مركز الدراسات القرآنيةدراسات محكمة

قبسات من الوحي (14): منهجية التصديق

إن أفق الإعمال الأوفق لمنهجية التصديق والهيمنة، كما تم بسط مفهومها، والاستكشاف لمعالمها، يستدعي استحضار خمسة شروط، وهي:

الشرط الأول: والأساس هو شرط اعتقاديّ بامتياز؛ اعتقادي بحيث يعتقد الباحث اعتقادا جازما أنّ القرآن المجيد كلام الله عز وجل ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ (فصلت:42)، ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام:38)، ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل:89)، فتتوفر عنده ضمن هذا الشرط مجموعة من المنطلقات التي تُلزمه بالجدّية القصوى وهو يبحث في القرآن المجيد، وتُلزمه بأن يحشد كل طاقاته وكل نباهته، وأنْ يتوفز كل توفز قبل أن يدخل إلى عالم القرآن المجيد، فيكون توفزه أكبر من توفز الباحث الذي يدخل إلى مختبره، ومن توفز الطبيب الذي يدخل إلى عملية جراحية مما من شأنه أن يجعل نتائج البحث أبرك إن شاء الله.

الشرط الثاني: إنْ أردنا أنْ نبحث في قضية الهيمنة بطريقة تأسيسية، وجب أن ننظر في القرآن المجيد باعتباره بناء، وأن لا يتم إغفال هذه البنائية أوالذهول عنها، إذ هما إغفال وذهول مُدخِلان في اللوم الموجّه إلى ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ (الحجر:91)؛ وإسقاط في التعضية والتفريق والتمزيع في القرآن المجيد وفي عدم الدخول إليه باعتباره بناءً متماسكا، ترتيلا ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ (الفرقان:32) ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ (المزمل:4) أي اعتبر أيها المتعامل مع القرآن المجيد هذه البنائية ولا تُهمل منه كلمةً ولا حرفا.

وهنا أريد الإشارة إلى نموذج مفاهيمي معرفي قد تسرب إلى عقول بعض علمائنا فأصبحوا بمقتضاه ينظرون إلى القرآن باعتبار أن آياته التي تحتها عمل لا تتجاوز الخمسمائة آية على أكثر تقدير، ويسمّونها آيات الأحكام، من مجموع عدد آياته الستِّ وثلاثين ومائتين وست آلاف (6236)، فأين ذهبت الآيات الأخر؟ وما هي تجلياتُ ربانية مصدرها؟ وما هو الهدى الموجود فيها؟

مقابل هذا المنظور التي يستبطن ـ بدون وعي ـ الكثير من الانتقاء ومن الإقصاء المسبق، نجد أنّ كل حرف من القرآن المجيد فيه هدى وفيه رشاد وفيه نور، ولعل هذا من الحكم الكامنة وراء وجود الحروف المقطعة في فواتح بعض السور. وبالتالي فحين نؤمن ونسلّم بأنّ القرآن بناء، سوف نراجع وننقد مناهجنا القائمة في أفق المواءمة المنهجية مع هذه البنائية المباركة.

الشرط الثالث: وهو فرع عن الثاني، ومفاده وجوب تتبع المصطلحات قيد الدراسة في كل مواطن ورودها، واعتبار السياقات التي يتم فيها هذا الورود قبل أي تعريف لهذه المصطلحات.

الشرط الرابع: ضبط الضمائم، فإذا تم الذهول عن حقيقة أنّ الكلمة في القرآن المجيد تكون لها ضمائم كما تكون لها نظائر تلقي عليها أضواء إضافية، وإنْ لم يتم النظر في كل هذه المرافقات والمحتوشات التي تُحيط بالكلمة المصطلح فإن الباحث وإن اعتبر السياق ونظر في كل الشروط التي سلفت قد يفوّت الشيء الكثير.

الشرط الخامس: أن يكون لدى الباحث وضوح في القضايا التي يريد أن يستنطق بخصوصها القرآنَ المجيد في علاقته بالهيمنة، إذ حين اتضاح هذه القضايا فإنها تكون بمثابة التضاريس الفكرية والنفسية والوجدانية التي من شأنها أن تمكّن الدارس من التقاط ما يتعلق بالمواضيع المبحوث فيها من إشارات، وإلا فسوف تغلب على البحث العموميةُ والسطحية.

فالإنسان الذي قد اشتغل في التربية مثلا ووقف على بعض إشكالاتها وأدرك الأمور التي تقتضي الحل، ووقف على حيثيات التربية، يكون أكثر استعدادا لتلقي الإشارات والآيات الموجودة في القرآن المجيد بخصوص هذه المسألة. أما إذا دخل خالي الذهن فإنّه سوف يتخطّف بقضايا كثيرة ومتعددة، ولن يكون الاستنطاق للقرآن المجيد بخصوص الهيمنة في مضمار التربية كما هو مرجو، بمعنى أنّ بناء هذه التضاريس التي سوف تلتقط الآيات المتعلقة بالقضية المدروسة لابد منه بين يدي الدخول إلى عالم القرآن الرحيب لبحثها.

الشرط السادس: وهو مسألة النماذج المعرفية، أو الأنساق القياسية، أو الأطر المرجعية التي ينطلق منها الباحث؛ فإن كانت مُغلَقة فاته الكثير، بخلاف الأمر إنْ دخل وهو مُطَّرِحٌ بين يدي كتاب الله عز وجل، مستعد لأنْ يتجاوز ما في ذهنه من الأطر المرجعية والأنساق القياسية والنماذج المعرفية وأبنية أخرى جديدة بحيث ـ وهو يبحث ـ تكون هناك هيمنة ذاتية.. مع ضرورة استدامة الانفتاح والحفاظ على الوعي التّام بأنّه إنسان محدود وبأن هذه المحدودية تقتضي التكملة.

الشرط السابع: الذي لابد منه أثناء بحث قضية الهيمنة في القرآن المجيد، هو أن تكون مستحضرا في كل لحظة كونكَ إنساناً تنتمي إلى الأسرة الآدمية الممتدة عبر الزمان والمكان وأنك تشكل معها وحدة وتعيش معها تحديات مشتركة لابد من العمل المتظافر لرفعها، مما يجعل منك كائنا كونيا يتبنّى هموم العالمين في كافة امتداداتهم، وهذا تنتج عنه حالة من المشاركة الوجدانية تساعد على تَلقِّي إشارات القرآن الكريم بخصوص الهيمنة، إشارات لا سبيل إلى تلقيها في غياب هذا الشرط النفسي والوجداني.

وهذا الشرط يعدّ ـ في اعتباري ـ بمثابة الإطار العام المحدّد للوجهات التي سوف ينطلق فيها الباحث حين يكون منفتحا على هموم العالمين، ويكون عنده كل الافتقار وكل الإدراك اللذين مضت إليهما الإشارة.

فإذا تدبرت ـ على سبيل المثال ـ مفهوم الطلاق وكيف تمّ التصديق والهيمنة بخصوصه في القرآن على ما سلف، ثم نظرت في سياقات دينية وحضارية حُظر فيها الطلاق سوف تتجلى أمامك الهيمنة على هذه المفاهيم المستقرة، وسوف تكتشف كيف أنّ القرآن المجيد قد قوّى هذا الرباط المبارك المتصل بصناعة الحياة؛ رباط التزويج، بفتحه لإمكان مفارقة الرفيق متى ما أصبحت الحياة المشتركة متعذرة لسبب أو لآخر، درءا لدواعي اللجوء إلى ما لا يحل، وهو لجوء عادة ما تفضي إليه التدينات التي لا تتيح هذه المكنة باليسر وكذا الاحتراز الموجودين في شرعة الإسلام، وهذا مما يؤهل الباحث لأن يكون أقرب نفعا للعالمين من خلال إفاضة وتعدية هدى كتاب الناس إلى الناس.

Science

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق