مركز الدراسات القرآنيةدراسات محكمة

قبسات من الوحي (11): مكونات المنهج النقدي في القرآن الكريم (2)

سبق الحديث في الحلقة (10)  على أننا إنْ تتبّعنا مثلا ما قام به الصحابة الكرام، والتابعون وأتباع التابعين، فسوف نجد أن التعارك والتفارك والتشاحذ كان سمة من سمات البحث في مجالات التيسير البارزة.

    كما نجد أنّ العلماء الذين تلوا قد زادوا وأضافوا وشحذوا آراءَ هؤلاء الأئمة الأعلام وغيرهم ممن نذكر في هذا المقام، إلى أن أتت علينا أحيان من الدهر أصابت فيها هذه الدينامية أضرب من الجمود تخللتها طفرات؛ مثل طفرة العزّ بن عبد السلام (ت660هـ) في “الإحكام في مصالح الأنام” أو طفرة ابن تيمية (ت728هـ) وتلميذه ابن القيم (ت751هـ) أو طفرة الشاطبي (ت790هـ)، وبعد ذلك آخرين مباركين.

    لكنّها تبقى طفرات، إذ لم يبق البحث بنفس العرامة والاستمرارية التي كان عليها، بيد أنه استمر في مجالات التسخير إلى درجة أنّك اليوم إنْ أنت ذهبت إلى طبيب تريد الاستشفاء وأخرج لك كتاب “الحاوي في الطب” للرازي، أو كتاب “القانون” لابن سينا ليداويك بمقتضياتها فإنّك سترفض، لوعيك أن نقلات نافعة ومقدّرة قد حدثت في هذه العلوم. وهنا وجب التنبيه على أمر هام، وهو أنّ ثمة ثوابت، وأنّ هذه الثوابت قامت عليها الأدلة، ومن ثم فهي أجزاء لا تتجزأ من علوم الوحي ومعارفه، فهي الأسس التي تحمل البناء كله، ومن ثم فهي لا تدخل في هذا الصدد إلا من حيث وجوب بذل المزيد من الجهد لاستبانتها وفقهها، غير أن هناك في هذه المعارف أقضية ومسائل كثيرة قابلة للاجتهاد والنظر وجب طبعا أن تُقدّر بقدرها في استحضار لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾(الإسراء:36).

    إذْ أوضحنا هذه الأمور الثلاثة التي تؤطر منهج تعاملنا مع هذه القضية، فإننا نُريد بعون الله أن نتناول المنهج النقدي في القرآن الكريم، من مدخل واحد سوف نقتصر عليه للضرورة وللإكراهات المقامية وهو “مدخل التصديق والهيمنة”. فمع أن هناك آيات كثيرة في القرآن المجيد تتحدث عن التصديق، إلا أننا لا نجد إلا آية واحدة في سورة “المائدة” تشتمل على التصديق والهيمنة مقترنين، وهي قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾(المائدة:48). وهذا المدخل لم يعط بعد حقه من الاستكشاف ومن البحث لإبراز خصيصة الاكتمال في الوحي الخاتم، والتي جاءت إليها إشارات واضحة في كل من القرآن الكريم والسنة المطهرة.

الكتاب المبين

    ففي القرآن نجد كلمة “أحسن” في قوله تعالى: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾(الزمر:23)، وفي قوله سبحانه: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾(الزمر:55)؛ تدلّ على أن هذا الوحي قد أذن منـزله بارتقائه إلى مرحلة أصبح فيها الوحي الأحسن والأمثل والأكمل. وهذا هو الذي يبرز مثلا من خلال تسمية كتاب نبي الله موسى وأخيه هارون  ﴿الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ﴾(الصافآت:117)، في حين أن القرآن المجيد سمي كتابا مبينا ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾(المائدة:15)، أي إنه قد وصل إلى درجة الإبانة المطلقة.

    وفي السنة نجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يُشبّه النبوة كلها بالبناء المكتمل أيضا في قوله عليه الصلاة والسلام: “إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وُضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين” (رواه البخاري).

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق