مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

في رحاب توحيد ابن عاشر

إعداد:

د/ عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

د/ مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل. 

قال الناظم رحمه الله:

يجب لله الوجــود والـقدم        كذا البقاء والغنى المطلق عـــــم

وخلفه لخلقه بلا مثـــــال        ووحدة الذات ووصف والفعـال

وقدرة إرادة علم حيـــــاة        سمع كلام بصر ذي واجبـــات

قال الشارح رحمه الله:

واعلم أن القَدَرِي القائل بأن العبد يخلق أفعاله لا يحكم عليه بأنه مشرك شرعا، إذ المشرك هو المدعي الشريك في الألوهية بمعنى وجوب الوجود كالمجوس، أو بمعنى استحقاق العبادة كعبدة الأصنام، والمعتزلة لا يدعون شيئا من ذلك، بل لم يجعلوا خالقية العبد كخالقية الرب لافتقار العبد لأسباب وآلات هي بخلق الله، إلا أن مشايخ ما وراء النهر بالغوا في تضليلهم في هذه المسألة حتى قالوا إن المجوس أسعد حالا منهم حيث لم يثبتوا إلا شريكا واحدا، والمعتزلة أثبتوا شركاء لا تحصى.

 فإن قيل إذا كان هو الخالق لأفعال العباد لزم أنه القائم والقاعد والآكل والشارب والزاني والسارق وغير ذلك مما يتحاشى عن سماعه، فالجواب أن هذا جهل وغباوة؛ لأن المتصف بالشيء من قام به ذلك الشيء لا من أوجده، ألا ترى أنه الخالق للبياض والسواد وسائر صفات الأجسام بلا نزاع بيننا وبين المعتزلة، ولا يتصف بذلك، وأما الكسب الذي أثبته الأشاعرة للعبد في أفعاله الاختيارية فليس معناه اختراعه لتلك الأفعال كما تدعيه المعتزلة، ولا أن قدرته الحادثة أضيفت إلى القدرة القديمة في إيجاد الفعل، فَوُجِدَ بمجموع القدرتين كما يعتقده من لا خبرة له [بمذهب] أهل السنة، بل معناه مقارنة القدرة الحادثة للفعل وملابستها له من غير تأثير لها أصلا، فليست علة ولا جزء علة للإيجاد، وعلى ذلك نبه من قال:

مذهبنا أن لنا قــــــــــدرة        حادثة لسنا بها نقــــــــــدر

وربنا سوغ إطلاقـــــــهـا         في قوله من قبل أن تقــــدروا

وذهبت الجبرية إلى أنه ليس للعبد قدرة حادثة تقارن الفعل أصلا، بل هو مفعول به لا فاعل كالميت بين يدي غاسله، ورد بأنه يلزم عليه استواء الأفعال، وأن لا يدرك فرق بينهما، ونحن ندرك بالضرورة الفرق بين حركة الارتعاش وحركة المشي، وبأنه يبطل محل التكليف وترتيب الثواب والعقاب، ويناقض النصوص كقوله: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)[ سورة البقرة، الآية: 286] ، وقوله: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)[ سورة البقرة، الآية: 286] ، أي طاقتها بحسب العادة، فلو لم يكن كسب لاتحد ما قبل “إلا” وما بعدها، فلم يصح الاستثناء. قال في شرح الصغرى: “فتحقق مذهب أهل السنة بين هذين المذهبين الفاسدين، فقد خرج من بين فرث[1] ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين، قوم فرطوا وهم القدرية مجوس هذه الأمة القائلين بأن العبد يخلق أفعاله، وقوم أفرطوا وهم الجبرية” هـ.

ونقل عن إمام الحرمين أن قدرة العبد تؤثر لكن لا استقلالا بل على أقدار قدرها الباري، وعن القاضي الباقلاني والأستاذ أن قدرة الله تؤثر في إيجاد فعل العبد من حيث عمومه، والقدرة الحادثة تؤثر في وصفه الخاص من كونه صلاة أو غصبا أو سرقة ونحو ذلك. وأنكر في شرح الكبرى أن يصح نسبة واحد من هذين القولين لمن نسب إليه ممن ذكر إلا أن يكون صدر منهم ذلك حال المناظرة على سبيل التنزل، ولهذا قالوا لا ينسب إلى العالم مذهبا ما يصدر منه على سبيل البحث، فتحصل في أفعال العباد الاختيارية خمسة أقوال.

 

شرح العالم العلامة البحر الفهامة شيخ الشيوخ سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المولود سنة 1172هـ المتوفى بمدينة فاس 17 محرم سنة 1227 هـ على توحيد العالم الماهر سيدي عبد الواحد بن عاشر قدس الله سرهما آمين، ص: 56.

(طبع على نفقة الحاج عبد الهادي بن المكي التازي التاجر بالفحامين)

مطبعة التوفيق الأدبية

 

الهوامش:

 


[1] – المراد بالفرث مذهب المعتزلة لأنه أحسن من الدم، لأنهم وإن نسبوا التأثير لقدرة العبد قالوا أن تلك الفدرة مخلوقة له تعالى، والمراد بالدم مذهب الجبرية، لأن كلامهم في هذه المسألة أقبح من كلام المعتزلة فيها لكونه يفضي إلى نفي الشريعة وهو كفر لكون المراد به فضلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق