وحدة الإحياءدراسات محكمة

في طبيعة الأزمة التي يمر بها الفكر الإسلامي

المسألة المبدئية التي ينبغي حسمها هي: كيف آل التحريف بالفكر الإسلامي عامة والأشعري خاصة إلى أن يصبح عكس حقيقته بسبب إجهاض ثورتي هذا الفكر خلال أهم مفصلين من مفاصل تكوينيته النظرية؟ فقد كانت هاتان الثورتان واعدتين فكريا؛ (التحرر من الميتافيزيقا المنحطة التي ورثها الفكر الإسلامي من العهد الهلنسي والكلام المسيحي اليهودي الشرقي) وعقديا؛ (العودة إلى الموقف السلفي الثوري الذي يبقى على العقائد في نصها وطابعها العفوي والفطري دون تشقيق كلامي ليفرغ إلى تحقيق شروط الاستخلاف في الكون أعني تحقيق قيم القرآن النظرية والعملية في التاريخ الفعلي). وقد تعلق التحريف المجهض بثورتي الأشعرية التاليتين خاصة بوصفهما بؤرة كل الفكر الإسلامي الذي يتبع التيار السني الغالب أو يعارضه بكل تقازيح القوس الفرقية:

1. الثورة على الفكر الاعتزالي في المسائل العقدية عامة وفي مسألة أفعال العباد خاصة (الأشعري هو الرمز)؟

2. الثورة على الفكر الفلسفي في المسائل الميتافيزيقية عامة وفي مسألة أفعال الطبائع خاصة (الغزالي هو الرمز)؟

كيف دار الفكر الأشعري دورة كاملة فعاد إلى ما فاق الغلو الاعتزالي والفلسفي ولكن في الاتجاه المقابل أعني إلى نقيض هذين الفكرين فأصبح فكرا باطنيا خالصا سواء مباشرة في لوازم نظرياتها الكلامية أو بتوسط التصوف المتفلسف الذي يزعمه أصحابه نابعا منها؟ لقد مر الفكر الأشعري بثورتين واعدتين كلتاهما أجهضت خلال تكوينية فكر صاحبها ذاته:

فأما الثورة الأولى فهي ثورة الأشعري نفسه لما فارق الاعتزال بسبب ما أدركه من قصور العقل في تفسير أمور العقيدة عامة وأفعال العباد خاصة من حيث شرط كونها تكليفا يقابله جزاء وعقاب. فأما الثورة فكانت في القطيعة مع المعتزلة والعودة إلى الحل السلفي أعني القبول بالجمع بين الحرية والجبرية بمستويين مختلفين. وأما علة النكوص فهو ما ينتج عن محاولة صوغ هذا الحل بالمنهجية الاعتزالية الكلامية: نظرية الكسب للجمع بين الفاعلين على الفعل الواحد. وهو ما آل في الأخير إلى الجهمية.

وأما الثورة الثانية فهي ثورة الغزالي بعد أن تبين أن أصل الداء كله في النظر والعمل على حد سواء هو الميتافيزيقا الموروثة عن الأفلاطونية المحدثة كما تعينت في عملي الفارابي وابن سينا نظريا وفي أعمال الباطنية وأخوان الصفاء عمليا. فكانت الثورة ممثلة في كتابين هما تهافت الفلاسفة وفضائح الباطنية. لكن الثورة سرعان من انقلبت على صاحبها؛ لأن الحل العلاجي صار عين الداء:

فالحل العلاجي النظري تمثل في تصور المنطق الأرسطي بريئا من الميتافيزيقا التي رد عليها بل هو قد حاول البحث عن تأسيس شرعيته بترجمة بعض أدلة القرآن الكريم بأشكال المنطق الحملي والشرطي في القسطاس المستقيم مع التصريح الصريح بالقصد الباطني.

والحل العلاجي العملي تمثل في تصور الطريقة الصوفية بريئة من الميتاتاريخ الباطني الذي رد عليه بل هو قد حاول البحث عن تأسيس شرعية وحدة الوجود في تفسير بعض آيات سورة النور في مشكاة الأنوار.

لكن النكوص الأتم اكتمل عند الرازي بعد بدايته المحتشمة عند الغزالي من خلال تعميم قانون التأويل الذي هو في الحقيقة نفي خفي للنقل بآلية رده التأويلي للعقل ما يعني نفي الغيب ومن ثم الحاجة للقرآن والسنة. لذلك فهذا القانون هو الذي تتأسس عليه كل التأويلات الباطنية المعطلة للذات الإلهية باسم أساس التقديس (كتاب الرازي) وتعميم الرد عليه في تلبيس الجهمية (كتاب ابن تيمية) الذي تتأسس عليه كل “اللاتأويلات السلفية” التي هي في الحقيقة تأويلات ظاهرية تذهب إلى حد الحرفانية العامية. ومن هذا النكوص التام الذي تصدى له شيخ الإسلام تصديا أسيء فهمه انقسمت الأمة إلى الأصوليتين المعلومتين الآن. وما الحرب الحالية إلا ترجمة لهذا المأزق الفكري: فهي حرب مدارها القرآن الكريم ودوره التاريخي في النظر والعمل وقد اجتمع فيها الباطني الصريح من الفرق المغالية والباطني المتنكر في الأشعرية قبالة الظاهري الصريح من الفرق المغالية والظاهري المتنكر في السلفية.

فيكون ابن تيمية وابن خلدون قد فشلا في سعيهما إلى إرجاع الفكر السني أعني إلى ما سعت إليه الثورتان الأشعريتان الثورة التي أرادت أن تجعل أفعال العباد قابلة للعلم بالتخلص من الوهم الميتافيزيقي الاعتزالي حول حرية الإنسان دون نقض لنظرية الحرية الإنسانية والثورة التي أرادت أن تجعل أفعال الطبيعة قابلة للعلم بالتخلص من الوهم الميتافيزيقي الفلسفي حول النظام الضروري في الطبيعة دون نقض لنظرية السنن الإلهية التي لن تجد لها تحويلا ولا تبديلا. فشل المفكران في تحقيق الثورتين حتى وإن تقدما في عملية تأسيسها تقدما معتبرا:

ففلسفة التاريخ ومنهجه الخلدونيين ممتنعا التصور من دون بدايات التخلص الفعلي من الوهم الاعتزالي حول الحرية الإنسانية

وفلسفة الطبيعة التيمية ومنهجها ممتنعا التصور من دون التخلص من الوهم الفلسفي حول الضرورة الطبيعية.

وتلك هي الأزمة الحالية التي يمر بها الفكر الإسلامي ولم يستطع الخروج منها. فكيف يمكن وصفها للكشف عنها وتحديد عللها وشروط علاجها؟ ذلك هو مطلبنا في هذا الفصل الذي انتخبناه ببعض التصرف من محاولتنا فهم الأفق القرآني في صلته باستخلاف الإنسان وشروط استعمار العالم من أجل تحقيق القيم حددها القرآن الكريم في التاريخ الفعلي لئلا يبقى الدين مجرد تعبد مشعري بل يصبح تحقيقا فعليا لقيم الإسلام في حياة البشر الدنيوية من حيث هي مرحلة معدة للحياة الآخرة. ولما كانت الأزمة تتعين في الوجود الفعلي بكل أبعاده لكن تعبيراتها تتعين في صوغها الرمزي ممثلا بالنخب الناطقة باسم هذه القيم فإننا سنعالح القضية من هذا الوجه: وجه دور النخب في تجلية أفق الرؤى الوجودية أو بالعكس في تصدئته. وسنتبع التقسيم الخلدوني لمقومات العمران أساسا لتقسيم النخب الممثلة للقيم في المجتمع الإنساني. وفي البحث قضيتان كلتاهما مضاعفة:

القضية الأولى: سلطة الرمز من صورة العمران ومادته

القضية الثانية: سلطة الرمز الفعل من صورة العمران ومادته

القضية الأولى: سلطة الرمز من صورة العمران (التربية) ومن مادته (الثقافة).

لن نفهم طبيعة الأزمة التي يمر بها الفكر الإسلامي منذ عصر الانحطاط إلى الآن إلا بتحديد طبيعة النخب التي يؤسس لها القرآن من أجل تحقيق قيمه التي هي شرط الاستخلاف من حيث هو أداء للأمانة. ويقتضي ذلك أن نبدأ ببيان التحريفات التي تصيب الفكر بتوسط النخب الممثلة لسلطة الرمز من صورة العمران الإنساني (=التربية) وسلطة الرمز من مادته (=الثقافة). فهذه التحريفات صنفان كلاهما ينتج عن إطلاقِ فصل وهمي في سلطة الرمز المتعينة في التربية والثقافة إطلاقا يزعمه أصحابه تنافيا بين العقل (=الفلسفة التي يجعلونها مقصورة على الهم الدنيوي) والنقل (الدين الذي يجعلونه مقصورا على الهم الأخروي) وهو في حقيقته كما بينا في غير موضع مقابلة وهمية بين صورة المعرفة وأدواتها من جهة أولى ومادتها وغاياتها من جهة ثانية (وهو أمر لا يمكن أن يطمئن إليه أي مطلع على القرآن مهما كان اطلاعه سطحيا):

والصنف الأول يمثله طاغوت النخب الأصولية الفلسفية في التربية والثقافة تمثيلا مبدئيا وصريحا يلغي البعد الأخروي من أوليات الإنسان.

والصنف الثاني يمثله طاغوت النخب الأصولية الدينية فيهما كذلك تمثيلا عمليا ناتجا عن طبيعة تعاملهم مع الدنيا حصرا في العمل المباشر سياسيا كان أو شعائريا فلا تكون الدنيا بذلك مطية للآخرة لإهمالهم شروط الاستخلاف النظرية والعملية التي هي بالضرورة غير مباشرة أعني ما ظنه الصنف الأول الهم الوحيد للوجود الإنساني.

وهما يستحقان اسم الطاغوت بنص القرآن الذي جعل الإيمان -الذي لا يمكن أن يكون إلا شخصيا ما يعني أن تبين الرشد من الغي هو أيضا شخصي- جعله تحررا من الطاغوت وكفرا به [سورة البقرة / الآية: 256].

فالأصولية الفلسفية تمثل النوع الأول من الطاغوت لأنها تطلق قدرات العقل فتزعم العلم المحيط في متناول الإنسان وتنفي الوحي لظنها أنه يحط من شأن العقل ولا ترى أن نظرة الوحي القرآنية تعتبر العقل بمعناه السوي من أهم علاماته بل هو أحد أنواعه[1] لذلك فالتلازم بين الحكم والكتاب من ثوابت آيات القرآن الكريم: أعني العلم الاجتهادي الذي يعلم حدودَه ورسوخُه يكون بقدر وعيه بهذه الحدود.

والأصولية الدينية تمثل النوع الثاني من الطاغوت؛ لأنها تطلق قدرات النقل فتزعم للأنبياء علما بالغيب نفاه عنهم القرآن ولم يزعموه لأنفسهم متصورة أن ذلك هو العلة الوحيدة للحاجة إليهم. وهي لا تزعم ذلك إلا لتدعي من بعد أن علماء الدين يرثون علم الأنبياء بإضمار تميز علمهم الديني على العلم العقلي والحط من شأن علوم الدنيا متناسين أن الاستخلاف من دونها ممتنع فضلا عن كون القرآن اعتبر تبين أن القرآن هو الحق مشروط بالنظر في الآفاق والأنفس للعلم بها.

فلا تكون المعرفة العقلية والمعرفة النقلية اللتان تتحدان في المرجعية الدينية الإسلامية كما يحددها القرآن هي الخطاب النقدي القرآني الذي ينبه الإنسان إلى امتناع إطلاق العلم عقليا كان أو نقليا لوجود الغيب المحجوب حتى على الأنبياء بل هي تتحول إلى وهم يقدم علما ينفيه أصحاب الطاغوت الأول عن النقل أو يعجز دونه العقل عند أصحاب الطاغوت الثاني. وبدل تبرير الحاجة إلى الجمع بين العقل والنقل بهذا النهي عن ادعاء الإنسان العلم والعمل المطلقين والمحيطين بموضوعهما أعني التحريفين الفرعيين الدالين على التحريف الوجودي أو تأليه الإنسان ذاته نرى الأولين يزعمون للفلاسفة ما لا يقدرون عليه ونرى الثانين يزعمون للأنبياء ما ينفيه عنهم القرآن جاعلين الغيب في متناولهم فيكذبونه من حيث  لا يعون حتى يرثوا من الأنبياء علما لم يدعه أحد منهم[2].

 طاغوت الأصولية العلمانية

والقضية الفلسفية النظرية التي يمكن أن نحدد بالانطلاق منها الخلل الذي يطرأ على سلطتي الرمز من صورة العمران (التربية) ومن مادته (الثقافة) هي مسألة حدود المعرفة الإنسانية وطبيعتها الاجتهادية التي يؤدي إغفالها إلى تكون الطاغوت الرمزي في مجالي التربية والثقافة أعني في المقوم الرمزي لكل عمران إنساني سوي. وهذه القضية هي قضية الاجتهاد بمعناه القرآني من حيث هو بديل من المعرفة الميتافيزيقية المطلقة التي تفسد وظيفة النخب الرمزية. وسنعود إلى المسألة الملازمة لكل محاولة من بدايتها إلى نهايتها. إنها مسألة قانون التأويل الذي وضعه الغزالي وأطلقه الرازي وتمكن من تجاوزه الفيلسوفان المؤسسان لإصلاح فكر المسلمين النظري (ابن تيمية) لجعل العمل بالنظريات يعود فيصبح ممكنا[3] عند المسلمين أعني الجهاد الحقيقي ولإصلاح فكرهم العملي (ابن خلدون) لجعل النظر في العلميات يعود فيصبح ممكنا[4] عند المسلمين أعني الاجتهاد الحقيقي: وإذن فالمشكل هو الاجتهاد والجهاد كيف يفسدهما طغيان النخب؟

ننطلق من أحد الرموز الناطقين باسم مدرسة التأويل العقلاني للمرجعيات الإسلامية وليكن ناصر حامد أبا زيد لبيان سوء الفهم المسيطر على المفكرين الذين يفسدون النهضة ببعديها التحديثي والتأصيلي (ردا من الثاني على الأول) فضلا عن إسقاط بعض الخصائص في المواقف الحديثة على المدارس القديمة. فكلا الحزبين يقول بهذه النظرية إما إيجابا (العلمانيون) أو سلبا (الدينيون). يقول أبو زيد في كتابه فلسفة التأويل: “والمنظور الذي نفترضه هنا هو النظر إلى الفلسفة الإسلامية في جوانبها المتعددة من خلال جدلية بين عناصر ثلاثة هي العناصر المكونة لمضمون هذه الفلسفة. ومضمونها: العنصر الأول هو الواقع التاريخي والاجتماعي الذي نشأت فيه هذه الفلسفة وتطورت. والعنصر الثاني هو دور النص الديني بالمعنى الواسع الذي يشمل القرآن والأحاديث النبوية ونعني بالنص هنا التراث التفسيري في حركته المتطورة لا مجرد ما هو مكتوب بين دفتي المصحف وفي مجموعات الحديث. وأما العنصر الثالث فهو التراث الفلسفي السابق الذي انتقل إلى المسلمين بكل ما تعنيه كلمة تراث من شمول وتنوع ودون توقف عند حدود الفلسفة اليونانية في عصورها المختلفة. والأساسي في هذه العناصر هو العنصر الأول (=الواقع التاريخي والاجتماعي) وإن قامت العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة على التفاعل المستمر[5]. ومما يؤكد هذه القضية أن القرآن قد نزل مستجيبا لحاجات الواقع وحركته المنظورة خلال فترة زادت على العشرين عاما[6].

لن نركز على عدم الوعي باستحالة المهمة[7] التي يريد القيام بها ولا بالعلامتين الدالتين على أن ما يسمى بالتأويل العقلاني هو في الحقيقة الفهم الماركسي اللاعقلاني للعلم عامة ولعلم التاريخ الإنساني خاصة أعني تقديم ما يسميه الواقع مبدأ وجوديا[8] والتثليث الجدلي مبدأ منهجيا[9]. ولن نهتم كذلك بالحجة المستمدة من صلة القرآن بحاجات الواقع طيلة ما يقرب من عقدين وما يترتب على ذلك من تاريخانية[10] ولا بالمكونات التي تحدد هذا المنظور التثليثي[11]. فهذه جميعا أمور ندرجها في تعليقات الهوامش؛ لأنها قد تحول دون القارئ والنفاذ إلى الخلل الرئيسي الذي تصدر عنه في هذا الفكر العجول. ما يعنينا بالأساس هو نظرية التأويل التي يعتمدها المؤلف من حيث صلتها بالقانون التقليدي الذي انتهي الفكر المعتزلي والفكر الأشعري إلى شيء من الإجماع عليه: إذا تعارض العقل والنقل أجمعت المدرستان بضرورة تقديم  العقل وتأويل النقل.

عندما قال علماء الكلام تقليدا للفلاسفة إن التعارض بين النقل والعقل إذا حصل فينبغي تأويل النقل بمقتضى ما توصل إليه العقل -دون أن يدركوا جيد الإدراك أن الموقف الفلسفي كان نتيجة حتمية لاعتبارهم الخطاب الديني مثالات عامية مما يتصورونه حقائق فلسفية مطلقة أي إن الدين عندهم مجرد أيديولوجيا شعبية بلغتنا الحديثة- كانوا يفترضون أمورا مقبولة في عصرهم. لكن ما افترضوه لم يعد مقبولا في عصرنا اللهم إلا إذا كان المزعوم من عقلانيي العرب يعيشون قبل المرحلة النقدية وما بعدها من الفكر الفلسفي الحديث حتى لا أتكلم على ثورة ابن تيمية وابن خلدون؛ لأن ذلك قد لا يصدقه أحد من الحداثيين الذين معرفتهم بتاريخ فكرنا وبتاريخ الفكر الغربي لا تتجاوز المقدار الذي يقنع به أصحاب التقريب الجمهوري. فقد كان الفلاسفة يعتقدون أمرين لم يعد أحد يصدق بهما إلا إذا كان جاهلا بالفكرين الفلسفي والديني الحديثين:

الأول هو أن للعقل القدرة على إدراك حقائق الأشياء بإطلاق ومن ثم فالعلم الذي في الذهن ليس فيه من مخالفة لموضوعه في العين إلا بسبب الخطأ الإنساني الذي يمكن تجاوزه ومن ثم معرفة حقائق الأشياء كما هي في ذاتها فلا يبقى لمفهوم الغيب معنى ويصبح أصحاب هذا الرأي قادرين على الكلام في كل شيء كلاما وثوقيا هو عين الفكر الديني المتخلف الذي نهى عنه القرآن وهم يتصورون أنفسهم ثائرين عليه.

والثاني هو أن السبيل إلى ذلك هي الانطلاق من حقائق أولية هي جوهر العقل أو مبادئه التي تطابق قوانين الوجود في ذاته إن الغيرية الوجودية لم تكن واردة عندهم ومن ثم فالحقائق الأولية -ومنها مبادئ العقل- ليست مجرد مواضعات إنسانية لبناء الأنساق المعرفية التي هي مجرد أدوات للتعامل مع اللامتناهي المجهول بالطبع في الظاهرات التي تتلقاها حواسنا.

وهذان الأساسان صارا بعد الثورة النقدية وخاصة بعد الثورة على محاولات إصلاح الفلسفة النقدية لترميم حلولها أصبحا معتبرين عند كل الفلاسفة والعلماء مجرد حكمين مسبقين لم يعد أحد يقبل بهما حقائق مطلقة حتى وإن كان لا أحد يشك في أنهما صالحان للعمل الفكري بعد التسليم بأنهما مواضعات تصورية لبناء الأنساق المعرفية والتعامل مع “خليط الظاهرات المتدفقة على الفكر” والمجهولة بالطبع. وقد كان المعتزلي والأشعري على حد سواء يقولان بهذا القانون لهاتين العلتين[12] اللتين لو صحتا لكان بقاؤهما على الإيمان عديم المعنى: لو قبلنا بهذين لأستغنينا عن الدين السوي الذي جاء لتحريرنا مما يستندان إليه من وهم أعني العقيدة الفاسدة التي تؤله الإنسان فتطلق علمه وعمله أو بعبارة ابن خلدون تحصر الوجود في الإدراك.

وقد اكتشف الفكر الغربي الحديث بعد النقد وهاء الحجتين بفضل الثورة النقدية وما بعدها. وهذا الاكتشاف متأخر بالقياس إلى ما حصل في الفكر النقدي الإسلامي منذ القرن الثامن والرابع عشر. فقد كان الفكر العربي الإسلامي أدرك وهاء ذلك كله منذ القرن الرابع عشر في بدايته من منطلق نقد الفلسفة النظرية (ابن تيمية) وفي غايته من منطلق نقد الفلسفة العلمية (ابن خلدون) ولم ينتظر لا النقد الكانطي ولا ما بعده. وكلاهما كان يحلل فلسفة القرآن في نقد التحريف الوجودي وثمرتيه المعرفية والقيمية حتى وإن ظلت محاولتهما في شكلها الجنيني لعدم تطويرها واستثمارها. فعند ابن خلدون كل أوهام الميتافيزيقا العملية والنظرية علتها حصر الوجود في الإدراك أو اعتبار الإنسان مقياس كل شيء. وعند ابن تيمية مفهوم الحقائق الأولية مفهوم وهمي؛ لأن مقدمات العلوم نسبية مرتين: فهي نسبية ذاتيا أو نسبية للذات العارفة وهي نسبية لما يراد البرهان عليه من القضايا في التعليم Théorèmes أو لما يراد علاجه من المشاكل Problèmes  أو للإيجاد النظري الذي يبدع موضوعات تصورية فيجمع بين لجنسين السابقين في الأذهان قبل الأعيان ويسمى محصولات Porismes[13].

وتلك هي مطالب العلم القديم في شكله الأسمى معرفيا أعني في العلم الرياضي الذي يتعامل مع موضوعات فرضية تؤدي دور العلوم الأدوات في علم الموجودات الفعلية. والأمر لم يتغير في العلم الحديث من حيث المطالب بل هو أضاف إليها تنسيب هذه التمييزات فردها جميعا إلى النوع الأخير إذ حتى النظريات فإنها ليست إلا تحصيل الكائنات الذهنية التي لها انطباق على النظريات والبناءات التصورية في المشاكل الرياضية مع الانتقال من غفلة ظنها حقائق إلى الوعي بكونها مبدعات إنسانية لعلاج ذريعي لا يتجاوز الفاعلية النظرية والتقنية إما لمسائل نظرية في القول العلمي ذاته من حيث صورته (وكلها راجعة إلى قضايا المنطق الصوري: شروط التناسق العلمي التي هي دائمة التطور والتدرج) أو لمسائل نظرية في علاقة القول العلمي بموضوعاته أي من حيث صلته بمادته (وكلها راجعة إلى قضايا المنطق المتعالي: شروط المطابقة العلمية التي هي دائمة التطور والتدرج).

وطلب هذين النوعين من الشروط هو المحرك الأساسي للمعرفة الإنسانية. وكلاهما يقتضي نوعي المراجعة المدبرة والمقبلة. فبالمراجعة المدبرة يعاد النظر في الأسس لتحقيق التناسق بين النظريات. وبالمراجعة المقبلة يعاد النظر في المناهج لتحقيق أكبر قدر ممكن من المطابقة مع الموضوع. ولعل الجامع بين هذين النوعين من العلاج هو جوهر الفكر الرياضي المجرد والمطبق. وحتى لو سلمنا بأن الوجود الفعلي موضوع الميتافيزيقا أسمى وجوديا من الوجود التصوري موضع الرياضيات فإن علم الميتافيزيقا دون علم الرياضيات صرامة منطقية ودقة علمية ومن ثم فينبغي أن تكون الميتافيزيقا دون الرياضيات ادعاء للوثوقية، لأن ما يتوقف عنده الرياضي في المجال المعرفي حدا لا يمكن أن يتجاوزه الميتافيزيقي إلا إذا اعتبر أمانيه حقائق.

لذلك فابن خلدون وابن تيمية ينفيان كل إمكانية لتجاوز العقل الإنساني المعرفة المؤيدة بالتجربة بما في ذلك في العلم الرياضي بشرط أن نفهم أن القصد بالتجربة ليست التجربة الحاصلة بل التجربة الممكنة[14]: والتجريب هنا ليس بالضرورة تجريب المواد الطبيعية بل هو تجريب على المواد الرياضية المجردة أو ما يمكن أن يسمى بالتجريب العقلي الذي هو غير التجريب المعملي. والمعلوم أنه ليس عند الإنسان تجربة تشمل كل التراث ليعلم كيف يُصنع أو كيف يقع تبادل التأثر والتأثير بينه وبين الواقع وأيهما الظرف وأيهما المظروف على تشعبهما وتشاجنهما وكيف يتعين الفكر في صلته بهما على تشعبه المضاعف بسبب ذاته وبسبب كونه عندهم انعكاسا لما يسمونه الواقع.

لكن حتى لو سلمنا بكل خرافات الحداثيين العرب في تصوراتهم المتخلفة للعلم وللتاريخ من حيث دور العلاقة بين الرمزي وغير الرمزي (ما يسمونه الواقع) فيه. فهل يمكن أن يفسر لنا المؤولون “قواعد العبور”[15]، من ظاهر موضوع التأويل إلى باطن حقيقته؟ لابد أن لهم علما بالحقائق غنيا عن التأويل يمكن بالعودة إليه أن نؤول ما عداه: وتلك هي العقبة التي يقف عندها حمار شيوخ التأويل جميعا. فلابد للماركسي من علم تاريخ واجتماع لا يحتاج إلى التأويل أي بريء من أن يعد مجرد تعبير عن الوعي الطبقي. ولابد للفرويدي من علم نفس وتأويل لا يحتاج إلى التأويل أي بريء من أن يعد مجرد تعبير عن اللاوعي. وكلا الشرطين ليس لهما عليه دليل فضلا عن كون الدليل نفسه لن يكون بمنأى عن مثل هذا الاعتراض.

ولنأخذ أوضح مثال لمفهوم التأويل في دلالته العلمية حتى نفهم هذه الإشكالية؛ لأن تأويل النصوص مهما حاولنا رده إلى ممارسة علمية يبقى الغالب عليه الذوق الأدبي ومن ثم التحكم التأويلي بلغة حجة الإسلام في فضائح الباطنية حتى وإن لم يخل التأويل الأدبي من محددات منطقية ولسانية ونفسية واجتماعية قابلة للعلاج شبه العلمي فلا يكون أفضل مجال لبيان مصداقية المؤولين. لذلك فسنختار مثالنا من المجال الذي وضع أول نظرية في تأويل الأعراض الأقرب إلى العلم لقابلتيه لشرطي المعرفة العلمية أعني التجريب (تجريب العلاقة بين منظومات الأعراض والمرض المدلول عليه بها) والإحصاء (إحصاء الحالات التي يصدق فيها التوقع التأويلي للعلاقة بين منظومة الأعراض والمرض المدلول عليه بها): في التشخيص الطبي المجهز  بتحليل الأعراض في المخابر فضلا عن فراسة الأطباء المجربين.

والمعلوم أن تأويل أعراض المرض عند الأطباء هو المعنى الأول لمفهوم السيميولوجيا العلمية التي تقبل الاحتكام إلى التجربة تجربة الفرضيات التأويلية الناقلة من الأعراض إلى تصنيف الأمراض بمقتضاها لتحديد عللها فعلاجها. فهل يوجد حقا علم يمكن الطبيب من استنتاج علمي دقيق يبرر التعصب لما يسمى بالتأويل العقلاني استنتاج للمرض من تأويل بسيط ومباشر للأعراض التي يلحظها على المريض في جل الحالات أو حتى في أغلبها فضلا عن توهم إمكان ذلك لها كلها؟ هل يوجد ما يجعل العقلاني يتكلم بكل وثوقية على معرفة تمكن صاحبها من زعم الحسم في مسائل الوجود والدين؟ ما الذي يجعل الأطباء يحتاجون إلى الكثير من التحاليل وإلى لجان من الأطباء تقرأ نتائجها وتفحص المريض وتاريخه وتاريخ أسرته إلخ… وتتعاون في تأويل الأعراض لتحديد المرض دون جزم بالتحديد اليقيني إلا في الحالات البسيطة والنادرة؟ وكم من طبيب متعنت أو متسرع في التأويل فوت على نفسه شروط الفهم هذا إن لم يقتل المريض بأدوية تخطئ ما يعاني منه المريض وتفقده الحصانة؟

فسواء انطلقنا من أعراض المرض إلى تأويلاتها أو من أنظمة تأويل الأمراض إلى أعيان تطبيقاتها فإننا لا نملك طريقا ملكية نسلكها واثقين من الوصول إلى الغاية فنحدد المرض بصورة يقينية من تأويل الأعراض أو نحدد معاني الأعراض بصورة يقينية من تحليل النظرية التأويلية إلا بالتدرج البطيء علما وأن تعقيد بدن الإنسان يعد أمرا بسيطا بالمقارنة مع فهم الوجود التاريخي والروحي للإنسانية. ولعل الأمر في التأويل الطبي مناظر من حيث الصعوبة والتعقيد لعملية التحقق من الفرضيات العلمية في كل العلوم التجريبية. لذلك فالتأويل بهذا المعنى يقاس على بناء النظريات العلمية فيها. فمن الظاهرات الطبيعية التي هي أعراض لـ“أمور مجهولة الطبيعة” تأويلها هو القانون إلى القانون الذي يؤولها نكتفي بالفرض والترجيح. ومن القانون إلى الظاهرات نكتفي بالتشاكل بين حدود العبارة الرمزية عن القانون الفرضي وما نعتبره مقوما من عناصر هذه الأمور المجهولة أو العوامل التي نتصورها ذات فاعلية فيها: أي إن كل ظاهرة نجد مشاكلة بين ما نتصوره مقوماتها وبين الرموز التي تتألف منها عبارة القانون نعتبرها عينا من الأمور المجهولة التي يصح عليها ذلك القانون. ولذلك كانت صفة القانون الأساسية من حيث هو رمز دال أنه رمز متشاكل ببنية عناصره الموضوعة مع المرموز ببنية عناصره المفروضة Diagramme.

لكن ذلك كله اجتهادات لا يحق لصاحبها أن يزعم لها أكثر مما يزعم لعبارة القانون العلمي من تفسير مؤقت للظاهرة الموضوع وللتشخيص الطبي للمرض. فقد نكتشف أن ما تصورناه عاملا مؤثرا ليس هو كذلك سواء في المرض الذي نطلب تشخيصه أو في الظاهرة التي نطلب قانونها ولا أحد يزعم أن ما عنده من معطيات كاف للحسم في مثل هذه الأمور بالوثوقية التي تجدها عند عقلانيينا المزعومين. وإذا كان ذلك كذلك في هذه الأمور البسيطة فكيف به في أسرار الوجود الإنساني أو الكوني أعني في ما تهتم به الأديان والفلسفات من قضايا كلية تخص معاني الوجود عامة والوجود الإنساني خاصة؟ العقلانية ليست هي إذن الموقف الذي يقول بالعقل دون تحديد بل هي بالذات الموقف الذي يقول بالعلم الاجتهادي أعني العقل الذي يعرف حدوده: إنه المعرفة التي تعلم حدودها فلا تؤله الإنسان بإطلاق عقله ومن ثم فهي تؤمن بأن وراء الشاهد غيبا مجهولا لا يدركه الإنسان بعلمه وعمله فيسلم وجهه لرب الغيب والشهادة.

 طاغوت نخب الأصولية الدينية

إذا كان  الطاغوت العلماني مصدره إطلاق قدرات العقل؛ فإن الطاغوت الأصلاني مصدره نظرية إرث العلماء للأنبياء النظرية التي يضفون بها على علمهم العادي ضربا من العصمة تتنافى مع مفهوم الاجتهاد وهي نظرية حولت إسلام الإنسان وجهه لرب الغيب والشهادة من كونه موقف إيمان عقدي إلى دعوى العلم والعمل بما يتجاوز العقل الإنساني فصار الوريث يرث أكثر مما عند المالك: لم يزعم أحد من الأنبياء أنه يعلم الغيب ومن ثم فكلهم علمهم لا يتجاوز عالم الشهادة وهو إذن علم عقلي يغلب عليه وجه الإبداع الحدسي هو ككل إبداع لا يورث[16]. فالحد من سلطان المعرفة العقلية التي يزعم لها أصحابها الإطلاق لا ينبغي أن يؤدي إلى وهم من الجنس المقابل.

لا ينبغي الزعم بأن علماء الدين يرثون من الأنبياء علما يتجاوز عالم الشهادة إلى عالم الغيب فيكاد يصبح العلم الديني من جنس موضوعه أعني الوحي: فالإنسان ليس قادرا على علم من جنس آخر غير الجنس الذي يصل إليه بالعقل حتى لو كان نبيا؛ لأن القرآن لا يني يكرر بأن الغيب محجوب حتى على الرسل. لكن نظرية إرث العلماء للأنبياء أصبحت -وإن بصورة ضمنية عند السنة على الأقل وهي صريحة عند الشيعة- أساسا لطاغوت الأصولية الديني وتقزيما لملكات الإبداع الإنساني من خلال تقييدها بعلم يزعمه أصحابه من مصدر ثان بديل من العقل هو العلم اللدني في المعرفة الدينية. وتلك هي القضية الجوهرية التي أهملها الفكر الإسلامي عامة وفكر كلا الفيلسوفين اللذين شخصا أدواء الحضارة الإسلامية في أدوائها التي آلت بها إلى الانحطاط خاصة:

فسلطة الرمز من صورة العمران حصرت في الرمز الديني الرسمي فاقتضى ذلك إيجابا جعل مضمون التربية مقصورا على العلوم الدينية وأدواتها وسلبا في إلغاء مضمون العلوم الطبيعية وأدواتها وإلغاء كل التجارب العلمية وما يتبعها من تقدم تقتني واقتصادي[17].

وسلطة الرمز من مادة العمران حصرت في الرمز الرسمي فاقتضى ذلك إيجابا جعل مضمون الثقافة مقصورا على العلوم المساعدة للعلوم الدينية وإلغاء التجارب الروحية والخلقية أعني كل ما يتعلق بالإبداع الفني والجمالي[18].

وبذلك فقد فقدت الأمة مجالي الإبداع اللذين يمكن أن يعطياها الحيوية الحضارية الدائمة في مجالي النظر والعمل وسلطانيهما وتطبيقاتهما في الرزق والذوق وسلطانيهما. فيكون طغيان نخب الأصولية الدينية متمثلا في قتل البعد الرمزي من صورة العمران ومادته بحصره في ما يجعله أداة مباشرة للوجه الفعلي أعني للحكم والاقتصاد في حدود ما فهموه هم من الشريعة والسنة مهملين كل الغايات التآنسية وأدواتها غير المباشرة التي لا يمكن أن يبدعها إلا الخيال العلمي والفني الخالصين والمطبقين أعني الوظائف التي قتلوها بحصر الرمز في بعده الفقهي.

لكن ضرر الطغيان الثاني أخطر بكثير من الطغيان الأول رغم كون الطغيانين متغاذيين: كلاهما يغذي الثاني ويغتذي منه. فالرمز عند الأصولية الدينية جعل فكر المسلمين طاحونة هواء لعلتين. أولاهما هي أن العلوم الدينية لم يبق منها إلا ما هو أداة للحكم المباشر (السياسة) أو غير المباشر (التربية) وللاقتصاد المباشر (المعاملات) أو غير المباشر (أخلاقيات التعامل) أي الفقه والوعظ. والثانية هي أن العلوم الأخرى لم يعد لها وجود  أصلا. أما الفنون فهي قد محيت نهائيا من حياة المسلمين لأنها صارت تعتبر من المدنس وهو ما لم يمنع من استيرادها مثلها مثل العلوم الطبيعية والإنسانية وتطبيقاتها التي لم يُبقوا منها إلا على الأدوات المباشرة للعبادات والمعاملات البدائية. وبذلك فقد تحولت ثورة النقد الفلسفي والعلمي ومحاولات ابن تيمية وابن خلدون باسم التصدي للإفراط الرمزي إلى تفريط قاتل كما بينا. وليس من اليسير  تحرير فكرنا من هذا الطاغوت الأخطر من الأول بسبب التصاقه بالجمهور ولكونه مسموعا بخلاف الطاغوت الأول.

ويمكن أن نفعل إذا اعتمدنا طريقتين موجبة تبين دلالة وراثة العلماء للأنبياء ماذا تعني وسلبية تبين إدعاء أكثر من ذلك ماذا يعني. ولنبدأ بالطريقة الأولى التي هي طريقة لا يمكن أن يجادل فيها إلا من يريد أن يكذب القرآن الكريم فضلا عن الحديث الشريف. فإذا كان القرآن الكريم قد نفي عن خاتم الأنبياء العلم بالغيب فمعنى ذلك أن النبي لا يعلم إلا الشاهد أعني المعلوم المشترك بين البشر. والمعلوم المشترك بين البشر  لا يعلم إلا بالمدارك المشتركة بين البشر. ومن ثم فإذا كان العلماء يرثون علما من الأنبياء فهو علمهم بالشاهد أي بالمشترك بين البشر. وكل ما ينتسب إلى الغيب من الوحي نبه القرآن إلى أنه محجوب على الجميع بمن فيهم الأنبياء ومن ثم فهو قد نفى كل أمكانية لعلمه: مثل وقت الساعة أو طبيعة الروح أو صفات الله أو مقاصد الله من الخلق وخاصة مما يبدو منه منه شرا.

ولنثن بالطريقة الثانية التي ترد القول بالعلم اللدني الذي يزعم البعض أنه من المصطفين من الناس المختصين بعلمه أعني الأولياء والأيمة المعصومين: ويكثر مثل هذا الكلام في الفكر الصوفي والإمامي. فهذا الزعم فضلا عن تنافيه مع نتيجة الطريقة الأولى فيكون مكذبا للقرآن الكريم يقتضي أن يكون الأنبياء دون من يرثهم من الأولياء والأيمة علما وهو مما لا يقبله عاقل. ذلك أن التصديق بمثل هذه الدعوى يعني التكذيب  بختم الوحي التشريعي إنشاء محدثا أو فهما للتشريع السابق بما يتجاوز الفهم الاجتهادي والقول باتصاله في الأولياء والأيمة. وهذا القول قل أن تجد من علماء السنة من يقول به صراحة لكن الغموض في مفهوم الإرث قد يتضمن ما يضمره من علم بالغيب.

والحصيلة التي ننتهي إليها بهذين الطريقين هي أن الأنبياء ليس لهم علم لدني غير ما جاء في القرآن الكريم الذي ينفي عنهم العلم بالغيب يمكن أن يرثه العلماء وأن علمهم لا يختلف في شيء عن العلم الوحيد الممكن للبشر وأن ما يتجاوزون به غيرهم أمران لا يشاركهم في أحد من البشر وهما ليسا من العلم فضلا عن كونهما ليسا مما يقبل الإرث:

فأما الأمر الأول فهو الاصطفاء الإلهي للقيام بدور العين الفعلية للمثل القرآنية في السلوك والأخلاق وفي الأمانة والصدق تلقيا للرسالة وتبليغا وهذا يعم كل الرسل.

وأما الأمر الثاني وهو خاص بأولي العزم منهم فهو القدرة على تحقيق قيم الرسالة في التاريخ الفعلي وليس مجرد تلقي الرسالة وتبليغها دون تحقيقها.

وما خص الله به محمدا على كل الرسل بمن فيهم غيره من أولي العزم -ولذلك اختير لتبليغ الرسالة الخاتمة والكونية- هو أن الله قد حباه بكل الفضائل العقلية والخلقية نظريا وعمليا لتحقيق العينة النموذج من الإستراتيجية القرآنية في التاريخ الفعلي[19] وحفظ رسالته من التحريف؛ لأن الكتاب وعد الله بحفظه من كل تحريف إلى يوم الدين وهو وعد يقتضي وجود أمته وجودا يجعلها قادرة على القيام بهذا الحفظ إلى يوم الدين؛ لأن حفظ المشروط يقتضي حفظ الشرط. ولذلك كان القرآن نصا نقديا أولا للتحريف ما جعل المسلمين سباقين في ضبط القرآن بعلاج علمي من البداية استعملوا فيها طريقة إجماع المختصين فضلا عن التوثيق المادي[20] ونصا نقديا ثانيا للتجارب السابقة التي فشلت في تحقيق قيم الرسالة الكونية في التاريخ الفعلي لانعدام شرطيها: الاجتهاد المعرفي ومعياره التصديق والهيمنة والجهاد العملي ومعياره الإصلاح الدائم لتحقيق القيم القرآنية في التاريخ الفعلي لئلا يكون الدين هروبا من الدنيا (الرهبانية) بل جهاد لجعلها مطية الآخرة. والجمع بين الدعوة والدولة هو الشرط الضروري والكافي لتحقيق شروط الاستخلاف في التاريخ الفعلي وأداء الأمانة.

القضية الثانية

سلطتا الفعل من صورة العمران (الحكم) ومن مادته (الاقتصاد)

مثلما بينا أن العلم بالنخب التي يكلف  القرآن الأمة بتوليتها السلطة الرمزية في صورة العمران ومادته يقتضي العلم بالداء الذي يحرف الوظيفة الرمزية منهما أي: التربية والثقافة وهو داء يمكن أن نطلق عليه اسم التحريف النظري وتطبيقاته فإن العلم بالنخب التي يكلف الله الأمة بتوليتها السلطة الفعلية في صورة العمران ومادته تقتضي كذلك العلم بالداء الذي يصيب الوظيفة الفعلية منهما أي: الحكم والاقتصاد ويمكن أن نسمي هذا الداء بالتحريف العملي وتطبيقاته.

وإذا كانت النخب الأولى قد انقسمت إلى حزبين باسم ما يزعمونه لمرجعيتهم المعرفية من أصل أعني العقل أو النقل؛ فإن النخب الثانية تنقسم هي أيضا إلى حزبين باسم ما يزعمونه لمرجعيتهم العملية من أصل أعني نظام القانون الطبيعي المستثني للقانون الخلقي أو نظام القانون الخلقي المستثني للقانون الطبيعي. فيكون الصدام بين الحزبين اللذين يزعمان الكلام باسم العقل أو باسم النقل في المعرفة له نظير في العمل هو الصدام بين الحزبين اللذين يزعمان الكلام باسم النظام الطبيعي أو باسم النظام الخلقي. ومثلما تكونت أصوليتان متنافيتان هما الأصولية العلمانية والأصولية الدينية في العقائد والنظر فمن المفروض أن تتكون أصوليتان متنافيتان هما الأصولية اليمينية والأصولية اليسارية (بالمعنى الغربي) في الشرائع والعمل.

وإذا كانت نخب الرمز تفسد وتصبح مفسدة بالانتقال من الفعل اللامباشر إلى الفعل المباشر فإن نخب الفعل تفسد وتصبح مفسدة بالعكس أي بالانتقال من الفعل المباشر إلى الفعل اللامباشر: والفعل اللامباشر في الحكم والاقتصاد هو الحكم بالرمز والاقتصاد بالرمز والأول هو الدجل والخداع[21] والثاني هو العجل  والمضاربة[22] وكلاهما دال على الجوع الرمزي عند المترفين ويناظره الجوع الفعلي عند المعدمين فتصبح المعمورة تحت وطأة الجوعين وتلك هي العولمة التي نراهما فيها بالعين المجردة. ويقتضي العكس الأول أن يكون السلطان بيد السوفسطائي والعكس الثاني أن يكون السلطان بيد المضارب. ولما كان السوفسطائي ليس بذي سلطان حقيقي فإن السلطان يصبح بيد المضارب ويكون السوفسطائي في خدمته. والمضارب لا يستمد سلطانه إلا من الاستغلال العام للمنتجين والمستهلكين: منتجي للخيرات الحقيقية التي تسد حاجات الاستعمال ومستهلكيها. وهو يفعل بتوسط الوسطاء بينهما ورئيس الوسطاء هو السوفسطائي الذي يمثل الكمبارس الحاكم في الظاهر والمحكوم في الحقيقة من قبل المضاربين وما يوظفونه من عضاريط للجمع بين العنف والفساد. وينتج هذا النظام وجهي عملة الطغيان الفعلي كما هي الحال في النخب الرمزية التي صارت صاحبة العمل المباشر.

وعلينا إذن أن نحلل هذين الدائين اللذين يعبران عن فساد وجودي يطرأ على قيام الإنسان بسبب فقدان التوازن بين الفعلي والرمزي في الوظائف العمرانية وانعكاسها على وجدان الأفراد ونفسياتهم أعني التوازن الذي من وظيفة الدين عقدا وشرعا الحفاظ عليه.  فطغيان حكم المترفين واقتصادهم علته الجوع الرمزي محركا للفاعلية الفاسدة وتكون الندرة الاختيارية محركا للوجود المريض وهو الوجه الأول من اللامتناهي الفاسد. ولا يمكن لطغيان المترفين أن يحصل من دون أن ينتج طغيان حكم الفقراء واقتصادهم الذي علته  الجوع الفعلي محركا للفاعلية الفاسدة حيث تكون الندرة الاضطرارية محركا للوجود المريض وهو الوجه الثاني من اللامتناهي الفاسد. والوجهان هما وجها انخرام واحد يطرأ على توازن الإنسان الوجودي تعد العولمة الحالية أفضل تعيناته رغم كونه متعنيا دائما في التلازم بين الجوعين عندما يستبدان بأي لحظة من لحظات التاريخ الحضاري الإنساني. وتلك اللحظة يصفها القرآن الكريم بكونها لحظة الاستبدال تستبدل حضارة وتستخلف بأخرى: لأن انخرام التوازن إذا بلغ درجة معينة يصبح هو في منظور فلسفة القرآن التاريخية علة الاستبدال؛ لأن علة كل الأدواء فيها تعود إلى المقابلة بين المترفين والمعدمين رمزيا وماديا وغالبا ما يعادي المترفون الحق ويسودون الباطل.

والمعلوم أن ما عندنا نحن المسلمين من هذه الأصوليات الأربع (الرمزيتين والفعليتين) ليس هو إلا نسخا أفسد من أصولها في الحضارة الغالبة أعني مما يقتضيه خضوع الفكر الإنساني في المعرفة والتقويم لمنطق الجدل والصراع الذي علته في المعرفة رد الوجود إلى الإدراك والغيب إلى الشهادة وعلته في العمل رد الخيرات إلى هوى المترفين والواجب إلى الحاصل: ويوحد الردين حصر اللامتناهي في المتناهي والمطلق في النسبي فيكون القانون المسيطر هو قانون الندرة ليس أمام الحاجة الفعلية بل أمام الحاجة الافتراضية؛ لأن الأفق ينحصر في ما يتولد عن الجوعين من أحوال نفسية ووجدانية فلا يرى شيء إلا من خلالها. وتصبح الحاجة الافتراضية للمترفين الجوعى رمزيا هي محرك الفاعلية في الاقتصاد والحكم والتربية والثقافة إلى أن يحرم كل المعدمين الجوعى فعليا من سد حاجتهم ويهدم الكون كله فعليا ورمزيا.

وقبل أن نحلل هذين الدائين فلنبين التوازي البنيوي بينهما وبين الطاغوتين. فالجوع الرمزي يناظر طاغوت الأصولية العلمانية والجوع الفعلي يناظر طاغوت الأصولية الدينية. ويعني ذلك أن الأصولية العلمانية هي أيضا نتيجة للوجه الأول من اللامتناهي الفاسد: لا فرق بين إطلاق المعرفة العقلية الوهمية بديلا من الحقائق الفعلية في التربية والثقافة وإطلاق العملات بديلا من الخيرات الفعلية في الحكم والاقتصاد. كلاهما تضخم مرضي من جنس الورم السرطاني في كيان الحضارة. وهذا الوجه بطغيانه ينتج ضرورة الوجه الثاني من اللامتناهي الفاسد: إطلاق المعرفة الروحية الوهمية بديلا من الحقائق الفعلية في التربية والثقافة من جنس إطلاق الحاجات المباشرة بديلا من الحاجات اللامباشرة في الحكم والاقتصاد؛ وهما أيضا تضخم مرضي من جنس الورم السرطاني. فيكون التضخم مربع الوجوه. وبذلك تتحدد مصادر الأدواء كلها فيتعين أصلها في المعادلات التي صغناها في الجزء الرابع من المحاولة (القضية الأولى من المسألة الثانية العلاقة بين الأدوات والغايات تشريح عملية اللحم: غاياتها وأدواتها وعلل فسادها وعلاجها) وذلك على النحو التالي:

الجوع الرمزي علته فقدان الشروط المباشرة لقيام الإنسان من حيث هو كيان نفسي (القسم الثاني من المعادلة المباشرة) والاستعاضة عنه بالشروط غير المباشرة الزائفة (القسم الثاني من المعادلة غير المباشرة) ويصحبه ضعف في الشروط المباشرة لقيامه من حيث هو كيان عضوي لانعدام الوعي بالجوع العضوي أو بصورة أدق للوعي الغائم بانعدامه الحقيقي حتى وإن تكدس حتى صار فاقدا لمعناه[23]. وهذا هو المميز لنخب المجتمعات التي بلغت الذروة في الحضارة أو حضارة الترف فصارت لا يشبعها عضويا ولا روحيا.

والجوع الفعلي علته فقدان الشروط المباشرة لقيام الإنسان العضوي (القسم الأول من المعادلة المباشرة) والاستعاضة عنها بالشروط غير المباشرة الزائفة (القسم الأول من المعادلة غير المباشرة) ويصحبه ضعف في الشروط المباشرة لقيامه من حيث هو كيان نفسي لانعدام الوعي بالجوع المعنوي أو بصورة أدق للوعي الغائم بانعدامه الحقيقي حتى وإن تكدس حتى صار فاقدا لمعناه[24]. وهذا هو المميز لنخب المجتمعات التي ما زالت في القاع من الحضارة أو حضارة الشظف فصارت مثل الأولى لا يشبعها شيء عضويا ورمزيا.

وبذلك نفهم أن النوع الثاني من النخب التي توجد في مجتمعات الشظف حيث لا توجد حاجة لطلب المعنى بسبب الإشباع الروحي الزائف وغياب التجارب الروحية الحية رغم ما يبدون من كثرة التعبد والتدين يكون الجميع ماديين حتى النخاع؛ لأنهم ما زالوا دون الحاجة الرمزية العليا التي تصاحب التجارب الروحية السامة كالتي يصفها القرآن الكريم وهم إذن فاقدون لكل شاهية رمزية حقيقية بسبب الإشباع الزائف. كما أننا نفهم أن النوع الثاني من النخب التي توجد في مجتمعات الترف حيث توجد الحاجة المطلقة لطلب المعنى بسبب الجوع الروحي الزائف يكون الجميع روحانيين حتى النخاع؛ لأنهم تجاوزوا مستوى الحاجة المادية السفلى ففقدوا كل شاهية حيوية بسبب الإشباع المادي الزائف. فتبلغ النخبتان والمجتمعان غاية التقابل ويحدث الصراع الوجودي المطلق الذي يكون فيه الصفان في وضعية الصف المستبدل والصف المستخلف بالمعنى الطبيعي الذي يؤدي إلى ما يؤدي إليه الصراع الطبيعي في عالم الحيوانات: وتلك هي حالهم المرضية وليست حالهم السوية لذلك وصفها القرآن بالرد إلى أسفل سافلين.

وهذا التناظر العكسي لا يعني أي مفاضلة بين الحالتين فكلتاهما مرضية أو غير سوية. فالذي فقد الشاهية الحيوية لم يرتفع إلى الحياة الروحية كما قد يتصور البعض؛ لأن الحياة الروحية لا تتحقق بموت الحياة العضوية بل هي عين انشراحها الخلقي ذو المعنى وهو الخلق الذي يكون به الإنسان متناغما وجه كيانه العضوي مع وجهه النفسي: لذلك أنكر الإسلام الرهبانية إلى حد يقرب من التحريم. وإذن فالرمز الذي استعيض به عن الحياة هنا هو المعنى الذي يكون فيه الرمز سلبيا أو نفيا للبعد العضوي: وهو بالذات رفض إبليس للسجود لما هو من تراب لزعمه أن النار أشرف ولنسيانه النفخة الإلهية في الصلصال. وليس بالصدفة أن هذا التروحن الزائف هو مصدر عنف وهمجية لا يكاد يصدقها إلا من فهم طبيعتها: فهو العنف الذي تعوض فيها القوة التكنولوجية القوة العضوية التي تمثل الجوع للشاهية العضوية المفقودة فضلا عن عنف الرهبانية كما يتمثل الفارس الراهب أو المرابط.

والذي لم يرتفع بعد إلى الشاهية الرمزية ليس داؤه انعدام الشاهية الرمزية التي وصفنا في الحالة الأولى؛ لأنها كما أسلفنا شاهية مرضية. ما يفقده المعدمون بخلاف المترفين هو أيضا ما يفقده المترفون أعني الرمز الروحي الحقيقي الذي هو معنى الحياة العضوية والروحية في آن. ذلك أن التدين الزائف عند المعدمين لا يعبر عن روحانية حقيقية بدليل أن الشعائر لا تثمر عندهم ما بُذرت لأجله. فالصلاة لم تعد عندهم تنهى عن الفحشاء بل هم حولوها إلى عكس القصد منها إذ تراهم حتى وهم في المساجد يتكاذبون ويتخادعون ويتآكلون لحم بعضهم بعضا. وإذن ففي الحالتين لا يكون شفاء الإنسانية إلا بالرسالة التي تحقق التناغم بين مقومات الوجود الإنساني التناغم بين العضوي والرمزي كما تحددهما قيم القرآن وطبقهما الرسول الأكرم في الجماعة التي رباها فضلا عن حياته الشخصية: حياة سوية يتوازن فيها العضوي والروحي بمعنييهما المباشر وغير المباشر.

لذلك كان الثابت في الرسالات بالمعنى القرآني هو تحرير البشرية من هذا المصير الذي يرد الإنسان إلى أسفل سافلين ممثلا بالجوعين من أجل تحقيق الإشباع السوي بفضل التربية القرآنية وذلك بما وضعه من قواعد ومعايير تجعل الحاجة العضوية والحاجة النفسية خاضعتين للقيم الروحية التي تحررهما من هذين الحلين الزائفين أعني وجهي اللامتناهي الزائف: وذلك هو معنى الاستثناء بعد الرد إلى أسفل سافلين. وهو أصل الحصانة الروحية عندما تصبح أخلاقا فعلية للأمة أفرادا وجماعات فيكون عين العروة الوثقى التي عرفها القرآن في الآية: 255 بكونها ما يصل إليه الإنسان بعد أن يكفر بالطاغوت (السلطانين الزائفين البديلين من الحاجات الحقيقية) ويؤمن بالله.

 الخاتمة

تلك هي والله أعلم طبيعة الأزمة التي يمر بها فكر الأمة ووجودها وهي جامعة بين فرعي الخيار الذي تقترحه الندوة أعني بين مسألة الفهم ومسألة التنزيل في آن. فكلتا المسألتين متعينة في مجالات محددة هي بعدا صورة العمران ومادته الرمزيان وبعدا صورته ومادته الفعليان وتحملها نخب معينة هي النخب المعبرة عن التربية والثقافة وعن الحكم والاقتصاد. لذلك حاولنا وصفها في تعينها الفعلي وتحليل بعض مقوماتها بما أمكن من الاجتهاد بالاعتماد على القرآن الكريم آملين أن يساعد ذلك في إعادة النظر في المجالات التي وصفنا وفي أصناف التعبير النخبوي التي أوضحنا وبالله التوفيق.

الهوامش


1. انظر أبو يعرب المرزوقي فلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي دار الهادي بيروت 2006 الباب الأول تعريف مفهوم الوحي وأصنافه ومن بينها الإدراك العقلي. فإذا كان الله يوحي لكل الكائنات الحية من النحل إلى النمل إلى الإنسان الوحي ليس مقصورا على المعنى الحصري لتلقي الأنبياء الرسالات بل هو كل ضروب الإدراك بما فيها الإدراك العقلي بكل درجاته ومن حيث هو قدرة فطرية وليس ملكة صناعية. ولعل أفضل تعبيراته عند ما يكون في أسمى صوره حتى عند العقلانيين هو ظاهرة الإبداع عامة والإبداع الفني عامة. وقد أشار الغزالي إلى ذلك عند كلامه على ذائقة الشعر والموسيقى بوصفهما إدراكا متجاوزا لما يمكن أن يفسره العقل بمعنى العقل اللساني المنطقي. فكل ما يستطيعه هذا العقل اللساني المنطقي الذي هو نفسه ذو درجات لا تكاد تتناهي -لأن الناس ليس لهم جميعا نفس المقدار منه- هو أن يحاول رد المؤلف لعناصره والنتيجة لمقدماته بشرط ألا يوجد بين المردود والمردود إليه قفزة نوعية هي من سمات ما نسميه إبداعا: فمهما فعلنا لتفسير إبداع نظرية جديدة أو مأثورة فنية أو حتى خطة عسكرية لن نستطيع ردها لمقدماتها وشروطها بل إن فيها أمرا ما جديدا هو ما يجعلها تتصف بالغيرية المطلقة في ما فيها من إبداع. وهذا الجديد الطارئ لابد منه لنفهم حصول التطور حتى في العالم الطبيعي: وإلا فينبغي أن نسلم بأن كل شيء موجود من البداية وأن التغير وهم فنعود إلى القول برأي بارميندس وزينون الإيلي.

2. ومن هذا الباب عادت السلطة الروحانية أو الكنسية إلى الإسلام رغم نفي القرآن الصريح لها. وهي قد عادت بصورة صريحة عند الشيعة وبصورة ضمنية عند السنة. فعند الشيعة ليس من أساس لنظرية الإمامة إلا هذا الوهم وهم علم الغيب والعصمة. وعند السنة حتى وإن كان المبدأ نفي الإمامة والعصمة فإنهم قد جعلوا وراثة علم النبي مدخلا لمثل ولاية الفقيه؛ لأنهم لا يوضحون أي علم من النبي يرثون: فالوحي توقف وختم وكل ما عدا تلقي الوحي ليس فيه ما يختص به الرسول حتى يرثوه منه. أما فضائل الرسول الخلقية والعقلية فلا تورث بل تمثل مثالا أعلى يسعى إليه الجميع كل على قدر الاستطاعة: وهو أمر الوراثة فيه مستحيلة حتى بين الآباء والأبناء.  

3. كيف يكون إصلاح النظر شرطا في العمل؟ العلاج التيمي اعتمد على فرضيتين أولاهما دينية، والثانية فلسفية؛ فأما الدينية فهي اعتبار الشريعة تابعة للعقيدة لتبعية العمل للنظر. وأما الفلسفية فهي اعتبار ما بعد التاريخ أو الفلسفة العملية تابعة لما بعد الطبيعة أو الفلسفة النظرية لنفس التبعية الموضوعية. ولما كان تشخيصه للأزمة التي تمر بها الأمة هي بنسبة المرض إلى الجبرية في الفكرين الفلسفي الكلامي والصوفي الفقهي فإنه قد رأى أن العلاج يقتضي تحرير الإرادة الإنسانية بدحض الفلسفة والكلام والتصوف والفقه التي آلت كلها إلى القول بالجبرية. وإذن فإصلاح الفلسفة النظرية والعقيدة يؤديان في علاجه إلى إصلاح الفلسفة العملية والشريعة.

4. كيف يكون إصلاح العمل شرطا في النظر؟ العلاج الخلدوني اعتمد على فرضيتين مقابلتين تمام المقابلة للتشخيص التيمي رغم أن المشكل الذي يتصدى له هو نفس المشكل. فعنده أن العقيدة والفلسفة النظرية يتبعان الشريعة والفلسفة العملية أي: إن التربية والسياسة هما اللتان تكونان الإنسان على الخنوع والاستسلام للأقدار وفقدان معاني الإنسانية. لذلك فينبغي إصلاح السياسة والتربية أي: الفلسفة العملية والشريعة لكي يصبح الإنسان قادرا على الاعتقاد الصحيح والفكر الصحيح فضلا عن الشجاعة الخلقية وطلب الفضائل الذي هو غير ممكن في رأيه إذا ربي الإنسان أو عاش في نظام يزيل معاني الإنسانية.

5. لن نسأل عن الكلمة السحرية للتفاعل. فهذا أمر يبدو عند هذا المفكر أمرا مفهوما ولا يحتاج إلى تحليل. سنكتفي بما هو أبسط لنسأل: إذا كانت العناصر الثلاثة هي على التفاعل المستمر فكيف تبقى ثلاثة؟ هل العلة هي أن الكاتب يميز بين جوهرين ثابتين ثم علاقة التفاعل بينهما فتكون بذلك العناصر ثلاثة؟ لكن ماذا لو اعتبرنا الحدين اللذين بينهما التفاعل هما بدورهما كائنين غير ثابتين فلعلهما هما بدورهما تفاعلان لعناصر أخرى إلى غير غاية. وللمساعدة فلنسلم بأن العناصر المتفاعلة ثابتة ولنسأل: أليس التفاعل مشاركة بين المتفاعلين؟ فهل نميز بين فعل س في ص وفعل ص في س أم نعتبرهما شيئا واحدا ذا اتجاهين؟ إذا ميزنا فبم نمير؟ وإذا لم نميز فلم لا نميز؟ وفي حالة عدم التمييز ألا تكون الفاعلية في التراث ككل خاضعة لقاعدة مجموعة أقسام المجموعة فتكون 2 (الواقع والفكر) قوة ثلاثة (إما الفكر يفعل في ذاته أو في غيره أو الواقع يفعل في ذاته أو في غيره أو كلاهما يفعل بالتوازي دون تفاعل أو بالتفاعل أو لا واحد منهما يفعل كأن يجمد كل شيء وهو أمر ممكن وكل هذه الحالات تحصل بحسب الظاهرة التي نريد فهمها بهذا المنهج) وإذا ميزنا اتجاهي التفاعل ألا تصبح 2 قوة 6؟ فكيف سينحصر الأمر خاصة والتفاعل هو بدوره يتفاعل إلى غير غاية؟ أم هل إن هذا ليس من العقل الذي يقول به صاحب التأويل العقلي؟

6. ناصر حامد أبو زيد فلسفة التأويل ص: 34. واختيارنا لنص من أعمال ناصر حامد أبي زيد لا يعني أننا نقبل بالرد الفقهي على سلوكه كما فعلت المؤسسة الدينية في مصر. فهذا العلاج جعل الرجل ضحية فصيره نجما دون أن يكون أهلا لأن يعتد بفكره لو كان بين علماء الدين من رد عليه ببيان خوائه العلمي في ما يدعيه من العلوم الحديثة. رد المؤسسة الدينية لم يكن ذا علاقة بالمسألة المعرفية بل هو صراع مصلحي بين النخب في لحظة معينة من لحظات المؤسسات النخبوية في مصر الحديثة. ما يعنينا من الكلام في المسألة هو فهم الأزمات التي يعاني منها الفكر الإسلامي والعلاج الفقهي القاصر لهذه الأزمات فضلا عن كونه خروجا عن دور الفقه الذي هو تنظيم للأفعال وليس للأفكار وخاصة للأفكار في مستوى البحث العلمي المختص الذي ليس له تأثير مباشر على الرأي العام الجمهوري (لأن الأفكار تصبح أفعالا عندما يريد أصحابها الانتقال من البحث العلمي إلى التأثير الجمهوري) لم يكن علاجا موفقا: فكيف يستنتج الفقهاء من آراء حامد أبي زيد أنه كافر وأنه ينبغي أن تطلق منه زوجته؟ هل صار التكفير حكما فقهيا من دون أن يسبق بإعلان المكفر أنه لم يعد يشهد الشهادة التي بإثباتها يدخل الإسلام وبنفيها يخرج منه؟ وإذا نفاها فقد خرج من الإسلام ولم يعد خاضعا لحكم الفقه الإسلامي بل يصبح كما ورد في آية المرتدين مرجئا إذ قد يثوب إلى رشده فيعود إلى حظيرة الإسلام أو يبقى على ردته فيحاسبه ربه بصريح نص الآية: 215 من البقرة. لذلك فإني اعتقد أن محنته لا علاقة لها بالمسألة الفكرية التي أناقش رأيه فيها دون سواها معتبرا الأمر الآخر ثمرة الصراع بين الأصوليتين اللتين أفسدتا الفكر العربي الإسلامي.

7. لا أحد سليم العقل يمكن أن يتصور كل هذه الأمور قابلة لأن يحيط بها عقل إنساني فيعالجها علاجا يزعم له أدنى قدر من العلمية. وإذا كنا قد أدركنا منذ أمد طويل أوهام العلم الميتافيزيقي الكلي لعالم الطبيعة فكيف لم يدرك هؤلاء بعد أن الاستحالة أكبر بخصوص عالم التاريخ الذي يقتضي حل معضلات الطبيعة بالإضافة إلى معضلاته حتى لو قبلنا بما يراه العقلانيون بأنه لا وجود لما وراء هذين العالمين؟ وكان يمكن أن يقبل مثل هذا المشروع من شخص متواضع يريد أن يدلي برأي تحكمي حول تصوره لعلاقة هذه الأمور بعضها بالبعض بمجرد بادئ الرأي أما أن يزعم أن ذلك عمل يمكنه من الحكم في قضايا الوجود والدين والزعم بأنه يقدم معرفة ذات دلالة فإن ذلك إن لم يكن من السذاجة أو من الغفلة فهو من اللامبالاة بعقول المخاطبين. ولهذه العلة فإن المرء يحق له أن يزعم أن المتعاقل من المفكرين العرب أكثر تعصبا وأقل فهما لمعنى العقل من كل المتعصبين من الحزب المقابل رغم أن الحزبين كلاهما مجانب للصواب بسب الابتعاد عن معاني القرآن الكريم في مفهوم المعرفة الاجتهادية.

8. تقديم الواقع مبدأ وجوديا للتفسير علام يدل؟ إنه يدل على عدم إدراك امتناع ذلك وعلى الواقعية الغفلة التي تتصور الوجود شفافا بحيث يستطيع العقل الوصول إليه من غير وساطة الرموز الفاصلة بيننا وبينه دائما. ومما يعجب له المرء أن هذا الكلام يأتي ممن يزعمون الموقف التأويلي: فمن المفروض أن يكون أصحاب هذا الموقف أكثر فهما من غيرهم لدلالة التأويل وما تقتضيه من دور للرمز متقدم على ما يسمونه واقعا.

9. التثليث الجدلي مبدأ منهجيا وفيه من السذاجة المنطقية فضلا عن المعرفية القدر الكبير. فهبنا سلمنا بأن الأمر يتعلق بعلاقة بين الفكر والواقع فلم هي إذن في اتجاه واحد؟ أليست علاقة ثنائية تقبل الاتجاهين؟ وبأي معنى يعتبر فعل الواقع في الفكر وينسى فعل الفكر في الواقع؟ ثم لم يعتبران أمرا واحدا إذا قبلنا بأن الوجه الثاني لم يهمل؟ ثم أين نضع الاعتقاد بفاعلية الواقع أو بفاعلية الفكر أعني الموقف التفضيلي لأحد العاملين على الآخر في الفاعلية؟ هل هو من الواقع أم من الفكر أم ماذا؟

10. استدلالا بالنص نفسه حجة على نفسه. هذه الحجة تعود إلى القول بأسباب النزول والتلازم بين القرآن كحديث والأسباب كأحداث. أليس هذا الوهم من جنس من يظن أن النظرية في العلم مثلا لها صلة بالأمثلة التي يضربها الأستاذ لتلاميذه في التدريس ليفهمهم النظرية؟

11.  ما المكونات؟ ولم حصرت في ثلاثة؛ حصرها في ثلاثة لأنه تثليثي أولا ولأن ذلك من شروط العلاج الجدلي. وهذا طبعا من التحكم. ذلك أن المعادلة الأصح حتى بمنطق هذا المتفلسف بغير علم تقتضي أن نميز بين واقع النصين المرجعيين وواقع التفاسير وواقع الفلسفة اليونانية وواقع الحصيلة من تفاعلاتها إن صح قوله. فكيف يعتبر هذه الأصناف المختلفة من الواقع واقعا واحدا؟ وكيف يعتبر النصين والتفاسير من نفس الطبيعة؟ ثم كيف له أن يأخذ الفلسفة اليونانية وكأنها لا واقع لها تكون في صلتها به قد كانت في ما يزعمه من صلة للقرآن والسنة بواقعهما ؟ فكان من المفروض بمنطقه أن يتكلم على ثلاثة أصناف من الواقع لأنه تكلم على ثلاثة أصناف من النصوص تسليما بأن هذه النصوص لها وحدة ما. وكان من المفروض ألا يتصور العلاقة بين النص وواقعه علاقة ذات اتجاه واحد: فمثلما أن للواقع فعلا في النص فللنص فعل في الواقع ومثلما أن النصوص تتفاعل فإن الواقعات تتفاعل فيكون النص القرآني مثلا متفاعل مع الحديث والحديث مع النص القرآني والتفسير معهما وهما معه والسيرة مع التفسير والتفسير مع السيرة إلخ… ونفس الأمر بين الأحداث التي يدور حولها القرآن والحديث؛ لأن الحدث يفعل في الحدث وينفعل به بصرف النظر عن توسط الحديث وبتوسطه فنكون أمام شبكة من العلاقات لا حصر لها. فكيف استطاع هذا العبقري أن يفك هذا التشاجن بحيث استطاع أن يضع فلسفة في التأويل تعود في حقيقتها إلى فكرة سطحية هي قانون التأويل القديم: إذا تعارض العقل والنقل يقدم الأول ويؤول الثاني في ضوئه دون حصر للعقل ما هو ولا للنقل ما هو ولا خاصة لكيفية الانتقال من المعنى الظاهر إلى المعنى الباطن في عملية التأويل مع افتراض العلم الذي يحقق ذلك مستقلا عن كل هذه المؤثرات بحيث يمكن من تحرير سواه منها. ولسنا نعقد الأمر إلا لأننا بأخذ كلام أبي زيد مأخذ الجد. لكنه في الحقيقة لا يحتكم إلى الواقع كما يزعم بل هو يحتكم إلى نظرية في الواقع هي الفلسفة الماركسية نظرية تغنيه عن الكلام في تعدد الواقعات التي أشرنا إليها؛ لأنها جميعا تعود إلى العملية الكيماوية السحرية الماركسية في العلاقة بين البنيتين التحتية (الواقع) والفوقية (النص). وهو لا يسأل عن الآليات التأويلية الناقلة من الواقعات المتعددة إلى دلالاتها؛ لأنه يكتفي بآلية الانعكاس الماركسية الفجة. لكننا حاولنا بيان آليات القرآن في علاجه موضوعاته لما أشرنا إلى أسلوب التعبير بكونه ما بعد السرد الروائي وأسلوب الاستدلال بكونه ما بعد الطرد النظري منذ بداية المحاولة.

12.  والمعلوم أن الفرقتين تستندان إلى أساس منعدم عند المزعوم عقلانيا من مفكرينا: فهم كانوا يؤمنون بأن القرآن وحي. ولذلك فلا يحق لأحد من مفكري العرب الحاليين أن يزعم الانتساب إلى أي من الفرقتين. فمهما كان المعتزلي مغاليا فهو لم يزعم أن القرآن من تأليف محمد؛ لأن القول بخلقه لا يعني أن خالقه ليس هو الله. وفي الحقيقة فإن الخلاف بين الخلق والقدم في القرآن خلاف لفظي. ذلك أن القرآن من حيث هو فعل الكلام الإلهي صفة فعلية فلا يكون مخلوقا ككل الصفات التي هي عند المعتزلي اعتبارية ومن ثم فالكلام ذاتي لله إذ لا أحد من المعتزلة قال إن الله أبكم وأقصى ما يمكن أن يفعلوه هو رد الكلام إلى النطق ومن ثم إلى العلم وهم في ذلك لا يكادون يختلفون حتى عن الحنابلة إذ إن أهم حجج ابن حنبل في المحنة كان الآيات الدالة على قدم العلم لا على قدم الكلام. ومن حيث هو مفعول الكلام أي الكلمات التي تنتج عن فعل الكلام فلابد أن يكون مخلوقا مثل كل الكائنات الأخرى التي يصفها القرآن أيضا بكونها كلماته. ومن ثم فكل المشكل علته الخلط بين فعل الكلام ومفعوله. إذا ميزنا بين الأمرين وكلاهما تفيده مفردة كلام زال المشكل ولم يبق إلا الخلاف اللفظي: والعلة أن المصدر في العربية يفيد الأمرين الفعل والمفعول. وحتى لو سلمنا بكونه مخلوقا دون هذا التمييز الذي غاب عن أذهانهم غير المدركة للطائف المعاني فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنه تاريخي خاصة في عصر المعتزلة: إذ حتى الفلسفة فضلا عن الكلام كانت تعتبر عالم ما فوق القمر أزليا وأبديا أي قديما فيكون القرآن رغم كونه مخلوقا من هذا الجنس. كل الكلام الحالي عما كان يعنيه المعتزلة بالمخلوقية لا معنى له وهو إسقاط لمعاني حديثة لم تدر بخلد أي معتزلي: كل ما كان يعنيه المعتزلة هو اعتبار القدم خاصية إلهية لا يشاركه فيها أحد وهو من إفراط التنزيه الذي صار تعطيلا ومن ثم فهو يقابل تمام المقابلة ما يعنيه المحدثون بالمخلوقية التي تعني عندهم التاريخية.

13.  للتدقيق حول هذه المطالب الثلاثة في العلم القديم راجع أبو يعرب المرزوقي الرياضيات القديمة ونظرية العلم الفلسفية الدار التونسية للنشر تونس 1985. ص: 45 وما بعدها.

14.  والتمييز بين التجربة الحاصلة والتجربة الممكنة من المبادئ الأساسية في كل مناقشات ابن تيمية للرازي. وأكثر النصوص صراحة ووضوحا في هذا المضمار وردت في بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ردا على كتاب “تأسيس التقديس” للرازي (طبع المرة الأولى ناقصا في مطبعة الحكومة بالرياض في جزأين سنة 1979  ولم يعد طبعه كاملا إلا سنة 2006)

15.  اختار كلمة “عبور” عن قصد؛ لأن التأويل بالمعنى المستعمل في محاولات الحداثيين تقيسه على تأويل الأحلام في علم النفس. وذلك ما يسمى في القرآن تعبيرا للرؤى والأحلام. وهم يفترضون أساسا لهذا القياس بسبب تصورهم القرآن منتوجا مخياليا من جنس الأحلام والأساطير التي تحتاج إلى تعبير آليات العبور فيها هو نظرية اللاوعي الإنساني. ومن تناقضات هذه التصورات أنهم يظنون هذا الرد حلا كافيا لفهم ظاهرة الوحي. فهبنا سلمنا لهم تسامحا جدليا أن الوحي من إبداع الخيال: فهل لهم تفسير علمي للإبداع عامة فضلا عن الإبداع في النصوص الدينية؟ إذا كنا لا نستطيع تفسير أي إبداع مهما كان ضئيلا في أي مجال من مجالات الإبداع الرمزي علميا كان أو فنيا أو شعريا أو روحيا فأي فائدة من هذا الكلام الذي يتصورونه جوابا عن مغلقات الوجود وهو في الحقيقة حل وهمي يحتاج إليه المثرثرون في ما لا يفقهون.

16.  بل يمكن أن نضيف أن الإبداع لا يتعلم ولا يعلم أيضا. فيمكن أن تعلم الإنسان علما من العلوم أو فنا من الفنون إلى حد إتقانه إتقانا باهرا. ويمكن أن تعلم شخصا الرسم إلى حد التقليد الدقيق واللطيف لإبداع غيره. لكن ذلك لا يضمن أنه سيصبح مبدعا في ذلك العلم أو في هذا الفن. ما نستطيع تعليمه للإنسان هو الشروط الضرورية للإبداع أي ما لا يمكن للمرء أن يصبح مبدعا من دونه. لكن ذلك غير كاف لحصول الإبداع: والأمر الذي ينقل الإنسان من إتقان فن أو علم إلى الإبداع فيه غير معلوم. وهو من جنس كل الطفرات الكيفية في الوجود سواء كان طبيعيا أو إنسانيا. لذلك كان الإبداع أشبه شيء بالوحي الذي يمكن أن يعد ذروة الإبداع عند المصطفين إذا سلمنا أنهم ليسوا مجرد أبواق تنطق بما يملى عليها بل لها دور أعدها الله للقيام به في ما اصطفاهم لأجله. ولذلك كانت الرؤيا جزءا منهما على نفس النحو بوجه ما. فهذا من أسرار الأنفس مثلما أن الظاهرات في العالم الطبيعي هي من أسرار الآفاق. وأسرار الآفاق والأنفس هي التي يطلب منا القرآن تدبرها للاجتهاد في فهم ظاهراتها الشاهدة دون الطمع في باطناتها الغائبة.

17.  قل أن تجد من ينكر هذا الأمر. فالأمة الإسلامية عالة على غيرها في كل ما له صلة بالدورة الأساسية بين العمران ومحيطه الطبيعي. وقد حاول الغزالي الفصل بين الميتافيزيقا والعلوم الطبيعية أداتها الرياضية والمنطقية حتى يمكن الأمة من شروط الوصل بين العمران والطبيعة دون أن يكون ذلك مقتضيا فلسفة طبيعية تغني عن الدين. لكن عاهة سد الذرائع تغلبت فاعتبرت الفلسفة كلها سببا في الكفر وأصبحت العلوم الطبيعية مقصورة على التقنيات البسيطة التي يحتاجها الفقيه مثل الحساب والفلك. وتلك هي العلة الأساسية في تخلف المسلمين وحصول النهضة الحديثة في الغرب بدل من حصولها عندنا: إنها فساد النظام التربوي واعتباره مقصورا على التربية الروحية من دون وسائل تحقيق الثورة القرآنية التي أسست لضرورة الوصل بين الدين والدنيا واعتبار الدنيا مطية الآخرة.

18.  ما قلناه عن علوم الطبيعة يمكن أن نقول مثله عن علوم الإنسان. فالأمة الإسلامية هنا أيضا عالة على غيرها من الأمم لنفس العلل؛ لأن سد الذرائع قتل العلوم العقلية في المجالين الطبيعي والإنساني خوفا من الفلسفة التي هي تأسيس للعلمين تأسيسا ظنوه من جنس واحد هو المؤدي إلى الإلحاد الكفر ولم ينتبهوا إلى ما أشار إليه الغزالي في مقدمة تهافت الفلاسفة من أن ذلك لا يصح إلى على أنصاف الفلاسفة على المحققين من الفلاسفة. ذلك أن تصور الفقه والعلوم الدينية ممكنة من دون العلم بالنفس البشرية وبالاجتماع الإنساني من الأوهام التي نتجت عن تصور التشريع لأفعال البشر من دون علم بقوانينها ممكن. وفي الحقيقة فإن كل الفقه والتصوف الإسلاميين يعتمد بوعي أو بغير وعي على علم نفس وعلم أخلاق وعلم اجتماع كلها بدائية ومستمدة من الفلسفة اليونانية ولعل أهم معايير الأخلاق أعني ما يسمى بالتوسط بين الإفراط والتفريط من مبتذلات علم النفس الخلقي الأرسطي. ومعنى ذلك أننا علماء الدين عندنا لم يفهموا بعد أن التقويم الديني لا يكون إلا تقويما من القوة الثانية أعني أنه يكون دينيا حقا إذا انبنى على علم حقيقي بموضوعه كما يدعو إلى ذلك القرآن الكريم الذي يريد للعمل أن يكون على علم. ولما كان هذا العلم لا يكون إلا بالمعنى العقلي والتجريبي وليس بتفسير النصوص: وذلك هو جوهر القانون القرآني الذي اعتبر تبين أنه الحق يحصل في آيات الآفاق والأنفس وليس في آيات النصوص. ومعنى ذلك أنه لا يمكن الاستغناء بالنصوص عن النظريات العلمية وما بعدها؛ لأن النصوص تدعو إلى ذلك بل وتعتبر فهمها مشروطا بها.

19.  ورمز الكمال هذا يمكن أن يحدد إما بالمقارنة مع الأنبياء الآخرين المقصوصين في القرآن كما هي الحال في القدرة على البيان بالمقارنة مع موسى الذي احتاج إلى وزير هو هارون الأقدر منه على البيان أو حتى بإبراهيم عليه السلام الذي كان أواها ولم يحقق رسالة لأمة بل اقتصر على أسرته أو باستقراء السنة التي تبين قدراته النظرية في التخطيط للعمل وقدراته العملية في الانجاز فضلا عن القيادة السياسية سلما وحربا. هذا فضلا عن الصفات الأخرى في الحياة الخاصة التي تبين كمال الإنسانية رجولة وفروسية (قيادة الحروب) وتعاملا مع الرزق (التجارة) ومع الذوق (حب النساء) وليس هو مجرد نموذج عاطل كغيره من النماذج التي تضرب في الأديان المحرفة والتي هي من جنس الرهبانية التي يمقتها القرآن ويستبدلها برهبانية الإسلام أي: الجهاد من أجل تحقيق القيم في التاريخ الفعلي سلما وحربا.

20.  ولذلك وكما أسلفنا فإن الاختلافات الطفيفة التي يحتج بها البعض تثبت عكس ما يحاولون إثباته: فهي أولا لا تغير شيئا من أساسيات النص وهي ثانيا دليل على الأمانة العلمية التي يتحلى بها علماء القرآن في التقليد الإسلامي بخلاف ما عليه الأمر لو سعوا إلى نفي ما لا يمكن أن يخلو منه نص من بعض الفروق الطفيفة التي لا تغير المعاني. ذلك أن المسلمين لا ينفون أن بعض الآيات نزلت بصور مختلفة فلا يكون الخلاف دالا على الانتحال بل على التعدد في صوغ بعض الآيات وهي هامشية ولا تؤثر في جوهر النص العقدي والشرعي. وكل من يدرس بعض الملاحظات في الكتابات العلمية الجدية للمستشرقين مثلا يكتشف أمرين مهمين: الأول أن كل ما يذكرونه عن الاختلافات لم ينكره المسلمون وأغلب هذه الاختلافات هم قد وجدوها في مناقشات علماء القرآن المسلمين والثاني أن كل من التزم منهم الطريقة العلمية في مناقشة هذه المسألة يعترف بأن هذه الاختلافات لا تمس جوهر القرآن؛ لأن المعنى الأساسي يبقى محفوظا. كما أن جل الاختلافات سببها إما اختلاف القراءة أو بعض نقائص الكتابة الأولى التي استعملت من التنقيط والإعجام فتكون أخطاء مادية من جنس الأخطاء المطبعية لا يخلو منها تقييد للإدراك الإنساني لموضوعه أيا كانت قدسيته.

21.  ما المقصود بالدجل والخداع؟ إنه السياسة التي أداتها الدعاية والرمز ومثالها كل الدكتاتوريات التي تعمل بالدعاية وتزييف الوعي. وهذا أمر لا يخلو منه نظام سياسي. لكنه متناسب طردا مع تقدم فنون التواصل والعلم بالنفس البشرية وأدوات الحرب النفسية وكلها مبدؤها التلاعب بالوعي غسلا للأدمغة وتزييفا للوعي. ولا فرق في ذلك بين الأنظمة الديموقراطية وغير الديموقراطية: ذلك أن الحكم ليس له إلا وسيلتين في غياب الشرع الإلهي: الفساد والعنف.

22.  ما المقصود بالعجل والمضاربة؟ إنه الخطة التي أداتها استعجال الثمرة للربح وأداتها تجارة العملة. والأمران بينان لكل من ينظر من حوله أو يسمع الأخبار الاقتصادية في الفضائيات. فالعالم يحكمه المضاربون الذين أفسدوا حتى آلية السوق الأساسية أعني الطلب والعرض. ولعل ما يعجب له المسلم هو أن البلاد الإسلامية التي نتصورها موطن الشريعة هي التي باتت يحكمها منطق المضاربة والبورصة والتجارة في العملات أعني في الاقتصاد الورقي الذي لا تناظره ثروة حقيقية.

23.  مهما تكدس الغذاء والرزق في حالة المترفين فإنه لين يغني من جوع عضوي ما ظل فاقدا لما يضفي عليه المعنى الفاعل بغيابه أعني الشاهية العضوية التي بها يصبح الغذاء والرزق ذوي معنى. وأكبر علامات فقدان المعنى العضوي عند المترفين التبذير المجاني في المأكولات والتصنيف الغذائي. فمائدة الأكل بما عليها تثبت عكس الحقيقة أي إنها دليل على فقدان الشاهية العضوية وليست دليلا على قوتها بل هي متناسبة عكسا معها. ومن ثم فغالبا ما يرمى ما عليها في المزابل.

24.  مهما تكدس المعنى والذوق في حالة المعدمين فإن يغني من جوع معنوي ما ظل فاقدا لما يضفي عليه المعنى الفاعل بغيابه أعني الشاهية الرمزية التي يصبح بها المعنى والتواصل ذوي معنى. وأكبر علامات فقدان المعنى الرمزي عند المعدمين المعدمين التبذير المجاني في الخرافات والشعائر الرمزية. فتدين المعدمين يثبت عكس الحقيقة أي إنه دليل على فقدان الشاهية الروحية وليست دليلا على قوتها. ومن ثم فغالبا ما ترمى الشعائر في المزابل ويعمل المعدم بما تقتضيه حياة من لا أخلاق له غير التي وصفها ابن خلدون عند كلامه على فقدان معاني الإنسانية في المجتمعات التي ربيت على العسف والقهر.

د. أبو يعرب المرزوقي

أستاذ الفلسفة، كلية الآداب
جامعة تونس الأولى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق