مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

في رحاب توحيد ابن عاشر

إعداد:

د/ عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

د/ مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل. 

قال الناظم رحمه الله:

يجب لله الوجــود والـقدم        كذا البقاء والغنى المطلق عـــــم

وخلفه لخلقه بلا مثـــــال        ووحدة الذات ووصف والفعـال

وقدرة إرادة علم حيـــــاة        سمع كلام بصر ذي واجبـــات

قال الشارح رحمه الله:

فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية النافية للمماثلة بينه وبين كل شيء وبين بعض الآيات والأحاديث المثبت لما يحصل به الشبه من الأعضاء والجهة نحو: (ويبقى وجه ربك) [ الرحمان، الآية: 27]، (كل شيء هالك إلا وجهه)[سورة القصص، الآية: 88]، (ولتصنع على عيني)[ طه، الآية: 39]، (فإنك بأعيننا)[ الطور، الآية:48]، (والسماء بنيناها بأيد)[الذاريات، الآية: 47]، (بل يداه مبسوطتان)[ المائدة، الآية: 64]، (والسماوات مطويات بيمينه)[سورة الزمر، الآية: 67]، وفي الحديث: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء)، (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) رواهما مسلم. وفي التنزيل: (الرحمن على العرش استوى)[طه، الآية: 5]، (وهو معكم)[الحديد، الآية: 4]، (آمنتم من في السماء)[الملك، الآية: 16]، قلنا: أجمعوا على تنزيهه تعالى عن الظاهر المفضي إلى التشبيه، ثم ما كان له محمل واحد مجازي تعين المصير إليه، كقوله: (وهو معكم)، أي بعلمه وسمعه وبصره وإحاطة قدرته، وكذلك قوله: (من في السماء) أي سلطانه وأمره، وقيل بذاته على ما يليق به من غير تكييف، ومثله: (وجاء ربك)[الفجر، الآية: 22]، أي أمره وسلطانه، (هل ينظرون إلا أن ياتيهم الله)[البقرة، الآية: 210]؛ أي عذابه، وماله محامل قال السلف نفوض ونقول آمنا بالله وما جاء عن الله على مراد الله، وهو أسلم، وقال الأشعري يحمل ذلك على صفاتٍ لله تعالى تليق بجلاله لا نعلم كنهها، ويسميها صفات سمعية، وقال إمام الحرمين وأكثر الخلف نؤول ذلك بما تقتضيه قواعد البلاغة من المحامل المجازية والكنائية وهو أعلم، أي أحوج إلى مزيد علم. فالوجه مجاز مرسل عن الذات، وهو في الأصل من تسمية الكل باسم جزئه الأشرف، ثم توسع فيه فاستعمل في الذات مطلقا، وإن لم يكن ثم وجه، والعين مجاز مرسل عن البصر من تسمية الشيء باسم آلته في الأصل، ثم توسع فيه فاستعمل حيث لا آلة، والأيدي مجاز مرسل عن القدرة، إذ في اليد يظهر سلطانها، وبسط اليدين مجاز عن الجود متفرع عن الكناية؛ لأنهم كنوا به عنه في حق من لا يتصور له اليد والبسط، ثم توسع في هذه الكناية فاستعملت في حق من لا يتصور له يد ولا بسط، أو هو استعارة تمثيلية بأن يشبه حاله بحال جواد بسط يديه معا لذوي الحاجات بالعطاء والإنفاق، وكذا طي السماوات باليمين تمثيل وتصوير لكمال قدرته وعموم تصرفه فيها كمن حوى الشئ في يمينه، وكذا حديث تقليب القلوب تمثيل وتصوير لكمال قدرته على تغيير أحوالها والتصرف فيها بما شاء كما يقلب الواحد من عباده الشيء اليسير بين أصبعين من أصابعه، وكذا حديث بسط اليدين للتوبة تمثيل لقبوله لها ورضاه بها كما يبسط الواحد من عباده يده لأخذ ما يعطاه، فلا يرد معطيا، والاستواء على العرش إما مجاز مرسل عن لازم الاستقرار على الشيء من القهر والغلبة كقوله:

           فلما علونا واستوينا عليهم         جعلناهم مرعى لنسر وطائر

وقوله:

قد استوى بشر على العراق       من غير قتل ودم مهـــراق

وخص العرش لأنه أعظم المخلوقات، ومن استولى على أعظمها كان استيلاؤه على غيره أحرى، وإما مجاز عن الملك ونفوذ الأمر مفرع عن الكناية؛ لأن الملوك في العادة يجلسون على سرر الملك لتنفيذ الأوامر، وإما تمثيل وتصوير لعظمته وتوقيف على كنه جلاله على طريق الاستعارة التمثيلية، فلا يتمحل للمفردات، وإما مجاز مرسل عن ظهوره وتجليه تعالى في العرش من حيث الدلالة والتعريف لا الحلول والتكييف، والعلاقة بين الاستواء والظهور اللزوم العادي؛ لأن الملوك إذا أرادوا التجلي لرعاياهم وحشمهم برزوا لهم على سرير ملكهم، فأطلق اسم الملزوم أعني الاستواء على لازمه أعني الظهور، أي التجلي والظهور المعنوي لا الحقيقي، فيكون استعارة في المجاز المرسل وهو غريب في علم البيان، أن يجعل اللفظ مجازا مرسلا عن معنى مستعار لمعنى آخر، شبه هذا الآخر به فيجتمع في اللفظ الواحد كونه مجازا مرسلا وكونه استعارة تصريحية، وهما معا تبعيان في الفعل المشتق من المصدر الواقع ذلك فيه أصالة، وخص الرحمن بالذكر لأن الرحمانية أتم ظهورا في العرش من سائر الصفات، فقد شملت الرحمانية بالإيجاد والإمداد العرش الذي هو أعظم مخلوق، فصار العرش غيبا فيها كما أشار إليه في الحكم بقوله: (يا من استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيبا في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبا في عرشه، محقت الآثار بالآثار[1]، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار(، وما أحسن ما في المواهب عن بعض أرباب الإشارات يخاطب المصطفى على لسان العرش لما مر صلى الله عليه وسلم به حين رجع من الإسراء: يا محمد خلقني فكنت أرعد لهيبة جلاله، فكتب على قامتي لا إله إلا الله فازددت لهيبته ارتعاشا وارتعادا، فكتب محمد رسول الله، فسكن لذلك قلقي وهدأ روعي، فكان اسمك لقاحا لقلبي وطمأنينة لسري، يا محمد أنت المرسل رحمة للعالمين، ولا بد لي من نصيب من هذه الرحمة، ونصيبي يا حبيبي أن تشهد لي بالبراءة مما نسبه أهل الزور إلي، وتقَوّله أهل الغرور علي، زعموا أني أسمع من لا مثل له، وأحيط بمن لا كيف له، يا محمد من لا حد لذاته ولا عد لصفاته كيف يكون مفتقرا إلي أو محمولا علي، إذا كان الرحمن اسمه والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته فكيف يتصل بي أو ينفصل عني، يا محمد وعزته لستُ بالقريب منه وصلا ولا بالبعيد منه فصلا ولا بالمطيق له حملا، أوجدني رحمة منه وفضلا، ولو محقني لكان حقا منه وعدلا، يا محمد أنا محمول قدرته ومعمول حكمته. هـ.

 

شرح العالم العلامة البحر الفهامة شيخ الشيوخ سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المولود سنة 1172هـ المتوفى بمدينة فاس 17 محرم سنة 1227 هـ على توحيد العالم الماهر سيدي عبد الواحد بن عاشر قدس الله سرهما آمين، ص: 54-55. 

(طبع على نفقة الحاج عبد الهادي بن المكي التازي التاجر بالفحامين)

مطبعة التوفيق الأدبية

الهامش:

 


[1] – المراد بالآثار الأولى الكرسي والسماوات والأرضين وما فيها، والمراد بالآثار الثانية العرش، وسمي الجميع آثارا لأنه أثر رحمة الله تعالى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق