مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

في رحاب توحيد ابن عاشر

إعداد:

د/ عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

د/ مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل.


قال الناظم رحمه الله:

يجب لله الوجــود والـقدم        كذا البقاء والغنى المطلق عـــــم

وخلفه لخلقه بلا مثـــــال        ووحدة الذات ووصف والفعـال

وقدرة إرادة علم حيـــــاة        سمع كلام بصر ذي واجبـــات

قال الشارح رحمه الله:

والرابعة (الغنى المطلق)، ويعبر عنه بالقيام بالنفس، ومعناه عدم افتقاره تعالى إلى شيء من الأشياء، فلا يفتقر إلى محل يقوم به قيام الصفة بالموصوف؛ لأنه تعالى ذات موصوفة بالصفات لا صفة كما يدعيه طائفة من النصارى ومن في معناهم من الباطنية ممن ينتسب بزعمه إلى التصوف، ولا يفتقر في ذاته ولا في صفاته إلى مخصص؛ أي فاعل يخصصه بالوجود بدل العدم، أو الحياة والعلم بدل الجمادية والجهل؛ لوجوب القدم والبقاء لذاته تعالى وصفاته، فَبِغِنَاهُ عن المحل لزم أنه ذات لا صفة، وبغناه عن المخصص لزم أن ذاته ليست كسائر الذوات المستغنية عن المحل أيضا؛ لأنها وإن استغنت عن المحل أي ذوات أخرى تقوم بها فهي مفتقرة ابتداء ودواما افتقارا ضروريا إلى المخصص أي الفاعل وهو الله تعالى، وأما صفاتها الحادثة فتفتقر إلى المحل والمخصص أيضا الذي  يخصص بعضها بالوقوع بدلا عن مقابله كالبياض أو السواد، والطول أو القِصر، والحياة أو الجمادية، والعلم أو الجهل.

والحاصل أن الموجودات باعتبار الاستغناء عن المحل والمخصص والاحتياج إليهما أو إلى أحدهما أربعة أقسام: ما يستغني عنهما وهو الذات العلية، وما يستغني عن المخصص دون المحل وهو الصفات السنية، وما يستغني عن المحل دون المخصص وهو الذوات الحادثة، وما لا يستغني عن واحد منهما وهو الأعراض الحادثة كالبياض والسواد. وقد تلخص أن كل ما سواه من ذوات وأعراض مفتقِر إليه في التخصيص، وهو لا يفتقر إلى شيء سواه، وإلى ذلك الإشارة بآية: (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)[1]، وآية: (والله الغني وأنتم الفقراء)[2]. قال الشيخ أبو مدين: “الحق تعالى مستبد[3]، والوجود مستمد[4]، والمادة من عين الوجود[5]، ولولا المادة[6] [لانهدم] الوجود”. وإليه أيضا الإشارة بقوله تعالى: (الله الصمد لم يلد ولم يولد)[7]، بل تقول تضمنت سورة الإخلاص على اختصارها جميع العقائد الإلهية؛ لأن سبب نزولها على ما قال ابن عباس أن اليهود قالوا: “يا محمد؛ صف لنا ربك وانسبه، فإنه وصف نفسه في التوراة ونسبها، فارتعد النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم حتى خر مغشيا عليه، فنزل جبريل بهذه السورة”[8]، كذا في تفسير الثعالبي. وفي تفسير الخازن: “أن أحبارا من اليهود قالوا: صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإنه أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو؟ وهل يأكل ويشرب؟ وممن ورث الربوبية ولمن يورثها؟ فنزلت”. وفيه عن أبي العالية أن المصطفى ذكر آلهة المشركين فقالوا: “انسب لنا إلهك فنزلت”. وفيه عن ابن عباس “أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا المصطفى، فقال عامر: إلى مَ تدعونا يا محمد؟ قال إلى الله، قال: صف لنا [84] أمن ذهب أم فضة أم حديد أم خشب؟ فنزلت، وأهلك أربد بالصاعقة وعامر بالطاعون”هـ.

فقوله: (أحد) يتضمن أوجه الوحدانية الخمسة، أي وحدة الذات بنفي الكم المتصل والمنفصل عنها، ووحدانية الصفات بنفي تكثرها في ذاته أو وجود نظيرها في ذات أخرى، ووحدانية الأفعال. والصمد الذي يصمد إليه في الحوائج؛ أي يقصد فيها، ومنه تسأل، فيكون كل ما سواه مُفتقرا إليه، ويستلزم ذلك اتصافه بصفات المعاني من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام. وقوله: (لم يلد ولم يولد)[9]؛ إشارة لغناه عن الأثر والمؤثر، فلا حاجة له إلى الأثر أي كل حادث، وهو قوله: (لم يلد)، أي لم يتولد شيء عن ذاته السنية بأن يكون بعضا منها أو ناشئا عنه من غير قصد، بل بالعلة أو بالطبع، ففيه رد على كفار الفلاسفة، أو باستعانة ممن يزاوجه على ذلك، أو ثَم غرض يحمله على ذلك كما هو شأن الزوجين، فلا ولد له ولا صاحبة، ففيه رد على طوائف الكفار الثلاث؛ فقد قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقال المشركون الملائكة بنات الله، (ألا إنهم من إفكهم)[10] الآية، وقد شنع على النصارى في زعمهم أن المسيح ابن الله، وزعمهم مع ذلك أن اليهود قتلوه وصلبوه بما أشار إليه القائل:

عجبا للمسيح بين النصارى             وإلى أي والد نسبــــــوه

أسلموه إلى اليهود وقالـــوا             إنهم بعد قتله صلبـــــوه

فإذا كان ما يقولون حقــــا              فاسألوهم أين كان أبــوه

فإذا كان راضيا بأذاهـــــم              فاحمدوهم لأجل ما فعلوه

وإذا كان ساخطا لأذاهـــم             فاعبدوهم لأنهم غلبـــوه

 

شرح العالم العلامة البحر الفهامة شيخ الشيوخ سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المولود سنة 1172هـ المتوفى بمدينة فاس 17 محرم سنة 1227 هـ على توحيد العالم الماهر سيدي عبد الواحد بن عاشر قدس الله سرهما آمين، ص: 49-50. 

(طبع على نفقة الحاج عبد الهادي بن المكي التازي التاجر بالفحامين) 

مطبعة التوفيق الأدبية

الهوامش:

 


[1] سورة فاطر، الآية: 15.

[2] سورة محمد، الآية: 38.

[3] – أي قائم بنفسه وغني عن المخصص باعتبار ذاته وجميع صفاته.

[4] – أي أن الوجود الحادث وهو العالم طالبٌ للمادة.

[5] – المراد بالوجود الموجود الأزلي وهو الله تعالى.

[6] المراد بالمادة  نعمة الإيجاد والإمداد.

[7] سورة الإخلاص، الآيتان: 2-3.

[8] – انظر التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الكلبي الغرناطي، 2/624. ضبط وتصحيح: محمد سالم هاشم، ط: 1، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.

[9] سورة الإخلاص، الآية:3.

[10] سورة الصافات، الآية: 151. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق