مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

قالوا في الموطأ 4

  

 يقول السيد محمد بن علوي المالكي الحسني -رحمه الله-:

        «قلت: ويمكن أن أجمع ما سبق في هذه النقاط:

الأولى: أن النووي يرى أن “الموطأ” صحيح، وأنه أول ما صنف في الصحيح، لذلك قيد أولية البخاري بقوله: “الصحيح المجرد”، فيستفاد من كلامه: أن أول من جمع من الصحيح مجردا عن الكلام والفروع والآثار؛ هو البخاري، وأول من جمع الصحيح غير مجرد عن ذلك؛ هو مالك، فكأنه جمع بين القولين.

الثانية: أن العراقي لم يرتض هذا الجمع، ولعله يرى عدم صحته كله، لذلك قال: «إنه لم يُفرد الصحيح، بل فيه أنواع الضعيف»، وأنه يقول: وما شأنه كذلك لا يسمى صحيحا. وإذا ثبت هذا؛ فلا حاجة للجمع بين القولين، وتبقى أولية “صحيح البخاري” مطلقة بدون تقييد. هكذا يُستنبط من كلامه.

الثالثة: ردُّ الحافظ مغلطاي على اعتراض العراقي بأنه يوجد في “صحيح البخاري”، مثل ما انتقده العراقي على “الموطأ” من منقطعات وبلاغات.

الرابعة: أفاد كلام ابن حجر الردّ على مُغْلطاي مؤيدا كلام العراقي، فقال بالفرق بين ما في “الموطأ” من المنقطع، وبين ما في “البخاري”، وأن هذا يعني أن ما في “البخاري” حُذف إسناده قصدا للتنويع، أو التخفيف.

قلتُ: لكن السيوطي تعقب ابن حجر فقال:

«ما في كتاب مالك من المراسيل، فإنها مع كونها حجة عنده وعند من وافقه من الأئمة من الاحتجاج بالمرسل، هي أيضا حجة عندنا، لأن المرسل عندنا حجة إذا اعتضد، وما من مرسل في “الموطأ” إلا وله عاضد، أو عواضد، فالصحيح إطلاق أنّ “الموطأ” صحيح لا يُستثنى منه شيء ».اهـ.

قلت: وأشار السيوطي إلى ذلك في “ألفيته”:

أول جامع الحديث والأثر

ابنُ  شهاب  آمراً  لـه  عـمـر

وأول  الجامع  لـلأبـواب

جماعة في العصر ذو اقتراب

كابن جُريج وهُشَيم مالك

ومـعـمـــرٍ  وولــد  الـمـبـارك

وأول  الجامع  باقـتـصار

على  الصحيح  فقط البخاري

 

فقرر في هذه الأبيات ما أشار إليه النووي بقوله السابق من أن “البخاري” أوّل من جمع الصحيح مجرّدا، وتعقب الشيخ صالح الفُلاني أيضا ابن حجر في كلامه السابق.

فقال في بعض تعليقاته على “ألفية السيوطي”: «وفيما قاله الحافظ ابن حجر من الفرق بين بلاغات “الموطأ”، ومعلقات “البخاري” نظر، فلو أمعن النظر في “الموطأ” كما أمعن النظر في البخاري؛ لعلم أنه لا فرق بينهما. وما ذكره من أن مالكا سمعها كذلك غير مسلّم، لأنه يذكر بلاغا في رواية يحيى مثلا، أو مُرسلا فيرويه غيره عن مالك موصولا مسندا، وما ذكر من كون مراسيل “الموطأ” حجة عند مالك ومن تبعه دون غيرهم، مردود بأنه حجة عند الشافعي وأهل الحديث، لاعتضادها كلها بمسند، كما ذكره ابن عبد البر، والسيوطي، وغيرهما. وما ذكره العراقي أنّ من بلاغاته ما لا يُعرف، مردود بأن ابن عبد البر ذكر أن جميع بلاغاته ومراسيله ومنقطعاته كلها؛ موصولة بطرق صحاح إلا أربعة، وقد وصل ابن الصلاح الأربعة في تأليف مستقل، وهو عندي وعليه خطه، فظهر بهذا أنه لا فرق بين “الموطأ” و”البخاري”، وصحّ أنّ مالكا أوّل من صنف في الصحيح؛ كما ذكره ابن العربي وغيره.»

قلت: وقد ناقش العلامة الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى ـ شيخ مشايخنا ـ، الحافظ ابن حجر في قوله السابق، ومناقشته أوفى وأكمل.

فقال في منظومته:

فإن تقل ما جرّد الصحيحا

بحْتــا فأدخــل بـه التـرجيــحــــا

رأيا وأدخل الذي قد انقطع

مع المراسيــل التــي فيــه تــقــع

قلتُ: كذلك البخاري ذكر

لــدى التراجــم كثيــرا اشتـهــــر

مع التعاليق التي لا تُنكرُ

لكونـهــا مَتــنَ الصحيــح تُذكَــرُ

قال بذلك مُغْلَطايُ الحافظ

والفـــرق لا أصــل له يــلاحَــظُ

وكم إمامٍ ناصر لِمَا اعْتمد

لأنه فيــه علــى الحــقِّ اسْتنـــد

كنجل مرزوقٍ فقال يُبْقى

ما الشافعـــي بيّـــن فيــه الحقَّــا

ونجلُ مرزوقٍ له نظمٌ ذكَر

فـيـــه الذي أذهـبَ ذِكـرهُ الفِكَــرْ

وما به فرَقَ نَجلُ حَجَرِ

ليس بفـــرقٍ لصحيـــح النّظَــــرِ

من كونه قال البخاريُّ  تَرَكْ

إسنادَ مِثلِ ذاك عمــداً إذ سلَــــك

ومالكٌ ليس كذلك بل سمِع

هذا بإرســال لـه لا يَرْتَـــــفِــــعْ

قلتُ: تقدم جوابُ ما ذَكَرْ

من قولــةٍ أُنثـى جوابُهــــا ذكَــرْ

وهو أن كل ما فيه انفصلْ

من كل مرســل وشِبهِهِ اتَّصـــلْ

وبعضُ ما لدى البخاريِّ أقَرّ

بالعجز عن تصحيحه نَجْلُ حجَرْ

إذ كنتُ بعد ما له قد سلفا

وجدتُــــه قــال مقــالاً أَنْصَفَــــا

إذ قال مُغْلَطايُ ما قد ذكره

يقبـــل عنــد من أجـــاد نظــــره

إذ البخاري كمالك مزجْ

ما صحّ بالذي عن الشّرط خرَجْ

وبعضُ ما فيه ضعيف لا يصِحّ

وهو رجوع واعترافُ مُتَّضِحْ

فانظرْهُ في نكتِهِ الإِيْضاحِ

على ابنِ منْ سُمِّي بالصّلاحِ

 

وقال في موضع آخر بيّن فيه صحة “الموطأ”:

وكلُّ  ما  إسناده  فيه اتّصلْ

كيف رواه عنه  مَنْ عنه نَقَلْ

أخرَجهُ الشيخان وفْقا أو أحدْ

ذيْنِ  فكلُّ  واحـدٍ  قدِ  انْـفـردْ

إلاّ  نُذُوراً  كحديث الـشـهـدا

وهو  صحيح  باتفاق  عُـهِـدا

قد  قال ذلك  الإمام  النووي

إذ ليس نقْصا ترك ذين للقَوِي

وربـمـا  أخـرجـه  الـجــمـعُ

إذِ  الـمـوطَّـا  مـلـجـأٌ  رفـيـعُ

بل  أخرجوا  لمُرْسلاته وما

أشبَهَـها  مع  اتِّصال ٍ سُـلِّـمَـا

 

وقد علّق رحمه الله على بعض أبياته تعليقا موجزا بيّن فيه بعض المعاني، ولذا فإني أحبّ أن أنثر هذه الأبيات وأدمجها بما علّقه عليه في هذا النظام، ليتضح الكلام ويظهر مقصوده، إذ بيّن رحمه الله أن من يدّعي أن مالكا ما جرد الصحيح، بل أدخل فيه رأيه وكلام الفقهاء، وأدخل فيه المنقطعات والمراسيل، نقول في جوابه:

إن البخاري أيضا فعل مثل ذلك، فقد جعل من تراجمه ما يدل على رأيه ونظره. ولذلك يقولون: فقه البخاري في تراجمه، كما أنه أدخل التعاليق التي لا تُنكر لكثرتها، ولا فرق بين هذه المعلقات والمنقطعات، وبين المرسل، وهذا كلام الحافظ مُغْلَطاي، وقد نصر قوله كثير من العلماء، كالشيخ محمد بن مرزوق المالكي المعروف بالحفيد التلمساني في “ألفيته”، وهو موافق لاختيار ابن عبد البر، وأبي عثمان سعيد بن ليون صاحب “ألفية الحديث”، وابن العربي المالكي، والسيوطي.

وأما ما فرّق به الحافظ ابن حجر بين معلقات “البخاري” وبلاغات “الموطأ” ـ كما سبق ـ، فهو قول مردود بما ذكرناه من أن كل ما جاء منقطعا أو مرسلا في “الموطأ”، اتصل من طريق آخر، بل إن هناك بعض أحاديث في “البخاري”؛ توقف ابن حجر نفسه في تصحيحها.

وبعد هذا كله: فإن ابن حجر رجع عن رأيه هذا، وأيّد قول مُغْلَطاي، كما ثبت ذلك عنه في نكته المسماة بـ “الإيضاح في مقدمة ابن الصلاح” وهي حاشية مشتملة على اعتراضات أوردها على ابن الصلاح. وإليك نصُّ قوله:

قال عند قول ابن الصلاح: «إن أول من صنّف في الصحيح البخاري»: «وكأن شيخنا ـ يعني العراقي ـ لم يستوف النّظر في كلام مُغْلَطاي، وإلا فظاهر كلامه مقبول بالنسبة إلى ما ذكره البخاري من الأحاديث المعلقة، وبعضها ليس على شرطه، بل في بعضها ما لا يصحُّ، فقد مزج الصحيح بما ليس منه، كما فعل مالك».

ثم قال: «والحاصل: أن أول من صنف في الصحيح يصدُقُ على مالك باعتبار انتقاءه وانتقاده للرجال، فكتابه أصحّ الكتب المُصنّفة في هذا الفن من أهل عصره، وما قاربه» اهـ.

ثم أشار الشيخ أن كل حديث متّصل الإسناد في “الموطأ”، أخرجه الشيخان فيما اتفقا عليه، أو انفرد به أحدهما إلاّ نادرا كحديث «الشهداء سبعة، سوى القتل في سبيل الله»، فلم يُخرجه الشيخان، مع أنه صحيح كما قال النووي، بل ربما يُخرّج أصحاب الكتب الستة كثيرا من هذه الأحاديث.

وكثيرا ما يُخرّجون مُرسَله في كتبهم من طرق أخرى لهم موصولة.

                                                     (يـتـبـع)

 

فضل الموطأ وعناية الأمة الإسلامية به، ص 141 وما يليها، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثانية 1429هـ -2008م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق