مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

في رحاب توحيد ابن عاشر

إعداد:

د/ عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

د/ مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل. 

قال الناظم رحمه الله:

يجب لله الوجــود والـقدم        كذا البقاء والغنى المطلق عـــــم

وخلفه لخلقه بلا مثـــــال        ووحدة الذات ووصف والفعـال

وقدرة إرادة علم حيـــــاة        سمع كلام بصر ذي واجبـــات

قال الشارح رحمه الله:

والثالثة عشر: (بصر)؛ وهو صفة كاشفة للمُبصَرات على ما هي به، فإن قلت: هل السمع والبصر نوعان من العلم كما يظهر من تعريفهما؟ قلت: قد اختلف في ذلك، وعلى أنهما مباينان للعلم فالانكشاف الحاصل بهما يباين الحاصل بالعلم كما في الشاهد؛ لأنه سُلّم الغائب، وإن كان كل من الثلاثة يوجب وضوحا تاما، فلا يلزم الخفاء إذا لم يُضف بعضها لبعض، ولا تحصيل الحاصل، قال السنوسي في شرح القصيد: “الجمهور من أهل الحق يقولون السمع والبصر صفتان زائدتان على العلم، مباينتان له في الحقيقة وإن شاركتاه في أنهما صفتان كاشفتان متعلقتان بالشيء على ما هو به، وهو أحد قولي الشيخ الأشعري، والقول الثاني ما نقله عنه ابن التلمساني في شرح المعالم أنهما من جنس العلم، إلا أنهما لا يتعلقان إلا بالموجود، والعلم يتعلق به وبالمعدوم، قال وهما مع ذلك صفتان زائدتان على العلم”هـ. وفي جعلهما زائدتين على العلم مع أنهما نوعاه نظر، والحق وهو المصرح به في شرحي المقاصد والمواقف أنهما على هذا القول غير زائدتين عليه. فإن قيل: يلزم عليه تكثير العلم وهو صفة واحدة، قلنا: يجوز أن يكون التنوع راجعا إلى التعلقات فقط كما مر في الكلام بأن يكون هناك تعلق يشاكل تعلق بصرنا بالمبصرات، وتعلق يشاكل تعلق سمعنا بالمسموعات تقريبا، وإلا فلا مناسبة ولا مشاكلة كما أشار إليه في شرح المقاصد، والأولى كما قال الكمال ابن أبي شريف أن يقال: لما ورد النقل بهما آمنا بذلك وبأنهما ليسا كصفتي الخلق، واعترفنا بعدم الوقوف على حقيقتهما. ثم إن البصر القديم يتعلق بالموجودات من الواجبات والجائزات الذوات والصفات الوجودية تعلقا تنجيزيا فقط قديما بالنسبة للموجودات القديمة وحادثا بالنسبة للموجودات الحادثة، ولا تفاوت بين الموجودات كلها بالنسبة إلى بصره سبحانه، فكما يبصر الجلي والأجلى يبصر الخفي والأخفى، كما أشار إليه في قوله: (الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين)[1]، أي يراك حين تقوم في كل وقت من ليل أو نهار في ضياء أو ظلمة، وتقلبك أي تنقلك في أصلاب الآباء من الأنبياء والعارفين، وَأَيُّ خفي أخفى مما في الأصلاب! ولقد أحسن صاحب القرطبية إذ قال:

              ويـبصر الـذرة في الظـلمـــاء           كما يرى ما غاب تحت الماء

وفي الكشاف في تفسير (ما بعوضة)[2] ما نصه: “وفي خلق الله حيوان أصغر منها ومن جناحها، ربما رأيتَ في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلا تحركها، فإذا سكنت فالسكون يواريها، ثم إذا لوحتَ لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة وتفاصيل خلقتها، ويبصر بصرها، ويطلع على ضميرها، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر، (سبحان الذي  خلق الأزواج كلها)[3] الآية، وأنشدت لبعضهم:

يا من يرى مد البعوض جناحهــــا              في ظلمـة الليل البـهيــم الألــيــل[4]

ويرى عروق نِياطها[5] في نحرهـــا            والمـخ في تـلك العـــظـام النحــل[6]

اغفر لعــبد تـــاب مــن فرطـاتـــه[7]              ما كان مــنه في الزمــان الأول هـ

وأنشد غيره[8] بعد البيت الثاني ما نصه:

ويرى خرير[9] دمائهـــا  مسلســــلا            في جسمها من مفصل في مفصل

ويرى مكان الوطء من أقدامهـــــا             فـي سيرها وخطيطها[10] المستعجـل

ويرى وصول غِذا الجنين ببطنهـا             في ظلمة الأحشا بغـــــير تمـقـــل[11]

ويرى ويعلم كل ماهــــو دونــــها             سبــحانـه مــن مــالك مـتـفـضــــل

امنن علـي بتوبــــــة أمحو بـــــها             ما كان مــــني في الزمـــان الأول

وذهب الصوفية إلى تعلق بصره تعالى بالمعدومات في الأزل على ما توجد عليه فيما لايزال، بل رؤية الشيء قبل وجوده قد تقع للأنبياء والأولياء، ففي الحديث: (ما لي أرى الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر)[12]، والمتبادر من ذلك أنها رؤية بصرية.

(ذي واجبات)؛ جملة مؤكدة لما سبق، تمم بها البيت.

 

شرح العالم العلامة البحر الفهامة شيخ الشيوخ سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المولود سنة 1172هـ المتوفى بمدينة فاس 17 محرم سنة 1227 هـ على توحيد العالم الماهر سيدي عبد الواحد بن عاشر قدس الله سرهما آمين، ص:71-72.

(طبع على نفقة الحاج عبد الهادي بن المكي التازي التاجر بالفحامين)

مطبعة التوفيق الأدبية

الهوامش:


[1] – سورة الشعراء، الآية: 258.

[2]– في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)، سورة البقرة، الآية: 26.

[3]– سورة ياسين، الآية: 36.

[4]– الأليل: أي شديد الظلمة.

[5]– النياط: عرق في القلب يقال له الوتين إذا انقطع مات صاحبه.

[6]– النُّحّل: أي الرقيقة.

[7]– الفرطات: جمع فرط وهو الظلم والاعتداء، والمقصود بها في البيت: السيئات.

[8]– أي غير الزمخشري.

[9]– الخرير: الصوت.

[10]– الخطيط: مرادف للسير.

[11]– أي بغير الجارحة المسماة بالمقلة.

[12]– أخرجه البخاري متكررا في مواضع ومسلم في الفتن عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق