وحدة الإحياءمفاهيم

في محورية السند الديني للأخلاق والقيم

يشكل الانفجار المعلوماتي غير المرشَّد، والتلوث، والتكنولوجيات القابلة للاستعمال في مختلف الاتجاهات، والاكتشافات العلمية المتيممة شطر الربح، والمنفلتة من كل كبح، والصراعات الدينية والطائفية والعرقية، والنزعات التوسعية، اقتصاديا، وسياسيا، وجغرافيا، يشكل كل ذلك اليوم، مصادر تأثير كبير على الحياة فوق كوكبنا وما حوله، وقد بات من الضروري التفكير في آليات وإجراءات للحد من الآثار السلبية لما سلف ذكره، ولضبط مناهج الكسب العلمي والاكتشافي ضبطا استشرافيا، حتى توقّع كافة أضرب النشاط الإنساني بحسب النفع، وتتجافى عن الإفساد، ولا يُتصور ذلك في انفكاك عن استحضار وعي قيمي، وأخلاقي وظيفي، مستوعب لمختلف مظاهر العطاء الإنساني، مع التكييف التفصيلي بحسب طبيعة كل منها.. في أفق استخلاص جملة من الشفرات والقوانين التنظيمية، التي تسهم في تيسير تحقيق مقاصد الحفاظ على الضروريات، من دين، وحياة، وكرامة، ونسل، وعقل، ومال، على الصعيد الكوني، مما يعتبر عملا ناجزا بسبب ما بات يتهدد النوع البشري من مخاطر آزفة، وهو لاشك عمل ينبغي تأطيره برؤى واضحة، واستراتيجيات ناهجة، وهندسات ناجعة، في مراعاة لما يحف هذا العمل من حساسيات بالغة، مما يستلزم تظافر الجهود بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، والعلماء، والمثقفين، والمربّين، والمبدعين، والمشرّعين، وكل المكلفين بالتنزيل تصميما وتنفيذا.

وجب أن يستحضر بهذا الصدد وجود جملة من المقاربات اليوم، لموضوع الأخلاق والقيم، تنظر للأديان والثقافات باعتبارها عوائق دون بلوغ التوافق الكوني في المجال القيمي والأخلاقي، مع تقديم للرفاه ومقتضياته، ومسارات البحث العلمي ونتائجه، ومكاسب التحرر وإنجازاته، على تطلبات التدين وتشريعاته، وقد استحكمت اليوم هذه المقاربات في عالمنا، وباتت تهدد بانهيار العديد من النظريات الأخلاقية، والأنساق المعيارية، والدساتير السلوكية، التي كانت إلى حدّ الآن توجه الحضارة السائدة. ولعل استشعار هذا المستقبل قيد التخلق، والتوجس من نتائجه، هو الذي يكمن وراء الاهتمام المتزايد عالميا في المحافل الأكاديمية، والمحاضن البحثية المختلفة، بمبحث القيم والفلسفات الأخلاقية، في كافة الميادين المعرفية والعلمية والمهنية، غير أننا نلاحظ -رغم كثرة ونوعية الجهود المبذولة بهذا الصدد في عالم اليوم- عدم القدرة على تجاوز عجز الكسب التحديثي عن بلورة أخلاق وقيم عقلية، تلتفّ حول الفراغ الذي خلفه تدمير السند الديني الاعتقادي للأخلاق والقيم.

لقد أثبت السند الديني للأخلاق والقيم في صيغته الإسلامية، أنه قادر على تجاوز القطيعة بين المرجعيتين الدينية والعقلية، وأنه لا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وأنه لا تعارض بين مصالح العباد، وتشريع رب العباد، فحيثما المصلحة المنضبطة بضوابطها ثمة شرع الله، وذلك من خلال ما يكنّه الوحي الخاتم من إمكانات هائلة للتوفيق بين حاجات الحرية الشخصية، وحاجات بناء السلطة، وبين ما يهدي إليه من انسجام جمالي بين الأخلاق الفردية الخاصة، والأخلاق الجماعية المشتركة، حيث لا تضيع مصلحة الفرد وحرياته، أو حقوق الجماعة وتطلباتها، غير أن هذه الآفاق رغم وضوحها من حيث المبدأ، تقتضي تشميرا تنظيريا، ومنهاجيا، وتربويا، وإجرائيا كبيرا، مما له جملة مقتضيات لا بدّ من تجريد العزم لاستجماعها واستكمالها.

وإنه لمن المطلوب اليوم بإلحاح، أن يتم شفع الجهود الهامة التي تبذل في مجال الدرس الأخلاقي والقيمي، باستنطاق صيغ الإسناد الديني للأخلاق والقيم الموجودة في عالمنا، قصد فتح إمكانات أوسع للتأطير الإيجابي والانسيابي لأكبر قدر من المجموعات البشرية بهذا الصدد.

ويمكن إجمال هذه المقتضيات في خمسة:
أولها: ضبط الإطار النظري، واستكمال التحديد المفاهيمي والمجالي للأخلاق والقيم، في أفق الاستبانة النقدية البناءة لمعالم منظومات القيم السائدة في عالمنا، في اعتبار لمختلف المجالات التداولية التي تحددها طبيعة النظم الثقافية المعيارية المرجعية العامة، وتحددها الأسيقة التاريخية والحضارية.
ثانيها: الوقوف على مختلف المقاربات المنهاجية المعتمدة في التعاطي مع المنظومات الأخلاقية والقيمية في عالمنا.
ثالثها: ضبط أضرب الصلة بين الأخلاق والقيم، وما هو سائد في محاضنها من معتقدات ورؤى وتمثلات للعالم وللحياة والأحياء، وتحديد أوجه التأثر والتأثير بين الأخلاق والقيم، وبين المعتقدات والرؤى والتمثلات.
ورابعها: رصد أوجه التلازم الوظيفي بين الأخلاق والقيم، وبين مختلف تمظهرات التربية والتعليم والإعلام، في أفق استبانة المضامين الأخلاقية والقيمية السارية في النظم التعليمية والإعلامية، وتقويمها من هذا الصوب.
وخامسها: الرصد الميداني لتأثير المنظومات الأخلاقية والقيمية على مناهج بناء الذات ونحت الشخصية الإنسانية في بعديها الفردي والاجتماعي، وتوجيه أضرب الكسب الإنساني في مختلف المجالات.

وهذه مقتضيات لا بد منها، حتى لا يبقى التوق إلى رتق ما فُتق من علاقة بين السند الديني للأخلاق والقيم، وبين مناهج التأصيل والتنظير والتفعيل في هذا المجال، مجرد آمان نعيش بها زمن كتابة أو قول رغد، في انفكاك عن تطلبات التنزيل الإجرائي الراشد على أرض الواقع، لهذا البعد المحوري من أبعاد الحياة الإنسانية.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

Science

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سم الله الرحمان الرحيم
    أشكر فضيلة الامين العام للرابطة المحمدية على هذا الموضوع المحوري والذي يعتبر من المواضيع المهمة في عالمنا المعاصر،خصوصا بعد ان انفلتت القيم والأخلاق من كل الضوابط، وهذا راجع الى انسياقنا وراء الحضارة الغربية والتى لم يشكل عندها موضوع السلوكات الإنسانية اي اهمية، فتركته هملا، ونتج عن ذلك ما نراه من انحلال اخلاقي وقيمي وحسبنا ان نقول ان كفت ميزان القيم والأخلاق يجب ان ترجع الى توازنها وهو ربطها مرة اخرى بالسند الديني في صيغته الإسلامية و اشكر فضيلتكم على المقتضيات الخمسة التي طرحتموها من أجل إعادة ربط السند الديني بالأخلاق والقيم وشكرا جزيلا

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق