وحدة الإحياءقراءة في كتاب

في شرعية الاختلاف.. قراءة في كتاب: “فقه وشرعية الاختلاف في الإسلام: مراجعات نقدية في المفاهيم والمصطلحات الكلامية1” للدكتور عبد المجيد الصغير

 مهما تكن مبررات الفكر العربي-الإسلامي الحديث والمعاصر للانعتاق من سلبيات الماضي، ورغبته في معانقة الحاضر والتطلع إلى المستقبل، فإنها مبررات لا تكتسب مشروعيتها إلا إذا انتبه هذا الفكر إلى واقع التداخل الحاصل بين أنماط الزمن في الذاكرة الجماعية، واقتنع باستمرار تأثير التراث الفكري والتاريخ المشترك في حاضر وواقع المجتمع العربي والإسلامي، الأمر الذي يستوجب اتخاذ ذلك التراث وهذا التاريخ بعين الاعتبار عند كل دعوة للتغيير والإصلاح.

 ومن ثم فليس صحيحا، مثلا، وأن دراسة المذاهب الفقهية والاتجاهات السياسية والفرق الكلامية في تاريخ الإسلام، أمر يحيلنا إلى تراث ماض لم يعد له تأثير في واقعنا الحاضر… وليست الدراسات الأنثروبولوجية وحدها كفيلة بتبديد مثل هذا الوهم، بل إن الوقوف على تطور الأحداث السياسية والفكرية المعاصرة، في العالمين العربي والإسلامي، هو أيضا يحملنا على الانتباه إلى علة عودة الدراسات الاستشراقية، إلى العناية بتاريخ المفاهيم والأفكار والمذاهب والفئات الفكرية السائدة منذ ظهور الإسلام.

ويكفي الإشارة هنا إلى استمرار التداول في حياتنا الفكرية والاجتماعية المعاصرة لمفاهيم تنتمي في الأصل إلى تاريخنا الماضي البعيد، السائدة منذ ظهور الإسلام… ويكفي الإشارة هنا إلى استمرار التداول في حياتنا الفكرية والاجتماعية المعاصرة لمفاهيم تنتمي في الأصل إلى تاريخنا الماضي البعيد ولكنها مفاهيم لا تخلو من حمولات ومضامين شديدة التأثير في حياتنا اليومية، بل هي مفاهيم طالما وظفت إيديولوجيا وسياسيا في وسائل الإعلام المختلفة.

 وذلك من قبيل؛ “الأصولية” و”البدعة” و”السنة”، أو مفاهيم “الإرهاب” و”التطرف” و”الحداثة” و”التسامح”… وغيرها من المفاهيم الفاعلة إلى اليوم في الحقل الفكري العربي والإسلامي والتي تتعرض إلى الاستغلال الكثيف والتوظيف الإسقاطي المتعدد الأنواع، سواء من قبيل الجهات المتصارعة داخل العالم العربي والإسلامي[1].

في هذا السياق؛ سياق مراجعة مفاهيمنا الحضارية مراجعة تبتغي تعميق الفهم وضبط المعاني وتصحيح التصورات؛ يأتي كتاب “في فقه وشرعية الاختلاف في الإسلام” للمفكر عبد المجيد الصغير. الذي يشدد فيه على الارتباط الواقع بين المفاهيم والحياة العملية والممارسات اليومية، من خلال تأكيده أن إصلاح أوضاعنا العملية رهين بإصلاح مفاهيمنا وأحكامنا، خاصة منها تلك الأحكام والتقييمات المتسمة بالقطع، والحائمة حول معاني الرفض والقطيعة والإقصاء والتبديع والتكفير، خصوصا أن كل القرائن تشير إلى طغيان الأسباب والاعتبارات السياسية التي من شأنها أن تعمق الخلاف، فينعكس ذلك على الجانب المفاهيمي، ثم يسري أثره حتى إلى الجانب العقائدي.

فالمفاهيم ليست مجرد أداة تقنية تستجلب أو آلة مادية جاهزة تشترى، بل هي كائن حي تنعكس عليه تجارب المجتمع، وبواسطته تنصهر فيها رؤيته للوجود وتختزل فيها تجاربه الخاصة التي تؤطر تلك الرؤية وتحدد لها مقاصدها وأهدافها.

بمحاولته هاته يحاول الصغير التنبيه إلى أهمية المبررات والأسباب التي ترجع إلى الحقل اللغوي، المصطلحي، والمفاهيمي، الذي كان دوره عميقا في توسيع شقة الخلاف بين المنتمين للإسلام وفي استمرار “سوء التفاهم” بينهم في تصور إشكالاتهم النظرية وقضاياهم العلمية… ولهذا يعتبر أن من الواجب المزج بين الأسباب السياسية والاجتماعية والأسباب اللغوية، إذا أردنا حقا فهم التراث الفكري في الإسلام، خاصة بعد أن صارت بعض مفاهيم ومصطلحات هذا الخطاب تبعث من جديد بدلالتها القديمة، وتطفو على حياتنا الفكرية والسياسية المعاصرة ولا تتأخر جهات وجبهات داخلية أو خارجية، في توظيفها “كأسلحة” للاختراق أو معاول للهدم وتصفية الحساب.

فضلا عما سبق، يستمد الكتاب راهنيته، من طبيعة الأسئلة الإشكالية التي حاول الكاتب الاقتراب منها؛ من قبيل: كيف كانت مواقف مفكرينا القدامى من الآخر المختلف أو المناقض؟ وكيف تعاملوا فكريا معه، وكيف جادلوه؟ وهل تحصل من هذا كله رصيد يمكن أن يسند الدعوة إلى مشروعية الاختلاف في الإسلام، وإلى ترسيخ قواعد الحوار وتقاليده؟

الكتاب في شكله العام جاء متضمنا لمدخل وثلاثة فصول وخاتمة. في مدخل الكتاب، تطرق الصغير إلى إشكالية التأريخ للنص وتأويله في الفكر الإسلامي؛ فأشار إلى المنزلة الخاصة التي يحتلها النص في العلوم الإنسانية، وبخاصة في تاريخ الفلسفة، مادام النص بطبيعته قابلا في هذه العلوم للتحول إلى حدث يؤرخ له وبه، ومادام هو قد صار، بفضل ذلك، يمثل الشهادة الأولى، وربما الشهادة الوحيدة التي تحيلنا إلى الممارسة الفلسفية وتشهد على طبيعتها ونوعيتها، الأمر الذي يجعل من النص الفلسفي نصا مكتوبا بالضرورة، ووثيقة يمكن الاحتكام إليها وحدثا قابلا في نفس الآن للتأريخ والتقويم له، سواء في نفسه أو في ضوء علاقاته الممكنة بنصوص أو علوم أخرى، إنسانية وطبيعية.. ثم يأتي القارئ المؤول ليشكل نقطة التقاء وتفاعل بين همومه الآنية وتطلعاته المستقبلية، وبين المحمولات المعرفية الممكنة للنص المتعامل معه[2].

يجعل عبد المجيد الصغير من النص، بحكم مرجعيته وتأسيسيته، منطلقا لبناء الحضارات؛ إذ لا تنطلق حضارة أمة من الأمم إلا من خلال “نص مؤسس” يعد بمثابة دستور لها، مستوعبا للأسس والقواعد المنظمة لحياتها والموجهة لتفكيرها وفعاليتها الحضارية..إذا ما أحسن الاتصال بهذا النص وتنزيل قيمه على الواقع.

كما تناول الصغير في مدخل كتابه، أهم العوائق التي تحول دون الاتصال السليم بالنص الإسلامي في عصرنا الحالي؛ وقد أجملها الصغير في العوائق الإيديولوجية والمعرفية؛ التي تتجلى في سيادة نزعة إقصائية نافية لكل مخالف لها؛ من فرق كلامية وطرق صوفية، ولما أمكن تجاوز هذا العائق في بداية القرن العشرين برز عائق آخر حادث، ليس أقل أثرا من سابقه، فرضه سياق المركزية الغربية.

وهو العائق المتمثل في المعرفة الاستشراقية التي فرضت نمطا جديدا من التفكير والمقاربة على الباحث في الفكر الإسلامي، حيث اعتبرت كل ما أنتجه العقل الإسلامي مجرد حلقة وصل بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الغربية الحديثة، وهو ما أثر سلبا على المدرسة الإصلاحية الإسلامية بزعامة محمد عبده وتلامذته، لتقع، بذلك، في رد فعل دفاعي يشدد على أصالة الفكر الإسلامي وينفي كل التهم عنه، ويمكن الحديث هنا عن كتابات مصطفى عبد الرزاق وعلي سامي النشار وغيرهم..

ويضيف الكاتب عائقا معرفيا ثالثا حال دون قيام بحث علمي في كتابة تاريخ الفكر الإسلامي، وهو “حداثة اتصال المفكر المعاصر بالمادة الأساسية للتأريخ للفكر الإسلامي خصوصا الفكر المعتزلي الذي ظل محجوبا عن التداول إلا ما كان من حديث الخصوم عنه، وشكلت موسوعة المغني للقاضي عبد الجبار التي تم تداولها مؤخرا قفزة منهجية في هذا الأساس لتجاوز القصور الحاصل في التداول السليم للفكر الاعتزالي والذي كانت النزعة الإقصائية التي طبعت الفكر الإسلامي تجاه المخالف عاملا رئيسا فيه.

وتبرز النزعة الإقصائية بشدة في تصنيف الفرق الكلامية، في سياق التأريخ لها، إلى فرقة ناجية وأخرى ضالة مبتدعة مصيرها النار، هذا التأريخ الذي يتم “بطريقة معكوسة مع سبق الإصرار وتعمد التحريف والقراءات المغرضة في كثير من المواطن”، ومن أولئك الذين نالهم هذا التأويل التحريفي والتأويل الإسقاطي من طرف مؤرخي الملل والنحل المنتمين في أغلبهم للسلفية أو الأشعرية دون أدنى اعتبار لعوامل نشوء التيار أو التمعن في مقاصده ونصوصه نجد المعتزلة والجهمية.

ونظرا لسيادة هذا المنهج الإقصائي في التأريخ للفكر الإسلامي الأحادي الرؤية، يقترح الكاتب عبد المجيد الصغير لمعالجة هاته “الخطيئة العلمية” ضرورة إعادة كتابة تاريخ المتن الكلامي، كيفما كان انتماؤه في ضوء تحليل البنية اللغوية للنص، وكذا تحليل الظرفية التاريخية التي ظلت في الغالب مغيبة عند أغلب الذين يتصدرون لتأريخ وتقييم النص الكلامي، والأمر لا يقتصر على علم الكلام فقط، وإنما يشمل إعادة التأريخ للفكر الإسلامي كاملا دون إغفال للعلاقة بين نشأة العلم أو إنتاجه وبين مقتضيات تلك النشأة ومقاصدها العامة، وأن يتم كل ذلك في ضوء الدراسات والمناهج المعاصرة.

وفي هذا الإطار، نجد محاولات حديثة لتجديد النظر في الفكر الإسلامي مستفيدة من المناهج المعاصرة للعلوم الإنسانية، غير أن ذلك لم يعصمها من الوقوع في مزالق منهجية جعلت كل تلك الجهود مرهونة لرؤى أيديولوجية ضيقة، فهي وإن ادعت العلمية والموضوعية والتنوع المنهجي، إلا أن نزعتها التجديدية قد اصطدمت بهموم أيديولوجية قللت من طابعها التحديثي الذي رامت الظهور به وأصبحت تكرس تلك النزعة التي رأيناها في كتب الملل والنحل.

وعليه فللخروج من ضيق وجمود تلك العوائق التقليدية ومن متاهات هذه المزالق المشار إليها، هناك حاجة ماسة إلى إعادة كتابة تاريخ الفكر الإسلامي، بحيث تتضافر من أجل إتمامه تواريخ عدة، لا تاريخا واحداً. وبالمقابل لابد لمؤرخ الفكر الإسلامي أن يستفيد، وبقدر ما تسمح بذلك المادة المتعامل معها، من الأبحاث والمنهاج الإنسانية المعاصرة، لغوية، لسانية، منطقية أو إنسانية عامة[3].

لا يخفى عل المؤلف الآثار السلبية لاستعارة مناهج ومفاهيم غربية دون امتحانها في ذاتها قبل تنزيلها على النصوص الكلامية والأصولية. ولهذا نجده يدعو إلى تبيئة هذه المناهج واختبارها حتى تتلاءم وطبيعة النصوص المنزلة عليها. مما يمكن من مراجعة كثير من الأحكام التقويمية والتفسيرية السائدة قديما وحديثا حول مضمون ومقاصد الإنتاج الفكري في تاريخ الإسلام[4].

نفهم من كلام الصغير أن نظام الاستعارة في المفاهيم والأفكار كما في الأشياء يقتضي تمييزا دقيقا وفكرا ناقدا يقظا يحدد الشروط التي يجب توافرها في الاستعارات الضرورية.. شروط توافقها ونفعها ولياقتها.

أما فصول الكتاب فسنعرضها حسب ترتيبها، بشكل مفصل يتناول الأفكار التي سعى المؤلف إلى تقديمها، مركزين على الأفكار المحورية منها، حتى يتسنى للقارئ الإلمام والإحاطة التامة بمضمون الكتاب.

أولا: في البدء كانت السياسة: تأسيس النقد وتأصيل المفاهيم

لا شك أن من المداخل المهمة لضرورة تحصين النسيج الثقافي، حماية ورعاية المصطلحات والمفاهيم المعبرة عن هذه الثقافة. فالمفاهيم “مفاتيح العلوم”، وهي مواليد تنمو وتكبر وتزدهر وتضعف وتشيخ وتضمحل، ويجري عليها ما يجري على الكائن الحي من لحظة الميلاد إلى لحظة الوفاة.

 كما ينبغي أن لا يغيب أن عمليات النهب والسطو على مقدرات الأمة المادية تكون مقرونة بل مسبوقة بعمليات سطو ونهب أكثر خطورة لمقدراتها الفكرية، وذلك من خلال عمليات غزو ممنهجة تستهدف مضامين ودلالات المفاهيم والمصطلحات؛ بسحب ما هو أصيل وذاتي فيها، وتعويضه بما هو دخيل وأجنبي عنها. فيصبح تعريفنا لها ليس من خلال مجالها التداولي الأصيل وما يسمح به من مراجعة ونقد ومساءلة، بل من خلال مجال تداولي آخر يفرض نفسه نموذجا وحيدا لا يسمح إلا بالتبعية الفورية له، ممهدا بذلك وبمنهجيات بالغة الدقة لاستتباع فكري ومعرفي شامل[5].

سعيا لتجاوز حالتي التبعية والفوضى في المفاهيم والمصطلحات، يشير الصغير إلى أنه كان لزاما التأسيس للنقد والتأصيل للمفاهيم خاصة، وأن أي إصلاح لأوضاعنا، وأية محاولة لإحداث النقلة الحضارية عبر استئناف العقل المسلم لعطائه الفكري، يقتضي المرور عبر إصلاح مفاهيمنا وأحكامنا، مستلهمين في ذلك منهج القرآن الكريم، وروح المرحلة الأولى من تاريخ الحضارة الإسلامية، في تجاوز لكل التصنيفات الكلامية القديمة التي ترهننا لواقع اجتماعي وسياسي مخالف للواقع الذي نعيشه، وتحجب عنا الأسباب الحقيقية التي بررت الخلاف وسمحت به.

ولا ريب أن التحديد العلمي الدقيق للمفاهيم هو الذي يوفر الأرضية لخلق مساحات للحوار والتواصل والتفاعل والتعايش بين مختلف البيئات الحضارية والفكرية المتعددة، ذلك أن سوء فهم المصطلحات والمفاهيم المستخدمة من أطراف الحوار يؤدي إلى كثير من الخصومات الفكرية والصراعات المذهبية.

وفي زماننا المعاصر حيث الصخب الإعلامي والتشويه المتعمد لكثير من المفاهيم وبالتالي الحقائق يكتسب الحديث عن المفاهيم وضرورة مراجعتها وتحديدها التحديد العلمي مشروعيته؛ لأن تحديد المفاهيم والمصطلحات يصنع أدوات معرفية جديدة قادرة على إيصال حلقات الحوار ومساره إلى نتائجه المرجوة، كما تحفظ الحقائق المعرفية والتاريخية من الضياع في زحمة الصراع والصراخ واللغط وتداعيات الأحداث السياسية السريعة والصاخبة في آن.

لهذا يدعو الصغير في عنوان هامشي من فصله الأول إلى تكريس ثقافة الحوار والحجاج، وهي دعوة تجد أصولها النظرية في الخطاب القرآني، الذي يعرض لأول مرة في تاريخ الدعوات الدينية الكتابية، القضايا والأطروحات الميتافيزيقية عرضا نقديا في أسلوب يمتزج فيه الحجاج والمناظرة وطلب الإقناع والحرص على البرهنة، وهو الشيء الذي سيعمل سائر المتكلمين وبعض فلاسفة الإسلام على التأكيد عليه وإبرازه وتطويره انطلاقا من النص القرآني نفسه[6].

يبرز الصغير مركزية المفاهيم والمصطلحات في فكرنا الإسلامي، من خلال اعتبارها أحد الأسباب المهمة في نشأة الخلاف، ذلك أن الأسباب اللغوية والاصطلاحية قد شكلت عاملا أساسيا في تعميق الشرخ. صحيح أن الأسباب السياسية من أهم أسباب الخلاف في الفكر الإسلامي؛ بالنظر إلى ترعرع هذا الفكر في مناخ فكري احتلت السياسة فيه المقام الأول، وهو ما يؤكده الصغير بلسان الشهرستاني القائل: “وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة. إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان”.

ليخلص الصغير إلى قرب حضور المشكل السياسي في نشأة الفرق الكلامية التي تولدت عن ذلك الخلاف الأكبر في الإسلام. ولهذا يؤكد على ضرورة المزج بين الأسباب السياسية والاجتماعية وكذا اللغوية لتجاوز الإخفاق التاريخي والتأسيس لنقد سليم لمفاهيمنا ومصطلحاتنا.

والنموذج المرجعي عند الجميع هو التجربة السابقة التي جعلت من المدينة مركز الانطلاق، “من هنا أهمية الوقوف على طبيعة الظاهرة الإسلامية كظاهرة سيكون لها ما بعدها معرفيا وسياسيا”؛ بحيث ستكون مرجعا لما بعدها كما أنها تنهض بدور تأصيلي لأغلب المصطلحات التي سيتم تداولها فيما بعد.

فالإسلام، باعتباره رسالة شاملة، أحدث تغييرا عميقا في بنية المجتمع العربي، حيث قام من جهة بعملية “ترشيد” للمفاهيم القديمة الموروثة من المجتمع القبلي، وبث مجموعة مفاهيم لا يمكن إدراكها إلا في بعدها الاجتماعي والسياسي ومن خلال نقائضها في المجتمع القبلي، من تلك المفاهيم نذكر على سبيل المثال لا الحصر؛ الأمة، الجهاد، الاستخلاف، المعروف والمنكر، والشريعة التي جاءت مناقضة للأعراف والأحلاف القبلية، كما أن الجانب الاقتصادي شهد تغييرات مهمة صاحبت مرحلة التأسيس للكيان الجديد[7].

فكل هاته التغييرات الشاملة التي طالت المجتمع العربي في بنياته السياسية والاجتماعية والفكرية إنما كان مردها إلى “مركزية النقد في الخطاب القرآني”؛ فالنص القرآني أسس لأسلوب جديد في طرح القضايا المجتمعية والإنسانية لم تعهده الدعوات الدينية السابقة، خصوصا في الجانب الديني حيث أن نقده “يمتزج فيه الحجاج والمناظرة وطلب الإقناع والحرص على البرهنة”، وهو النهج الذي يعمل العديد من مفكري الإسلام على تأكيده والسير على منواله؛ ذلك أن اغتناء النص القرآني بمفاهيم ذات بعد اجتماعي وسياسي سيكون له بالغ الأثر على المتكلمين الذين سيمتحون منه في التأسيس لمعجمهم المفاهيمي.

ومن المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي لها اثر في الواقع الاجتماعي والسياسي نجد الميزان والحكم بين الناس بالقسط، والطاعة والأمر، والتنازع والبغي، والميثاق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 إنها جملة مفاهيم بشرت بمجتمع جديد قائم على العدل والحرية اكتملت معالمه الأساسية في زمن النبوة حيث التأمت المعالم النظرية لرسالة الإسلام مع واقع مجتمع النبوة، فأحدث ذلك نقلة نوعية على صعيد الإنسان والمجتمع[8].

تلك نماذج من المفاهيم والمصطلحات، نظن أن مضامينها السياسية، بالمعنى العام للكلمة، لم تكن لتخفى على القارئين الأول لذلك النص، الذي كان مأدبتهم اليومية. وسوف تؤدي القراءات الأولى لهذا النص ووقوف أصحابها على مصطلحاته، وعلى مدى حضور النقد في ثناياه، إلى الاعتقاد بضرورة تكوين سلطة سياسية تدبر الأمر، وتنهج نهجا سياسيا سيكون له ما بعده على المستوى الداخلي والخارجي.

وهو ما يمكن تلمسه في سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي قام بتنزيل تلك المفاهيم أحسن وأتم تنزيل، من وضع القبيلة التي تدل على التجزئة والصراع، إلى نموذج القبلة الموحدة لكل الأجناس والأعراق، الأمر الذي جعل القوى الأخرى تنظر إليه باعتباره تهديدا لوجودها. ومن أهم الإجراءات التي ساهمت في بناء المجتمع وتوحيد وجهته السياسية والاجتماعية إعلانه، صلى الله عليه وسلم، على نظام المؤاخاة الذي يمثل تجاوزا لنظام القبيلة وثقافتها، ويربط الفرد مباشرة بالسلطة المركزية؛ مركز التشريع ووحدة القرار السياسي والحكم المجتمعي.

كما أن إعلانه في خطبة حجة الوداع إلغاء جميع الديون الناتجة عن النظام الربوي في العهد الجاهلي يعد إجراء اقتصاديا مهما إلى جانب تحريم الربا التي كانت وسيلة من وسائل الاغتناء غير المشروع في المجتمع الجاهلي وتركيز الثروة في يد القلة، كما أن الهجرة إلى المدينة يدل على نوع جديد من الولاء للبديل العقائدي-السياسي المتمثل في النموذج الناشئ بالمدينة، فكل الروابط التقليدية في المجتمع العربي تفككت لتحل محلها رابطة العقيدة والسياسة.

ولا يعني ذلك رفض كل العناصر القديمة التي يمكن أن تسهم في خدمة المشروع الإسلامي كل ما هنالك أن الأمر يتعلق برفض العصبية القبلية أو الإبقاء على القبيلة كوحدة اجتماعية تم توظيفها “داخل فكرة الأمة كوحدة “سياسية” جامعة خاضعة لقانون وشرع واحد يعيد تنظيم الحياة الأخلاقية والاقتصادية والسياسية”. ومع ذلك لم يضق المجتمع الإسلامي بالتنوع العقدي، بل حافظ عليه وأسس له بميثاق وعهد، وهو “أمر غير مسبوق في تاريخ العلاقة بين الديانات”.

هذا ورغم ظهور الإسلام بنزعته النقدية الإصلاحية كناسخ لغيره من الديانات الكتابية التي طالتها انحرافات وتجاوزات، فإن ذلك لم يثنه عن الاعتراف بالحق الشرعي في الوجود لتلك الأديان. أما بخصوص الاختلاف مع الآخر في الأمور العملية فالمبدأ القرآني واضح بهذا الصدد وشواهده عديدة ومتضافرة، والقاعدة القرآنية بخصوص هذا الأمر تصرح بأنه: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8)، وبموجب هذا المبدأ القرآني فإن الكف عن العدوان العقدي، وعن العدوان السياسي خاصة في أجلى مظاهره وهو الاستعمار والطرد من الأرض، إن الكف عن ذلك كفيل بإقامة جسور من الحوار المتكافئ بقصد التساكن. وتلك هي مقاصد التعارف الإنساني بالمصطلح القرآني[9].

يؤكد الكاتب أن التنوع والاختلاف في التجربة الحضارية الإسلامية الأولى مع المخالف دينيا والنقيض عقيديا كان حاضرا بقوة، بل إن النصوص المرجعية تعتبر الأمر طبيعيا، وتؤصل له باعتباره عاملا أساسيا من عوامل التعارف والتكامل الإنساني.

كما يتعرض بالدراسة والتحليل لطبيعة الخلاف بين المسلمين؛ أي الاختلاف داخل المعتقد الواحد، حيث أن الأطراف المختلفة تسلم، مع ذلك، بمجموعة من الثوابت العقائدية ويكون الاختلاف في مستوى التأويل. فهناك نصوص واحدة، إلا أنها تؤدي إلى تعدد المعنى، تؤول تأويلات مختلفة تقام عليها أنساق من المذاهب. هكذا تكونت مذاهب الفقهاء وفرق المتكلمين.

يشير المؤلف ابتداءً إلى أن القرآن الكريم يعتبر الاختلاف ظاهرة طبيعية وتجل من تجليات الحياة الإنسانية. بيد أن هذا الاختلاف ينبغي أن يبقي على علاقة الود والتعايش بين المسلمين وغيرهم، فبالأولى أنه يبقي كل اختلاف طارئ على المسلمين فيما بينهم على جماعتهم كأمة واحدة، تحتكم إلى العدل والإنصاف وتتطلع أكثر إلى تجاوزهما نحو التواد والتراحم.

غير أن هذا التبرير الإيجابي في القرآن الكريم لواقع الاختلاف ولمشروعيته الأصلية قد جعله يبدي معارضة ويطلق تحذيرا من كل اختلاف آخر من شأن الإبقاء عليه الرجوع بالنقض على وحدة الأمة والرمي بها في أتون المنازعة والفتنة والفرقة وإسقاطها في وحل الفناء والاندثار. هكذا صار القرآن الكريم بمفاهيمه الخاصة وبمصطلحاته التي نحتها في المجتمع الإسلامي مناسبة للمسلمين عامة لتوسيع مداركهم الفكرية وإغناء مضامين قيمهم الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك من حيث إن النص القرآني طافح بتلك المصطلحات والمفاهيم التي لا تخفى فيها تلك الأبعاد التي نوهنا بها، كما لا يخفى تأثيرها الفعلي في المجتمع عامة والفكر الإسلامي خاصة[10].

لا نختلف مع الأستاذ الصغير في اعتبار أن الاختلاف حقيقة كونية وواقع إنساني؛ ومن الخصائص الواضحة في تكوين الاجتماع البشري. وأن القرآن الكريم يحدثنا عن الاختلاف والتنوع في أكثر من خطاب، ووفق أشد الصيغ واقعية ووضوحا: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (المائدة: 50)، ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (الروم: 21)، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ (البقرة: 251)، ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود: 118-119).

إن أمر التنوع في النص القرآني لا يتوقف عند هذا الحد، بل جاءت نصوص أخرى تؤكد عليه في أمر انقسام البشر إلى مجموعات بشرية تشكلت في أمم هي القبائل والشعوب؛ أي التشكيلات البشرية التي يوجهها النص القرآني إلى التعارف من أجل اللقاء، لا التصادم من أجل الجفاء والتناكر ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13).

لكن مادام الأمر كذلك فإننا نتساءل مع أستاذنا الصغير هل التجربة التاريخية للمسلمين على مستوى علم الكلام أقرت بهذه المعاني أم جاءت مخالفة لها؟ يشير الصغير إلى أنه بقدر ما كانت هنالك إشادة في تاريخنا بإيجابية الخلاف على المستوى الفقهي والتشريعي، كان التنديد قويا بذلك الخلاف على المستوى الكلامي والتأويل الاعتقادي؛ باعتباره خلافا من شأنه أن يفضي إلى القطيعة ويمنع أي تواصل، ليس فحسب على مستوى المفاهيم والمصطلحات أو على المستوى المعرفي والعلمي؛ بل إن تلك القطيعة تنسحب أحيانا كثيرة حتى على المستوى العملي وفي المجال الاجتماعي على الخصوص[11].

ثانيا: الفقه الأكبر كلام في السياسة

تطرق الصغير في هذا الفصل لعلاقة الخلاف في علم الكلام بالخلاف السياسي، وكيف أسهم الخلاف السياسي في نشأة الفرق الكلامية، حيث يشير المؤلف إلى أن أشهر خلاف بين المسلمين انصب بالأساس على تدبير مشكلة السلطة. وأن حضور البعد السياسي في نشأة أولى الفرق الكلامية، كان حضور قويا، وقد تجلى في ملابسات الأحداث التي أدت إلى تلك النشأة أو التي تلتها أو في المشاكل الفكرية التي شغل بها الفكر الخارجي، مما جعل الصغير مقتنعا بأن علم الكلام في أصله كان خلافا في السياسة، وليس في العقيدة[12].

وليؤكد أن الخلاف الكلامي جاء إفرازا طبيعيا لواقع سياسي؛ أورد مجموعة من الأحداث السياسية من التاريخ الإسلامي، حيث يعترف بأن المجتمع الإسلامي، في أزهى لحظاته، عرف نقصا في المستوى السياسي، وإن الخيرية لدى السلف الصالح تكمن في “نجاح الإسلام في تكوين جيل من الأفراد والقيادات… تلتزم، قبل غيرها، بمجموعة من القيم الجديدة” وإدراكها لطبيعة المجتمع الذي يعتريه في غالب الأحيان خلط بين الصلاح والفساد.

كما يقف عند فكرة أساسية، تؤكد أن أول خلاف وصراع نشب بين المسلمين بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان حول السلطة؛ أي كان خلافا سياسيا ولم يكن خلافا فكريا أو عقديا، وفي هذا الإطار تم إبراز العوامل التي زادت من حدة الصراع السياسي وعلى رأس هذه العوامل المشكل القبلي الذي عمق “الفتنة” بين المسلمين التي شغلتهم ردحا من الزمن، مبرزا، كذلك، بأن الإطار السياسي والتدابير السياسية كانت مؤطرة للخلافات الفكرية والعقدية.

 ما يلبث الصغير يؤكد أن الخلاف الكلامي ما هو إلا نتيجة طبيعية لإشكال سياسي، وأن هذا الخلاف قد ولد إحنا بين المسلمين فضلل بعضهم بعضا وبريء بعضهم من بعض. وهو ما يشكل عند الصغير مبررا معرفيا لتدشين مراجعات مستعجلة للعديد من الأحكام القطعية الغليظة التي انتشرت مع الأسف الشديد دون ضابط شرعي أو عقلي، والتي ترفض الاختلاف، وتوصم غيرها بالابتداع وتخرجه من الملة بالكفر[13].

يراهن الصغير على هذه المراجعات لأجل تحرير علم الكلام من كل نزعة إقصائية. كما يؤكد، في الوقت نفسه، أن سبيل ذلك هو التسلح بمختلف أدوات التحليل والنقد والمراجعة للأحكام وتبين حقيقة وأسباب الخلاف؛ والتي يشير بخصوصها الصغير أن القدماء قد غالوا في التنصيص على الأسباب العقدية في الخلاف الكلامي مقابل إصرار المعاصرين من المؤرخين على دور الأسباب السياسية. في حين يرى أن هناك عامل آخر لا يقل أهمية في تعميق الخلاف بين المسلمين؛ ألا وهو العامل اللغوي. العامل الذي سببه حسب الصغير عدم توحيد الرؤية اللغوية وعدم الانطلاق من أرضية مشتركة تحدد المجال المصطلحي المستعمل أثناء الحوار والمناظرة[14].

ثالثا: الخلاف الكلامي: التباس المفاهيم وإشكالية المصطلح

يرى الكاتب أن مشكلة العلاقة الجدلية بين المفهوم والتواصل تمثلها حوارية سقراط خير تمثيل بالنسبة للفكر الغربي، بينما يعد حضور المفهوم في القرآن الكريم في المجال المعرفي الإسلامي حضورا قويا ينطلق من شبكة مفاهيم تنحو منحى تأسيس أصول مشتركة وقواعد جامعة، وقد ورث هذا المسار علم الكلام..

وهو ما غاب عن عبد الله العروي في بحثه عن مفهوم الحرية في علم الكلام؛ حيث خلص إلى غياب المعالجة الفلسفية لمفهوم الحرية في الإسلام، في حين أن قضايا الحرية عولجت بتفصيل ويعبر عنها بمصطلح “الاختيار”، وفي هذا دليل على إمكانية انتقال المفاهيم وتواصلها، ولو عبر مصطلحات مختلفة ومتنوعة”، وهو انتقال يتم عبر مختلف الحقول المعرفية.

غير أن المصطلح، كما يؤكد الكاتب، يعاني إشكالية التباس بفعل الخلاف القائم داخل علم الكلام، حيث نجد أن استقراء الأسباب إنما يتم حصرها في الجوانب السياسية والاقتصادية بينما منشأ الخلاف الحقيقي هو “عدم توحيد الرؤية اللغوية”.

وفي هذا السياق، يحاول الكاتب، جاهدا، دفع التهم عن جهم بن صفوان وهي التهم التي نسبها إليه خصومه من خلال قراءتهم لآرائه في جملة القضايا العقدية المرتبطة بذات الله وصفاته بعيدا عن سياقها الدلالي ومنشئها اللغوي، بل إن مجموعة آراء الأشاعرة التي توصف بأنها معتدلة تبطن رأي الجهم، فما غاب عن منتقدي الجهم هو هذا الجانب اللغوي في تحديد موقفه الفكري؛ ولم يقدروا مقاصده الأساسية الدائرة بين الدفاع عن التوحيد الإسلامي ونفي الحشو والتجسيم وإنقاذ النص الإسلامي من السقوط ضحية تفسير سطحي للغة الطبيعة.

وحين الوقوف عند أصول الأشاعرة فإن تأثير المصطلح اللغوي كذلك له مداه في صياغة الأصل الكلامي، ذلك أن الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة لا يعدو أن يكون مجرد خلاف لفظي. ويقف الكاتب ناقدا موقف الأشاعرة ومبينا أوجه اشتراكه مع المعتزلة في مسائل تبدو، من حيث الشكل، على تناقض جوهري، ومن خصائص الموقف الأشعري أنه يأتي، غالب ما يأتي، توفيقيا في أغلب القضايا المثار حولها الجدل.

وبعد أن يسجل الكاتب أن الخطاب العربي المعاصر غاص بالمفاهيم والمصطلحات التراثية المتداولة من مختلف الأطراف والتوجهات لأغراض أيديولوجية مختلفة، إلا أنه يعتبر أن القراءات المغربية للتراث تمتاز عن نظيرتها المشرقية بإعادة النقد والتقويم لمفاهيم لها منزلة الأصول من التراث، ومن هؤلاء محمد عابد الجابري وعبد الله العروي..

وبوجه خاص هذا الأخير الذي ينتقد الكاتب مفهومه للحرية كاشفا أن مفهوم الحرية لديه لا ينفصل عن الرؤية الاستشراقية المتمركزة حول ذاتها النافية للآخر، كما ينتقد مسلمته الخاطئة التي بنى عليها خلاصاته بهذا الصدد وبوجه خاص علم الكلام الذي اعتبره مفصولا عن واقعه الاجتماعي ومجرد معرفة نظرية، وذلك منزلق منهجي وقع فيه العروي حال بينه وبين استعمال منهجية اجتماعية المعرفة في تحليله لمجموعة مفاهيم يطفح بها التراث الكلامي، فكانت معالجته للمفهوم داخل الفكر الإسلامي قاصرة مفتقدة للنضج ومرهونة بالموقف الاستشراقي.

الأمر الذي يتبدى أكثر حين مقابلته لعلم الكلام بعلم اللاهوت الغربي، كما أن إثبات العروي انزواء الحرية في البداوة والصوفية راجع إلى نفي هاته الأخيرة عن الثقافة الإسلامية، بينما نجد مفهوم الاختيار ذي الدلالة السياسية والاجتماعية والبعيد عن الجدل الميتافيزيقي حاضرا بقوة، لكن العروي حسب عبد المجيد الصغير أهمل كل ذلك، رغم أنه ادعى أنه لن يبقى سجين مصطلح واحد في البحث عن مدلول مفهوم الحرية..حيث يستغرب الصغير الاختلاف الكبير بين التبشير بذلك الطرح المنهجي الذي استهل به العروي البحث، وبين الأفكار والأحكام التي تخللته والنتائج التي تمخض عنها.

يشير الصغير أنه إذا جاء استهلال بحث العروي واضحا وصريحا في وجوب تناول الموضوع بعيدا عن الأحكام المسبقة للخطاب الاستشراقي، مبينا حدود المنهج الفيلولوجي، معوضا إياه برؤية تاريخية وبمنهج اجتماعيات الثقافة، فإن النتائج التي تمخض عنها البحث جاءت طافحة بالأحكام المسبقة حول بعض أنماط السلوك الثقافي في الإسلام[15].

يسجل الصغير بخصوص تعامل الفكر المغربي مع المصطلح التراثي، تلك الخصوصية التي تكاد تميز الكتابات المغربية عن أختها المشرقية حول الموضوع، ألا وهي اتجاه المفكر المغربي بالنقد وإعادة التقويم إلى تلك المصطلحات والمفاهيم التي تحتل في ذلك التراث منزلة الأسس والأصول المعرفية. وهو ما يجعل اختيار الموضوعات للنقد والتحليل، اختيارا مقصودا، لا يهدف إلى مجرد معرفة الماضي، ولكنه بالأولى يطمح، عند أغلب المتعاملين مع المصطلح التراثي، إلى توظيف تلك المعرفة لتجديد الموقف من الحاضر والمستقبل[16].

يشدد الصغير في خاتمة كتابه على شرعية الاختلاف في التجربة الإسلامية، وأنها شرعية أصيلة لا غبار عليها، وغير مانعة لإمكانية النظر العقلي في النصوص وتأويل المضامين العقدية بما يتفق ومقاصدها الشرعية دونما جمود، ولعل أبو الحسن الأشعري الذي وقف موقفا وسطا خير مثال على ذلك.

وهو الأمر الذي ينسجم مع طبيعة رسالة الإسلام التي تجعل من الخلاف أمرا طبيعيا ومقبولا، كيف لا؟ ورسالة الإسلام بما تسمح به من تعدد وتنوع في جو من التكامل والتعارف، وبما تسمح به من اختلاف في جو من الرحمة والتآلف التأمت مع واقع الجزيرة العربي قادرة على استعادة فعاليتها الحضارية كرسالة للعالمين في زمننا المعاصر.

أما خاتمة الكتاب، فقد خلص فيها الكاتب إلى أهم الدروس والعبر التي يجب إبرازها من مجمل تاريخ الاختلاف في الإسلام عامة، وفي الخطاب الكلامي خاصة؛ والمتمثلة في الاعتراف الواضح بالمخالف في المناظرة الكلامية، حيث لاحظ الصغير أن هذه المناظرة لا قيام لها إلا بالاعتراف أولا بحق الاختلاف ثم بتمكين المخالف ثانيا من كل الشروط التي تجعل منه خصما مناظرا يملك حق التعبير والاعتراض ما يملكه المتكلم نفسه[17].

بقي أن نتساءل مع الصغير هل وجود منطق المناظرة والجدل وطرقهما عند المتكلمين أو ما يسميه طه عبد الرحمن بالمنطق الحجاجي[18]، هل أسهم في تعزيز ثقافة الاختلاف بين الكتاب الإسلاميين أم أن الأمر لا يعدو أن يكون إقرارا بواقع الاختلاف مع الحرص على التوصل أو الإيصال إلى وحدة الإسلام ووحدة الأمة. وتلك ثنائية الاختلاف والإجماع؟ وهل الإقرار بالاختلاف عند المتكلمين يعني الاعتراف بصوابية الآراء للفرق المخالفة ومساواتها مساواة يبررها الاجتهاد على الأقل، أم أن هناك من بين هذه الفرق فرقة واحدة هي الفرقة الناجية؟ هل الخلاف الكلامي في الإسلام أقر أن الحق في جميع المسائل مع كل الفرق أم أنه يجب أن يكون الحق مع فرقة واحدة؟[19].

نستشف من قراءتنا لكتاب الصغير أن مثل هذه الأسئلة لم تكن غائبة عنه وهو ما يبرر تشديد الصغير في الخاتمة على ضرورة إدراج المعرفة التاريخية ضمن وسائل تقييم التجربة الكلامية، بقصد التميز بين الثابت والمتحول في التراث الكلامي، والمجمع عليه والشاذ من الأفكار والنظريات والمواقف. مع إعلاء شأن الرؤى الفلسفية ومناهج البحث وأخلاقيات الحوار والمناظرة، بما يساعد على تدبير الاختلاف وترشيده وتوجيهه، تحقيقا لمقاصد شرعية كلية، وطلبا لمصالح إنسانية مشروعة كفيلة بجعل الاختلاف سبيلا للتعارف وداعيا للتواصل[20].

على سبيل الختم

الدراسة محاولة لرصد وتتبع عملية البناء والازدهار والأفول والانهيار في العلوم المشكلة لثقافة الأمة من مدخل المصطلحات والمفاهيم المعبرة عنها. مقارنة بين بنائها الشرعي بخصائصه الكلية المستوعبة للزمان والمكان، وبين تداولها التاريخي النسبي المتغير في الزمان والمكان، والذي ينبغي أن يكون تعبيرا شفافا وكاشفا باستمرار وبشكل متجدد عن تلك المضامين والدلالات الشرعية البانية والموحدة، لا أن يحتل محلها فيتحول إلى عنصر مقيد لحركية وفعالية المفهوم، يعكس خلافات وصراعات التاريخ وينقلها إلى أزمنة هي في غنى كامل عنها.

إن الهدف من الدراسة يتمثل في معرفة واقع معاصر سائد في سياق تطور تاريخي للمصطلح أو المفهوم. لهذا يأتي الاهتمام بالمفاهيم من حيث تكونها وسيرورتها، لما لها من دور علمي ومنهجي في تطور العلوم والمعارف. لذلك فإن البحث في المفاهيم في مجال الدراسات الإنسانية من شأنه أن يوقفنا على الكثير من الجوانب العلمية والتاريخية التي تكون وراء المفهوم، من حيث كونه المحرك الأساسي للمادة العلمية، بل والحامل لهذه المادة أيضا. وهو ما تأكد مع دراسة مفهوم الاختلاف في الإسلام وفي الخطاب الكلامي خاصة.

بقي أن نشير بين يدي الكتاب إلى أن الاهتمام بالمفاهيم مرده إلى كونها ذات أولوية وأهمية قصوى في بناء العلوم والمعارف، بل وفي تحديد الرؤى والمناهج. فهي مدخل إلى ذلك كله وضبطها من ضبط البناء، وإهمالها من إهماله. وكما قيل فهي “مفاتيح العلوم ” فليس العلم ولا اللغة ولا الثقافة.. إلا مركبات مفهومية والاختلاف في الواقع في هذه المجالات هو بقدر وحجم الإخلال في البناء النسقي المفهومي.

 نحن نرى أن القرآن الكريم وهو يتنزل كان حريصا أشد الحرص على إعادة بناء وصوغ منظومة المفاهيم المتداولة. فأعاد بناء بعضها بناءً كليا وعدل من بعضها الأخر، وحافظ على طائفة أخرى وأضفى عليها أبعاداً ودلالات جديدة. فإخراج الإنسان الجديد والمجتمع الجديد كان بحاجة إلى منظومة قيم جديدة عبرت عنها مفاهيم بدلالات ومعان جديدة.. فمعظم ما كان متداولا من ألفاظ في الجاهلية أعطي مضامين شرعية وسعت من نطاق اشتغاله ومن وظيفته؛ (كالصلاة والصوم والحج والكفر والفسق..الخ ) وتأمل في ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُومِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ (الحجرات: 14) وقوله كذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ (البقرة: 103). وهذا في السنة كذلك كثير؛ حيث أعيد تعريف كثير من الألفاظ كما في الصيغ البيانية النبوية مثلا عن (المفلس، الكيس، الشديد، المؤمن، المسلم، البر..الخ ).

 الأهم من هذا كله؛ أن الاستعمال الإلهي للألفاظ ليس قطعا هو الاستعمال البشري لها، وإن كانت هي الألفاظ عينها المستعملة في الخطابين أو لنقل في الصياغتين. فالأولى تنتمي إلى المطلق المستوعب للزمان والمكان، والثانية تنتمي إلى النسبي الذي يستوعبه الزمان والمكان. فمفردات القرآن الكريم لها خصائص القرآن الإعجازية. تماما كما تحمل كل خلية من الجسم خصائصه البيولوجية وحتى النفسية.

هنا نأتي إلى قضية أخرى مهمة كذلك؛ وهي أن الذي هيمن على ثقافة المسلمين في عصورهم المتأخرة اصطلاحات المدارس والفرق والمذاهب وليس المعاني والدلالات الشرعية. وهذه الاصطلاحات بعضها استند، بشكل كبير، إلى الأصول الشرعية، وبعضها، بشكل أقل، وبعضها وهو الغالب، إنما اتخذت تلك الأصول شواهد لبنائه، وليست شاهدة على البناء. حيث يبنى البناء أو النسق الفكري خارج إطارها، تلتمس إلى ذلك الشواهد من القرآن الكريم ومن السنة النبوية. فهناك فرق كبير بين ما بني من داخل المنظور والمرجعية كلاًّ وجزءًا، أصلاً وفرعًا، وبين ما بني خارجها.

 وهو ذات الفرق بين عطاء المسلمين الحضاري في المجتمع الأول، وبين عطائهم المتأخر؛ فالارتباط بأصول الشرع الكلية المستوعبة، تفتح النسق ولا تسده، وتمد الآفاق ولا تحدها، وتبسط من قنوات التواصل والحوار والتفاعل الإيجابي ما لا تستطيعه المنظومات المدرسية والطائفية التي تتحرك في طائفة أو مذهب.

فالبعد الإنساني والكوني لمفردات القرآن الكريم وبيانها في السنة النبوية هو ما ينبغي أن يلازم ثقافة المسلمين وفكرهم وعلومهم ومعارفهم؛ لأنه من خصائص وطبيعة الرسالة ذات الامتداد الأفقي، بعد أن انتهى الاصطفاء الحصري للرسل والرسالات.

وللأسف فمقرراتنا الدراسية في تعريفاتنا تتجه إلى اللغة تم الاصطلاح منتقية من الاصطلاحات الكثيرة باعتبار هذا الاصطلاح هو المعنى الشرعي، في حين أنه لا يعكس إلا وجها منه وقد لا يفعل.

فنحن، إذن، في حاجة إلى بناء كثير من مفاهيمنا المؤطرة لفكرنا وعلومنا وثقافتنا؛ إذ هي المدخل التجديدي والاجتهادي للاستئناف والإبداع ولمواكبة التحديات. ولم لا استيعابها وتجاوزها بعد العجز وانسداد الأنساق الفكرية والمعرفية المتداولة اليوم سواء لدى الغرب أو الشرق. من هنا أهمية الاشتغال على منظومة المفاهيم في القرآن المجيد وفي ثقافتنا الإسلامية.

وتجدر الإشارة هنا أيضا إلى أن هذا الاشتغال ليس فقط بيانيا تعريفيا بل إنجازيا وظيفيا. كذلك فلشبكة المفاهيم في القرآن نظام اشتغال سنني لا يختلف في شيء عن النظام السنني في الآفاق الكونية، أو في الأنفس البشرية، فكلها آيات مبثوثة في النص كما في الآفاق والأنفس تتوجب قراءتها جميعا، إذ هي الهادية إلى سبل السلام والتي هي أقوم في حياة الإنسان الخاصة والعامة.

فنحن، إذن، أمام معركتين تحريريتين على مستوى بناء المفاهيم؛ معركة التحرير الذاتية من الترسبات الفكرية التي استحالة إلى طبقات صلبة في توجيه الفكر والسلوك، وهذا ما نلاحظ تجلياته اليوم في الأنساق المغلقة ذات المنظور الواحدي الضيق، الذي لا يكاد يستوعب ذاته، وهو يفسد في الأرض، ويظن أنه يصلح. ومعركة التحرير من الوافد المقتحم الذي وجه مسار الفكر ومفرداته إلى نماذجه السالبة والخادعة. وهي لا تبتعد معرفيا عن النموذج الأول من حيث انسداد النسق والواحدية الدوغمائية التي لا تؤمن إلا بذاتها في تمركز حاد حول هذه الذات.

 وخطورة هذا المعترك تكمن في كون آلياتها ووسائلها، ولنقل جهازها المفهومي مصاب، هو نفسه بهذا الداء على مستوى المرجعية، والمنظور المؤطر على مستوى المنهجية، والتفعيل. فالاجتهاد، والتجديد والإبداع والتفكر والتدبر والعلم والفقه والعمل والمعروف..الخ، أخذت هي نفسها من المعاني والدلالات داخل النسق الذاتي أو داخل النسق الخارجي ما يحتاج معه إلى أن تكون ذات أولوية في إعادة البناء المرجعي والمنهجي أي البناء المنهجي للمنهجية والمرجعي للمرجعية[21].

الهوامش

[1]. عبد المجيد النجار، في البدء كانت السياسة، الرباط: سلسلة المعرفة للجميع، ط1، 1999م، ص7-8.

[2]. فقه وشرعية الاختلاف، م، س، ص6.

[3]. المرجع نفسه، ص31.

[4]. المرجع نفسه، ص31.

[5]. سعيد شبار، الحداثة في التداول الثقافي العربي والإسلامي: نحو إعادة بناء المفهوم، البيضاء: منشورات الزمن، ط1، 2002م، ص11.

[6]. عبد المجيد الصغير، فقه وشرعية الاختلاف، م، س، ص46.

[7]. المرجع نفسه، ص44.

[8]. المرجع نفسه، ص48.

[9]. المرجع نفسه، ص62.

[10]. المرجع نفسه، ص66-69.

[11] . المرجع نفسه، ص132.

[12] . المرجع نفسه، ص107.

[13] . المرجع نفسه، ص131.

[14] . المرجع نفسه، ص135.

[15] . المرجع نفسه، ص204.

[16] . المرجع نفسه، ص193.

[17] . المرجع نفسه، ص254.

[18] . طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، البيضاء: المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، ط1، 1987م، ص63.

[19] . علي أومليل، في شرعية الاختلاف، بيروت: دار الطليعة، ط2، 1993م، ص46.

[20] . عبد المجيد الصغير، فقه وشرعية الاختلاف، م، س، ص254.

[21] . مقتطف من حوار أجراه الباحث مع الأستاذ سعيد شبار تحت عنوان: إشكالية المفاهيم في الفكر الإسلامي المعاصر، تحت الطبع.

Science
الوسوم

د. محمد الناصري

باحث في الفكر الإسلامي وحوار الأديان والحضارات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق