات أليمة ومكلِّفة.

إن إنعام الله بأن تولَّى سبحانه في مرحلة الختم بذاته العليَّة حفظ الذكر: (إنَّا نحن نزَّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون) [سورة الحجر/الآية:9]

فحفظت بذلك آثار النبوة المنيرة، واستمر إمكان التعرف على النبي الشاهد وعلى حالة السواء من خلاله..

إن هذه النعمة الجُلَّى إن شكرت بحسن التوظيف والتثمير، ولم تُكفر بالإنكار والاستهتار لمن شأنها أن تهدي العالمين إلى مستقبلات أكثر إشراقا.

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق