مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

في رحاب توحيد ابن عاشر

إعداد:

د/ عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

د/ مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل.


قال الناظم رحمه الله:

يجب لله الوجــود والـقدم        كذا البقاء والغنى المطلق عـــــم

وخلفه لخلقه بلا مثـــــال        ووحدة الذات ووصف والفعـال

وقدرة إرادة علم حيـــــاة        سمع كلام بصر ذي واجبـــات

قال الشارح رحمه الله: 

والتاسعة: (علم)، تقدم في الوجود ذكر الخلاف في مطلق العلم هل هو ضروري أو عسير فلا يُحَد، أو نظري غير عسير فيحد، وأحسن ما عرف به العلم القديم المراد هنا أنه صفة كاشفة لجميع الواجبات والجائزات والمستحيلات على ما هي عليه في الواقع كشفا إحاطيا في الظاهر والباطن، فمتعلقه أعم من متعلق القدرة والإرادة، ولا تفاوت في المعلومات أجلاها وجليها وخفيها وأخفاها بالنسبة إلى علمه تعالى، قال تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)[1]، أي في سفل العالم وعلوه لا خصوص الأرض والسماء المعروفين، فلا تخفى عليه ذرة مما فوق العرش وما تحت الثرى، وما بين ذلك، ولا باطن بالنسبة إليه إذ هو الذي أظهر الظاهر وأبطن الباطن، فلا يتصور خفاء أحدهما عليه مع خلقه لهما ولصفتهما من ظهور وبطون، ولهذا جُعل الخلق دليل العلم في قوله: (ألا يعلم من خلق)[2]، فمَن فاعل، أي ألا يعلم الخالق مخلوقه وهو الذي خلقه وأوجده، وقال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)[3] الآية، ومفاتح جمع مَفتح بفتح الميم وهو الخزانة، وقدم الخبر للاختصاص، والمعنى: عنده لا عند غيره خزائن المغيبات التي تبرز في المستقبل لأوقاتها، أو جمع مِفتح بكسر الميم بمعنى مفتاح وهو آلة الفتح، ويؤيده أنه قرئ مفاتيح بالياء المنقلبة عن ألف مفتاح، وعَلَى كلّ ففي الكلام استعارة مكنية وتخييلية، أو استعارة تمثيلية، أو تصريحية تحقيقية، فإما أن تقول شبهت المغيبات بأشياء محفوظة في الخزائن المغلقة التي لإغلاقها مفاتيح، فلا يطلع عليها إلا القيّم على تلك الخزائن الذي بيده مفاتيحها أو من يطلعه على ما شاء منها، وهذا التشبيه المضمر الذي لم يصرح بشيء من أركانه سوى المشبه أو الأشياء المحفوظة في الخزائن المشبه بها المغيبات استعارة بالكناية، وإثبات الخزائن أو المفاتيح المختصين بالمشبه به تخييلية، أو تقول شبه حاله تعالى في اختصاص علم المغيبات به فلا يطلع غيره على شيء منها إلا بإطلاعه من شاء على ما شاء بحال من عنده أشياء محفوظة في الخزائن مغلق عليها بأقفال ذات مفاتيح، وهو مختص بعلمها، لا يطلع غيره على شيء منها إلا بإطلاعه، فجيء بما يدل على الحال المشبه بها بلفظ المفاتيح وذلك كاف، وقوله: (لا يعلمها إلا هو)؛ أي لا يعلم تلك الخزائن أو المفاتيح إلا هو فضلا عما اختزن في الخزائن، فهو مبالغة في الاختصاص، أو الضمير المؤنث للغيب؛ لأنه في معنى المغيبات، أو تقول استعيرت المفاتح أي الخزائن للعلم المحيط استعارة تصريحية، أي وعنده علم المغيبات، وعلى هذا فضمير لا يعلمها للغيب على التأويل بالمغيبات حتما، أو استعيرت لأصول الغيب وأمهاته، وفيه كما قال البيضاوي دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم مفاتح الغيب بالخمس التي في آية: (إن الله عنده علم الساعة)[4] على سبيل التمثيل لحاصل المعنى لا على سبيل الحصر، بمعنى أن هذه الخمس من المغيبات التي في خزائن علم الله، وكذا كل من فسرها بشيء خاص إنما يريد التمثيل، فقد فسرت بالثواب والعقاب، وفسرت بالآجال، وفسرت بالسعادة والشقاوة، وفسرت بخواتم الأعمال، وبحمل هذه التفاسير على التمثيل لا تكون مناقضة لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم، وقد فسرها تفسيرا عاما من قال هي ما لم يكن يعلمه هل يكون أم لا، وما لا يكون يعلمه [أن] لو كان كيف يكون، وقوله: (ويعلم ما في البر والبحر)[5]، أي ما اشتملا عليه من الأجرام وأعراضها كلها وما يحدث فيهما من الأفعال، وقوله: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها)[6]، أي وما تسقط من ورقة من ساقها في جميع أقطار الأرض إلا حالَ كونه يعلم قبل ذلك سقوطها، وكم تنقلب ظهرا لبطن في حال هَوْيها، وعلى أي وجه تسقط، وقيل ورقة شجرة تشبه الرمان بجنب ساق العرش، فيها أوراق بعدد أرواح الخلائق مكتوب على كل ورقة اسم صاحبها، وملك الموت ينظر إليها، فإذا اصفرت منها ورقة علم قرب أجل صاحبها فيوجه إليه أعوانه، فإذا سقطت قبض روحه، وفي بعض طرق هذا الأثر سقوطها على ظهرها علامة حسن الخاتمة، وعلى بطنها علامة سوء الخاتمة. وقوله: (ولا حبة في ظلمات الأرض)[7]، قال ابن ناجي: “المراد بالحبة أقل قليل، عبر عنه بالحبة تقريبا للأفهام”هـ. وقيل واحدة الحب المبذور في بطن الأرض قبل أن ينبت، وأيا ما كان فعلمه محيط بها وبأحوالها. وقوله: (ولا رطب ولا يابس)[8]، قيل الرطب: ما ينبت، واليابس: ما لا ينبت، أو الرطب قلب المؤمن، واليابس قلب المنافق، وسقوطه تلونه، أو الرطب النطفة التي تتكون، واليابس التي لا تتكون، وسقوطها وقوعها في الرحم، وقيل الرطب لسان المؤمن، واليابس لسان الكافر لا يتحرك بذكر الله وبما يرضي الله، وسقوط اللسان نزوله عند الكلام بعد ارتفاعه ببعض الحروف، وقيل الرطب واليابس من الحبوب والثمار. عن ابن عمر مرفوعا: (ما من زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا رزق فلان بن فلان، وذلك قوله تعالى: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها)) الآية، وحبة ورطب ويابس معطوفات على ورقة، والسقوط مستعمل في حقيقته ومجازه على بعض التفاسير في الرطب واليابس، و”إلا في كتاب مبين” بدل من الاستثناء الأول؛ أعني “إلا يعلمها”، بدل كل إن فسر “الكتاب المبين” بعلم الله، وبدل اشتمال إن فسر باللوح المحفوظ، وقرئ برفع حبة وما بعده على الابتداء، وخبره ما بعد إلا، وعلى الرفع يصح ما نقل عن ابن عباس من تفسير الرطب بالمدن واليابس بالبوادي لا على الجر؛ إذ لا معنى للسقوط في ذلك، وكذا تفسيرهما بالحي والميت إنما يصح على الرفع. وفي الآية عظة وهي أنه إذا ثبت في اللوح علم ما دق وجل حتى سقوط الورقة والحبة مع عدم التكليف والحساب فما بالك بأعمال يجازى عليها بالثواب والعقاب. وقال تعالى: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)[9]، قال الثعالبي: في هذه الآية بيان لتعلق علم الله تعالى بجميع الخفيات ككسر الجفون والغمز والنظرة التي تفهم معنى. ومنه ما في الحديث: (أن عبد الله بن أبي سرح كان أسلم وكتب الوحي ثم ارتد ولحق بمشركي مكة، فلما فتحت جاء به عثمان وكان أخاه رضاعا، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فسكت، فأعاد ثانيا، وثالثا، فبايعه ثم قال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين أبيت بيعته فيضرب عنقه، قالوا: لم ندر ما في نفسك، أفلا أومأت إلينا، قال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين). وقال مجاهد: (خائنة الأعين) مسارقة النظر لما لا يجوز، ثم ترقى بذكر ما هو أخفى فقال: (وما تخفي الصدور). وفي بعض الكتب المنزلة: أنا مرصاد الهم، أنا العالم بمجال الفكر وكسر الجفون. وقال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)[10]، فوسوسة النفس ما يقع فيها من عزم على الشيء وهو التصميم وربط الفؤاد، وما دون العزم من الهم بالشيء وهو توجه القلب إليه وقوته فيه ورجحانه بدون تصميم على الفعل، وما دون الهم من حديث النفس وهو ما لم يخلص من الاشتباه واللبس مما يتردد صاحبه هل يفعل أو لا يفعل، وما دون حديث النفس من الخاطر وهو ما يجرى في النفس ويذهب ويرجع، وما دون الخاطر من الهاجس وهو ما يمر على النفس كالبرق اللامع، فيرتب تعالى على العزم الأجر في الحسنة وكذا المؤاخذة في السيئة عند الأكثر، وعليه المتكلمون، وعلى الهم الأجر في الحسنة وكذا المؤاخذة بالسيئة تفضلا وإحسانا، ولا يرتب على الثلاثة الباقية أجرا ولا مؤاخذة إجماعا، لأنها لا تقصد ولا تندفع ولا تستقر.

 وقال تعالى: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) ، إلى قوله: (وسارب بالنهار)[11]، فأخبر أنه يعلم حمل كل أنثى حين تحمله، أو ما تحمل من نطفة وعلقة ومضغة وعظام ولحم ودم وعروق وذكر أو أنثى، ويعلم ما تنقص الأرحام وما تزداد في الحمل من المدة والعدد، فقد تنقص المدة عن تسعة أشهر، وقد تزيد إلى سنتين كما قال الضحاك ولدت لسنتين وقد نبتت ثناياي، ولا يزيد على ذلك عند أبي حنيفة وهو قول عائشة، أو لِأكثر، فقد روي أن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فشق بطنها فأخرج وقد نبتت أنيابه، وأن هرم  بن حبان مكث في بطن أمه أربع سنين، ولذلك دعي هرما، وقد يزيد على الواحد إلى غير حد، قال الشافعي: أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة، وروي ولادة عشرة وولادة أربعين، فما كان من ذلك أو غيره فعلمه محيط به. وأخبر أن كل شيء له في علمه حد لا يجاوزه ولا يقصر عنه، وأنه عالم كل غائب عن الحس وكل حاضر عنده، وأنه الكبير العظيم الشأن الذي لا يخرج عن علمه شيء، المستعلي عن كل شيء بقدرته، وأنه استوى في علمه حال من أسر القول في نفسه ومن جهر به، وحال من هو مستتر بظلام الليل ومن هو بارز في ضوء النهار، يذهب ويجيء في السرب أي الطريق. فإن قلت قد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس مرفوعا: (أن الله تعالى وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قال الملك: أي رب ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد، فما الرزق فما الأجل)، فما فائدة الإخبار بأنه نطفة أو بما ينتقل إليه بعدها وهو سبحانه أعلم كما تقرر؟ قلت: الله أعلم بحكمة ذلك، وقد يكون من حكمته إظهار الاعتناء بالآدمي للملائكة تكريما له، أو التعجب من باهر قدرته تعالى ونقله الشيء الواحد في أطوار مختلفة.

وللعلم تعلق واحد تنجيزي قديم بجميع الواجبات والجائزات والمستحيلات، فمتعلقه أعم من متعلق القدرة والإرادة، ولا يصح أن يتعلق بالصلاحية؛ لأن ذلك يستلزم الجهل المحال في حقه تعالى؛ لأن ما صلح لأن يعلم غير معلوم بالفعل، لكن ههنا إشكال حاصله أن الحادث المضاف إلى وقت معين كقدوم زيد بلده يوم الجمعة هو قبل الوقوع قد تعلق العلم بأنه سيقع، وعند الوقوع يتعلق العلم بأنه واقع، وبعده يتعلق العلم بأنه وقع، وتعلق العلم بأنه سيقع الذي كان قبل الوقوع إن استمر بعد الوقوع لزم تعلق العلم بالشيء على خلاف ما هو عليه، وإن انقطع لزم عدم القديم وهو محال، وكذا تعلق العلم بأنه واقع أو وقع إن وجد في الأزل قبل الوقوع لزم تعلق العلم بالشيء على خلاف ما هو به، وإن تجدد عند الوقوع وعند مضيه فقد لزم تعلق حادث للعلم، وهو خلاف المقرر.

وجوابه أن العلم إنما تعلق بوقوع الفعل في وقته المعين، وهذا القدر لا يتغير قبل الوقوع وعنده وبعده، وأما استقبالية الوقوع وحاليته وماضويته فإضافات عارضة للتعلق حادثة، لا توجب تغييرا في نفس التعلق فضلا عن أن توجب تغير العلم نفسه كما ادعته الفلاسفة، حتى ادعوا أنه تعالى يعلم الجزئيات على الوجه الكلي لا الجزئي، والاستقبالية والحالية والماضوية معلومات في أنفسها يتعلق بها العلم. وإيراد السؤال والجواب على هذا الوجه – خلافَ ما في شرح الكبرى – هو التحرير، على أن هذا كله مبني على أن التعلق نفسي قديم، ومنهم من قال إنه نسبة وإضافة، فمنه أزلي ولا يستحيل انعدامه؛ لأن القديم المحال عدمه هو الموجود، ومنه حادث.

 

شرح العالم العلامة البحر الفهامة شيخ الشيوخ سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المولود سنة 1172هـ المتوفى بمدينة فاس 17 محرم سنة 1227 هـ على توحيد العالم الماهر سيدي عبد الواحد بن عاشر قدس الله سرهما آمين، من الصفحة:63 إلى الصفحة:66.

(طبع على نفقة الحاج عبد الهادي بن المكي التازي التاجر بالفحامين)

مطبعة التوفيق الأدبية

 

 

الهوامش:


[1]– سورة آل عمران، الآية: 5.

[2]– سورة الملك، الآية: 14.

[3]– سورة الأنعام، الآية: 59.

[4]– سورة لقمان، الآية: 34.

[5] – سورة الأنعام، الآية: 59.

[6] – سورة الأنعام، الآية: 59.

[7] – سورة الأنعام، الآية: 59.

[8] – سورة الأنعام، الآية: 59.

[9] – سورة غافر، اللآية: 19.

[10] – سورة ق، الآية: 16.

[11] – سورة الرعد، الآيات: 8-9-10.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق