مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

قال الشيخ خليل كاشفا عن بعض أسرار الحج:

قال الشيخ خليل كاشفا عن بعض أسرار الحج:

“اعلم نور الله قلبي وقلبك، وضاعف في النبي المصطفى حبي وحبك، أن الحج محتو على أحكام عديدة، وقل من تعرض لها من المصنفين:

 فأولها أن الله تعالى شرف عباده بأن استدعاهم لمحل كرامته، والوصول إلى بيته، ولما كان الله تعالى منزها عن الحلول في محل إقامة البيت الحرام مقام بيت الملك، فإن الملك إذا شرف أحدهم دعاه لحضرته، ومكنه من تقبيل يده، وأمره باللياذ به، وجدير به حينئذ أن يقضي حوائجه، وكذلك الله تعالى استدعى عبيده لبيته الحرام، وأمرهم باللياذ به، وأقام الحجر الأسود مقام يد الملك فأمرهم بتقبيله، وأمرهم بطلب حوائجهم؛ إذ كان اللائق بملوك الدنيا قضاء الحوائج في هذه الحالة، فكيف بملك الملوك، المعطي بغير سؤال، وشرع الغسل عند الإحرام؛ لأن من استدعاه الملك ينبغي أن يكون على أكمل الحالات، ويطهر قلبه ولسانه؛ لأن الظاهر تبع للباطن، فإذا أمر بتطهير الظاهر فالباطن أولى، وشرع خلع الثياب إشعارا بحالة الموت؛ ليتخلى عن الدنيا ويقبل على باب ربه وعبادته؛ لأن نزع ثيابه كنزع ثياب الميت على المغسل، ولبس ثياب الإحرام كلبس الأكفان، وتشبيها بنبيه سيدنا موسى عليه السلام لما قدم على المناجاة قيل له: (اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى)، والحاج قادم على الأرض المباركة المقدسة، ثم قصد بمخالفته حالته المعتادة ليتنبه لعظيم ما هو فيه، فلا يوقع خللا ينافيه، ثم أمره بالإحرام لأنه لما دعي وأتى مجيبا قيل له قدم النية وأظهر ما أتيت إليه، فقال: لبيك إجابة بعد إجابة، وأمره أن لا يفعل ذلك إلا بعد الصلاة؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فكأنه قيل له انته عن الرعونات البشرية، وتهيأ على الإقدام لله تعالى، وقد أمر الله تعالى سيدنا موسى عليه السلام قبل مناجاته بصيام أربعين يوما، لكن لما علم منك أيها العبد من الضعف ما علم لم يأمرك بذلك، واكتفى منك بالصلاة مع حضور القلب وترك ما نهاك عنه، ثم جعل ميقاتين زمانيا ومكانيا إشارة إلى تعظيم هذه العبادة، وأن العبد يحصل له بها الشرف، فإنه إذا أعطي الزمان والمكان شرفا وحرمة بسبب القرب وهما مما لا يعقل، كان العبد أولى، وأمر عبيده بترك الرفاهية وإلقاء التفث؛ إشارة إلى حظوظ النفس، وأن العبد إذا قدم على مولاه لا يأتيه إلا خاضعا ذليلا، ولا يشتغل بغير الله.”

“ونهى العبد عن الصيد إشارة إلى أن من دخل الحرم فهو آمن؛ ولطمع العبد حينئذ في تأمين مولاه، وشرع الغسل لدخول مكة إشارة إلى تطهير قلبه مما عساه اكتسبه من حال إحرامه إلى وقت الدخول في محل الملك، وأنه لا ينبغي أن يدخل إلا بعد تصفيته من جميع الأكدار، وشرع طواف القدوم إشارة إلى تعجيل إكرامه؛ لأن الضيف ينبغي أن يقدم إليه ما حضر، ثم يهيأ له ما يليق به.

 وكان سبعة أشواط؛ لأن أبواب جهنم سبعة، فكل شوط يغلق عنه بابا، ثم يركع بعد الطواف زيادة في القرب والتداني؛ لأن أقرب ما يكون العبد من مولاه وهو ساجد، وأمره بعد ذلك بالسعي والبداية بالصفا؛ إشارة إلى أن العبد إذا أطاع مولاه أوصلته طاعته إلى محل الصفا وصفاء القلوب، ثم أمره بالنزول والمسير إلى المروة؛ إشارة إلى أن العبد ينبغي له أن يتردد في طاعة ربه بين صفاء القلوب بخلوه مما سوى ربه وبين المروة بالسمت الحسن وترك المجانة، وأمره أن يفعل ذلك سبعا؛ إما للمبالغة في الإبعاد عن جهنم، وإما لما في السبع من الحكم التي لا يحيط بكنهها إلا رب الأرباب، جعل الأيام والأقاليم سبعا، والأفلاك سبعا، وتطور الإنسان سبعا، وطباق العين سبعا، وأمره أن يسجد على سبع، وجعل السموات سبعا، والأرضين سبعا، وجعل رزق الانسان سبعا، وأبواب جهنم سبعا، إلى غير ذلك.”

“ثم أمره بالخروج إلى منى إشارة إلى بلوغ المنى، ثم بالسير إلى عرفات؛ لأنه محل المعرفة والمناجاة تشبيها بنبيه سيدنا موسى عليه السلام، وتنبيها على شرف هذه الأمة بأن شرع لها ما شرع لأنبيائه مثله وخصها بأشياء، وأمره بالدعاء لأنه ينور القلب ويوجب انكساره وتذلله، وأباح الجمع والقصر رفقا بهم وإشعارا بإرادته طول المناجاة معهم وسماع أصواتهم، ثم أمرهم بطلب حوائجهم، ولهذا استحب لهم الوقوف ليكون أبلغ في التضرع، ثم إن وقوفهم في هذا اليوم تنبيه بوقوفهم في المحشر، ألا ترى أن بركة بعضهم على بعض هنا كبركة الأنبياء والرسل على المؤمنين يوم المحشر، قد روي أن من صلى خلف مغفور غفر له، فمن لطفه بك شرع الجماعة وحض على الإتيان إليها لعل أن تصادف المغفور له فيغفر لك، وشرع الجمعة احتياطا ليحضر أهل البلد كلهم؛ لاحتمال أن يكون في تلك الجماعة مغفور له، وشرع العيدين لهذا؛ لأنه يجتمع في العيدين أكثر من الجمعة، ثم احتاط فشرع الموقف الأعظم، ثم أمرهم بالنفر إلى منى إشارة إلى نيل المنى وإشعارا بقضاء حوائجهم، ثم أباح لهم الجمع بين المغرب والعشاء رفقا بهم، وأمرهم بالوقوف بالمشعر الحرام مبالغة في إكرامهم، كما أن الملك إذا بالغ في إكرام شخص أدخله بستانه ومقاصيره، وأمرهم بالمسير إلى جمرة العقبة ورميها بسبع حصيات؛ إشعارا بالإبعاد عن النار، إذ الجمار مأخوذة من الجمر وطرد الشيطان، إذ سبب ذلك ما قيل أن الشيطان تعرض لإسماعيل عليه السلام لما ذهب مع أبيه للذبح، وقال له إن أباك يريد أن يذبحك فاهرب منه، فأمره إبراهيم عليه السلام أن يرميه بسبع حصيات، فكأنه جل وعلا يقول يا عبادي قد شرفتكم بدخول حرمي، وأهلتكم لمناجاتي، وأدخلتكم في زمرة أوليائي، فابتدروا الجمرة بالحصى وأبعدوا عن محل من عصى وتلك الجمار فكاك رقابكم من النار، قال تعالى في صفة النار: “وقودها الناس والحجارة”، وأنتم قد بعدتم عن النار فاجعلوا مكانكم الجمرة، ثم انقلبوا إلى منى، وانحروا وكلوا واشربوا فقد بلغتكم المنى، واستحققتم القرى، وشرع لهم الهدايا إشعارا بإكرام قراهم، فإنه كذلك يفعل بالكبير، وكانت السنة الفطر على زيادة الكبد تشبيها بأهل الجنة، فإنهم أول ما يفطرون على زيادة كبد الحوت الذي عليه الأرض.

“ثم نهاهم عن الصوم ثلاثة أيام؛ لأن الضيافة كذلك، ثم شرع ذلك لأهل الأقاليم كلهم فمنعهم من صيام أيام التشريق زيادة في الإكرام للحجاج؛ لكونه أدخل سائر الناس في ضيافتهم، ولم يطلب الشرع فطر ثلاثة أيام متواليات إلا هنا، ولهذا قال بعضهم أنه لا ينبغي أن يمكث الإنسان أربعة أيام متوالية من غير صوم، ثم أمرهم بحلق رؤوسهم ليزول ما في الشعر من الدرن والعفن، وفيه إشارة إلى نبذ المال؛ لأن الشعر يقي الدماغ من البرد، كما أن المال يقي الإنسان من الفقر، ولذلك قال المعبرون من رأى أن شعر رأسه قد ذهب فهو ذهاب ماله، ثم أمرهم بلبس المخيط، وأحل لهم ما منعوا منه من النساء والطيب بعد الإفاضة؛ إشارة إلى آخر التعب في الدنيا والنصب بالعبادة، أن يدخلوا الجنة مستحلين ما حرم عليهم من الشهوات، متلذذين بالطيب والزوجات، ثم أمرهم بالرجوع إلى منى؛ ليرموا الجمرات ويكبروا في سائر الأوقات، مبالغة في الإبعاد من النار، وتعظيم الملك الجبار، وفي ذلك إشارة إلى التخلي عن الدنيا، لأن وقوفهم عند الجمرات تشبيه بوقوفهم عند الموقف الذي في المحشر، والسؤال عن كل موقف، ولتعلم يا أخي أن تكثير أسباب المغفرة دليل على أن الله رحيم بهذه الأمة، فإنه إذا أخطأ العبد سببا من أسباب المغفرة لا يخطئه سبب آخر، فنسأل الله العظيم أن يصلح قلوبنا، ويحقق رجاءنا وأملنا، وأن يقدمنا عليه وهو راض عنا، ويطهر قلوبنا من رعونات البشرية، فإنه قادر على ذلك اهـ”

كتاب مناسك الحج: للشيخ خليل بن إسحاق المالكي ص93-99

تقديم وتحقيق الدكتور الناجي لمين

منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث

الرابطة المحمدية للعلماء الرباط المغرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق