مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

في المَبادئ الكلّيّة والقَواعد النّحويّة

 

قال لي صاحبي وهو يُحاورُني متسائلاً: هل بُرمِجَ عقلُ الإنسان بالقواعد قبل الولادة؟ أيتكلم الإنسان بقواعد مسبقة في ذهنه أم يتكلم تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس؟
ثم أجابَ عن سُؤال نفسِه بقولِه : الذي يبدو لي أن الإنسانَ لا يتحدثُ بقواعدَ مسبقةٍ وإنما يتكلم تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس ،للأسباب التالية :
1-  إذا افترضنا أن الإنسان يتحدث بواسطة القواعد المبرمجة سلفا قبل ولادته فهذا يعني أن تتشابه أقوال جميع البشر الذين يتكلمون لغة معينة كالعربية…

 

قال لي صاحبي وهو يُحاورُني متسائلاً: هل بُرمِجَ عقلُ الإنسان بالقواعد قبل الولادة؟ أيتكلم الإنسان بقواعد مسبقة في ذهنه أم يتكلم تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس؟ثم أجابَ عن سُؤال نفسِه بقولِه : الذي يبدو لي أن الإنسانَ لا يتحدثُ بقواعدَ مسبقةٍ وإنما يتكلم تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس ،للأسباب التالية :

1-  إذا افترضنا أن الإنسان يتحدث بواسطة القواعد المبرمجة سلفا قبل ولادته فهذا يعني أن تتشابه أقوال جميع البشر الذين يتكلمون لغة معينة كالعربية…

2- واختلاف الحاجات المعنوية كذلك يؤدي إلى ظهور القواعد المركبة ،وهذا ما حصل في النحو العربي ،لأن الإنسان لا يتكلم وفق القوانين الصارمة ، والثابت لا يتحكم في المطلق، واللغة لا نهائية ، ولو جهِّز العقل سلفا بالقواعد لما رأينا التطور في القاعدة النحوية على مر الزمن .

3- كما أن الصبي الصغير لا يتكلم اللغة الفصحى وفق القواعد التي جهِّز بها عقله سلفا، بل هو يتعلم من البيئة التي يعيش فيها.

4-  وهذا يؤيده قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-أنا أفصح العرب بيد أني من قريش وتربيت في بني سعد فأنَّى لي اللحن” والرسول الكريم لا ينطق عن الهوى .

5- ويؤيده كذلك طلبه-صلى الله عليه وسلم- من زيد بن ثابت الأنصاري بتعلم لغة اليهود، وهذا يعني أن اللغة ثقافة وليست قواعد معدة سلفا في عقل المتكلم .

6-  ويؤيده قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-للمسلمين”روُّوا أبناءكم الشعر تعذب ألسنتهم، ولو كانت عقولهم مبرمجة بالقواعد مسبقا لما سمعنا هذا الكلام .

7- كما أن ظهور اللحن ينفي وجود القواعد المسبقة في ذهن المتكلم.

8-  بالإضافة إلى أن الإنسان قد يتكلم أكثرمن لغة ،فهل عقله مزوَّد بقواعد اللغات التي يتحدثها جميعا .

9- بالإضافة إلى تمايز نثر وشعر العرب من حيث الجودة والرداءة ، وهذا نابع من تغير ثقافاتهم واحتياجاتهم وعقولهم وملكاتهم. ولهذه الاسباب أقول:إن الإنسان يتثقف لغويا ويتحدث بمستويات متعددة وبلغات متعددة، وهو يقول وهو يفكر ويفكر وهو يقول تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس.

*****************

فأما جَوابي عن سؤاله والرّدُّ على جَوابِه فأختصرُه في الكلماتِ التاليةِ:

تحدَّثَ كثيرٌ من اللّسانيّين المُعاصرينَ عن خُصوصيّة القَواعد وعدَم كلّيّتها، وأغلبُ مَن نَفَوْا وجودَ قواعدَ عامّةٍ، إنّما فعلوا ذلك في سياقِ النّقدِ للنظريّةِ التَوليدية التّحويليّةِ (1) التي يفترضُ فيها شومسكي أنّ اللغاتِ البشريّةَ كافةً مستندةٌ في العُمقِ إلى قَواعدَ نفسيّةٍ ذهنيّةٍ عامّةٍ، ووجَدَ أنه من السّذاجةِ أن نتحدّثَ عن قَواعدَ لغويّةٍ نحوية وصوتية وتركيبية مشتركةٍ؛ فليسَ الاشتراك موجوداً بين الظواهر وإنّما هو في المَبادئ، كما سأوضحُ في الأخير.

فالاختلافُ اللغوي النّحوي والصّرفي والصّوتي بين اللّغاتِ تنوُّعٌ طبيعيّ راجعٌ إلى عَواملَ ثقافيةٍ وتاريخيّةٍ وجغرافيّةٍ هي التي تمنَحُ القَواعدَ الذّهنيّةَ الفطريّةَ سماتٍ وتمثيلاتٍ Represetations  لغويّةً نحويّةً وصرفيّةً. أمّا التّكوينُ البيولوجيّ الأحيائيّ للإنسان فهو واحدٌ وقَواعدُ الإدراك والتمثُّل والتّصوّر واحدةٌ، لولا أنّ عواملَ التّنوعِ والتجربةِ هي التي تخصّصُ العامَّ وتمنحُ القواعدَ وجهاً واقعياً من بين عدّةِ وجوه واقعيّةٍ، والفرقُ بين العام والخاصّ أو بين الكلّيّ والخصوصيّ عبّر عنه شومسكي بالنحو الكليّ والوسائط أو البارامترات التي تنزّلُ الكليّ على الخصوصيّ للحصول على الأنحاء والقَواعد الخاصّة.

ثم إني أتساءَلُ كيفَ نفكّرُ بسذاجةٍ في خصوصيّةِ القَواعدِ عن طريق أقوال وأمثلةٍ لها سياقٌ مختلفٌ، لكي ننفي بسهولةٍ ويُسرٍ قضايا نظريّةً ذاتَ عمقٍ ويَحتاجُ أمرُ نفيها إلى برهنةٍ كبيرةٍ.

– البرهانُ الأول: خذ مثلاً أيّ طفلٍ من أطفال العالَم -قبل مرحلة التعلم اللغوي- من بيئةٍ معينةٍ نشأ فيها وضعْه في بيئة مُختلفةٍ اختلافاً كبيرا ثقافةً وأصواتاً ودلالات… فسَتَرى أنّه سيتعلّم بسرعةٍ فائقةٍ لغةَ البيئةِ الجديدَةِ التي ثَقِفَ لسانَها ونشأ فيها. وهذا أمرٌ لا يحتاجُ إلى أدلّةٍ فما من طفلٍ ولد في كَنَف لغةٍ ونُقلّ إلى كنفِ أخرى قبلَ أن يتلقّى ويتلقّنَ، إلاّ وسيتعلّمُ اللغةَ الثانيةَ من غير أن يعلمَ شيئاً عن اللغة الثانية؛ لأنّ اللغةَ تُكتَسَبُ ولا تورَثُ.

– البُرهان الثاني: كلّ مَولودٍ من بَني البَشَر لا يتلقّى اللغةَ التي يسمَعُها وينشأ في كَنَفها إلاّ بناءً على استعدادٍ أحيائيّ Biological competence، ولا يُتصوّرُ الطفلُ صفحةً بيضاءَ أو حجراً غيرَ منقوشٍ؛ بل الطّفلُ يولَدُ وهو مُزوَّدٌ بقَواعدَ نَفسيّةٍ ذِهنيّةٍ أحيائيّةٍ تَتناسبُ وتتوافقُ واللغاتِ، وهذا خلافاً للحَيوانات، فلا يَستطيعُ الببغاء ولا أعلى فصيلَة في القرَدَة ولا غيرهما من الحيوانات، أن ينطقَ بلغة من اللّغاتِ أو يتعلمَها بالطّريقَةِ المعقّدة التي يتعلّمُها بها لإنسانُ، فالإنسانُ يتعلّمُ لغةً من اللغاتِ التي وُضعَ في بيئتها لأنه يملكُ في داخله وسائلَ تعلّمها، وهذه الوَسائلُ هي تلك القَواعدُ الفطريّة الكلّيّة العامّة المُشتركةُ التي تُمكّنُه من التلاؤم من التجارب الخاصّة، ولا يُتصوَّرُ أن نتساءَلَ بكلّ سذاجةٍ: لِـمَ لَـمْ تُعطِنا هذه القَواعدُ المشتركةُ لغاتٍ مُشتركةً؟ فهذا سؤال ساذجٌ لأنّ القواعدَ كلَّما عمَّت وارتفَعَت، ابتعَدَت عن الصبغة المحليةِ واقْتَرَبَت من كلّ الخصائص التي تجمعُ بين البشَرِ؛ ففي ذلكَ نفيٌ عن الإنسان أن تكونَ قواعدُه موغلةً في الخصوصيّةِ ولُغاتُه مُغرقةً في التنوّع وعدم التّرابُط وعدم الاستنادِ إلى قَواعدَ عامّةٍ ، بل القَواعدُ الكليةُ العامَّةُ هي التي توجّه اللغاتِ وتُعيّنُ نوعَ النحو الخاصّ الذي ينبغي أن يوضَعَ لكلّ لغةٍ، وهذه القواعدُ العامّةُ تُدْعى بالمَبادئ Principles وتتعرضُ هذه المَبادئُ إلى وسائطَ لتنزيلِ العامّ على التّجاربِ اللغويّةِ والثقافيّةِ الخاصّة وفي ذلك ردّ على حكايةٍ أن الطفلَ يولَدُ ويكتشفُ فجأةً أن الذي يدفعُه إلى التكلّم هو الحاجةُ المعنويّةُ، وأنّه يفكر وهو يتكلم ويتكلم وهو يفكر. فهذا كلامٌ يحتاجُ إلى تأسيس علميّ وإلى براهينَ أدقّ وأعمَق من حكاية الاحتياج.

ــــــــ

(1) منهم كلود حجيج C. HAGEGE وموريس كروس M. GROSS ودعاة اللسانيات النسبيّة: انظر في ذلِكَ : اللسانيات النسبية للدكتور محمد الأوراغي

 ************************

الحلقةُ الثانيةُ في الرّدّ على المُحاوِر :

التعليقُ الذي كتبتُه رددتُ فيه على دَعْوى قولك: هل بُرمجَ عقلُ الإنسان بالقواعد قبل الولادَة؟ إنّما برهنتُ به على أنّ الإنسانَ عربيا كان أم غير عربي لا يتعلّم اللغةَ وهو خاوي الوفاض، ولا يجنَحُ للأساليبِ والتراكيبِ التي يتعَلّمُها من الكبارِ من تلقاء نفسِه ولكنّه يتعلّمُ ما عُلِّمَ بناءً على قَواعدَ سابقةٍ: يحفظُ ما يسمَعُ أو يتقبَّلُه ويستوعبُه تأسيساً على مبادئَ تنشأ معه أو قلْ تنشأ بنشأته؛ فهو يتعلّمُ اللغةَ التي يُلقَّنُها، بناءً على استعداد فطري سمّاه العلماءُ بالقواعد والمبادئ؛ وقَد سبَقَ لابن جنّيّ في كتاب الخصائص ذي النّظراتِ الذّكيّة الثّاقبَةِ أن مالَ إلى تَفْسير قولِه تعالى: «وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها» [البقرَة: جزء من الآيَة:31]، بأنّ الله عزّ وجلّ أقْدَرَ آدمَ على التّعلّم. ومعنى كلامِ ابن جني أنّ الإنسانَ يولَدُ مزوَّداً بالقُدرة على تعلّم أيّة لغةٍ نشأ في كَنَفِها، وقادراً على المُواضَعَة عليْها. ولا ينشأ عالماً بالقَواعد أو باللغة التي نشأ فيها، فالقولُ بـأنّه نشأ متعلماً اللغةَ وقواعَدَها الخاصةَ افتراض بأن اللغة الخاصّةَ كالعربيّة أو الإنجليزيّة أو غيرهما، وراثيةٌ، ولكنّ التجاربَ تدحض هذا الزعمَ وتُبطِلُه

وقد استبعَدَ ابنُ جنّيّ من طريقٍ غير مُباشرٍ أن يكونَ آدمُ عليه السلام تعلّمَ أسماءَ جميع المَخلوقات، بجميع اللغات: العربية، والفارسية، والسريانية والعبرية، والرومية، وغير ذلك من سائر اللغات، وأنّه كان هو ووَلَدُه يتكلمونَ بها، ثم إنّ وَلَدَه تَفَرّقوا في الدّنيا، وعَلِقَ كلٌّ منهُم بلغةٍ من تلكَ اللّغاتِ، فغَلَبَت عليه، واضمَحلّ عنه ما سِواها، لبعد عهدهم بها. فهذا تفسيرٌ بعيدٌ لأنّه يَتنافى ومسألة تطوّر اللّغاتِ، أمّا الأمرُ المنطقيُّ الواقعيّ فهو القُدرةُ المركوزةُ في النفوسِ؛ فهي قدرةٌ بشريّةٌ كليةٌ ثابتةٌ مزوّدةٌ بخصائصِ تعلّم اللغاتِ

ففي هذا الإطارِ تستطيعُ أن تتكلّم عن علاقةِ القدرةِ -بما هي قواعدُ ذهنيّةٌ نفسيّةٌ كلّيّة أومبادئُ ذهنيّةٌ نفسيّةٌ كلّيّة؛ وتستطيعُ في هذا الإطارِ المنطقيّ الواقعيّ أن تَقولَ إنّ الطّفلَ العربيَّ يتعلّمُ اللغةَ التي نشأ في بيئتها وهي العربيّةُ بسرعةٍ كالتي يتعلّمُها بها غيرُه ممّن نَشَؤوا في كنفِ لغاتٍ أخرى

أمّا النحويّونَ ففي التعاريفِ التي وصلتْنا عن علم النّحو والقَواعدِ، منذ القرون الأولى لوضع النّحو، فتُفيدُ أنّ النحويين َالأوائلَ لم يخترعوا القَواعدَ ولم يصطنعوا الأنساقَ المنطقيّةَ ولم يَفْتَروا على اللغةِ وإنّما نظروا فيها وحاولوا أن يستخرجوا العلاقاتِ التي تشدّ أجزاءَها بعضَها ببعضٍ، وقاموا بما استطاعوا من استقراءِ الأوجه والخصائصِ المشتركة المتشابهةِ فوضعوا لكلّ سلوك عامّ مشتركٍ قاعدةً ، وقاسوا ما غابَ عنهم على ما اطّردَ الحُكمُ فيه أمامَهُم وهو يَنظُرونَ في ظواهرِ العربيّةِ وشواهدِها. والدّليلُ على فعلِهم هذا أنّك إذا تأمّلْتَ في أبوابِ كتابِ سيبويْه ومسائلِه النّحويّةِ والصرفيّةِ والدّلاليّة، بعيْن، وألقيتَ عيناً أخرى على شواهد العرب وكلامها وخُطَبها، وجدْتَ أنّ ما تَرَكَه سيبويْه من كلامٍ إنّما هو وصفٌ واعٍ عالمٌ ذكيٌّ لما غابَ عن القارئ المتوسّط من أنساقٍ وعلاقات وقَواعدَ وعللٍ واقعيّة…

فأنت تَرى ههنا أننّا لا نفرُّ كما زعمتَ ولا نعمّمُ كما ادّعيْتَ وإنّما ربطْنا القَواعدَ الفطريّةَ بالقواعدِ النحويّة وبيّنّا كيفَ تتحكّمُ تلك القَواعدُ الأولى أو المَبادئُ الأولى في نشأة أنساق اللغاتِ وقواعدِها التركيبية والصرفية قبلَ أن يأتي النحاةُ ليستخرجوها ويقيسوا عليْها

 ************************

الحلقة الثالثة

أقولُ بعد الذي ذكرْتُه في الجوابِ السابقِ، وبالله التّوفيقُ :

تُعَدّ اللُّغَةُ مَلَكَةً قائِمَةً في نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ، الذي يولَدُ مُزَوَّدًا بِها ومُهَيَّأً لِتَعَلُّمِ أصْواتِها وتَراكيبِها ودلالاتِها، وذلِك لِما يوجَدُ مِنْ تَوافُقٍ بَيْنَ مَبادِئِ اللُّغَةِ وكُلِّيّاتِها وبَيْنَ اللُّغاتِ البَشَرِيَّةِ المُتَنَوِّعَةِ.

لَقَدْ عايَنَ العُلَماءُ العَرَبُ والمُسْلِمونَ هذِهِ القَضِيَّةَ، وَ يُسْتَنْبَطُ مِنْ مُعالَجَتِهِمْ لِلْمَلَكَةِاللُّغَوِيَّةِ القائِمَةِ في نُفوسِ الْمُتَكَلِّمينَ أَنَّها قائِمَةٌ عَلى مَبادِئَ عامَّةٍ تُؤَثِّرُ في قِيامِ الْمَلَكَةِ؛ وهِيَ مَبادِئُ نَفْسِيَّةٌ وَ اجْتِماعِيَّةٌ تَتَّصِلُ بِضَرورَةِ الاجْتِماعِ وَ التَّواصُلِ والْحاجَةِ إِلى وَضْعٍ لُغَوِيٍّ لِلتَّداوُلِ، يَغْتَرِفُ مِنْ قُوى الْمَعْرِفَةِ وَ التّعَلُّمِ النّفْسِيَّةِ الْباطِنِيَّةِ التي يَشْتَمِلُ عَلَيْها الإِنْسانُ بِالْقوَّةِ والْفِطْرَةِ، وهِيَ القُوى التي تَتَرَتَّبُ عَلَيْها الْمَعْرِفَةُ المُحَصَّلَةُ الْمُكْتَسَبَةُ. وقَدْ تَحَدَّثَ الْمَناطِقَةُ وَ الْمُفَكِّرونَ الْعَرَبُ عَنِ «الْعِلْمِ الأَوَّلِ» و«الْعُلومِ الأوَّلِيَّةِ» و«الْعِلْمِ السّابِقِ»؛ يَقولُ ابْنُ سينا في هذا الْمَعْنى: «وكُلُّ تَعْليمٍ وتَعَلُّمٍ ذِهْنِيٍّ وفِكْرِيٍّ، فَإِنَّما يَحْصُلُ بِعِلْمٍ قَدْ سَبَقَ؛ وذلِكَ لأَنَّ التَّصْديقَ والتَّصَوُّرَ الْكائِنَيْنِ بِهِما إِنَّما يَكونانِ بَعْدَ قَوْلٍ –قَدْ تَقَدَّمَ– مَسْموعٍ أَوْ مَعْقولٍ ويَجِبُ أَنْ يَكونَ ذلِكَ الْقَوْلُ مَعْلومًا أَوَّلاً، ويَجِبُ أَنْ يَكونَ مَعْلومًا لا كَيْفَ اتّفق، بَلْ مِنْ جِهَةِ ما مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكونَ عِلْمًا ما بِالمَطْلوبِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْفِعْلِ فَبِالْقُوَّةِ وفي الصِّناعاتِ الْعَمَلِيَّةِ أَيْضًا إِنَّما يُتَوَصَّلُ [إِلى] التَّعْليمِ وَ التَّعَلُّمِ مِنْ عِلْمٍ مُتَقَدِّمٍ ».

وقَدْ فَرَّقَ ابْنُ رُشْدٍ بَيْنَ وَحْدَةِ الْمَعاني في النَّفْسِ وَ اخْتِلافِ الدَّوالِّ التي تَدُلُّ عَلَيْها: «إِنَّ الأَلْفاظَ التي يُنْطَقُ بِها، هِيَ دالَّةٌ أَوَّلاً عَلى الْمَعاني التي في النَّفْسِ، والْحُروفُ التي تكْتبُ هِيَ دالَّةٌ أَوَّلاً عَلى هذِهِ الأَلْفاظِ، وكَما أَنَّ الْحُروفَ الْمَكْتوبَةَ – أَعْني الْخَطَّ – ليْسَ هُوَ واحِدًا بِعَيْنِهِ لِجَميعِ الأُمَمِ، كَذلِكَ الأَلْفاظُ التي يُعَبَّرُ بِها عَنِ الْمَعاني لَيْسَتْ واحِدَةً بِعَيْنِها عِنْدَ جَميعِ الأُمَمِ [ … ] وَ أَمّا الْمَعاني التي في النَّفْسِ فَهِيَ واحِدَةٌ بِعَيْنِها لِلْجَميع، كَما أَنَّ الْمَوْجوداتِ التي الْمَعاني التي في النَّفْسِ أَمْثِلَةٌ لَها وَ دالَّةٌ عَلَيْها هِيَ واحِدَةٌ وَ مَوْجودَةٌ بِالطَّبْعِ لِلْجَميعِ ». وأثْبَتَ الْقاضي عَبْدُ الْجَبّارِ أَنَّ «العِلْمَ الضَّرورِيَّ لا يَقَعُ بِحُجَّةٍ» و«أَنَّ ذلِكَ يَقَعُ مُبْتَدَأً»؛ لأَنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ أَوائِلَ لا يُبَرْهَنُ عَلَيْها ، وَ تُتَّخَذُ مُقَدِّماتٍ وَ أُصولاً يُتَوَصَّلُ مِنْها إِلى اكْتِسابِ عِلْمٍ جَديدٍ .

إِنَّ الْحَديثَ عَنِ الْمَعْرِفَةِ الْفِطْرِيَّةِ لَدى الْمُتَكَلِّمِ هُوَ حَديثٌ عَنْ مَفْهومِ النِّظامِ الْمَعْرِفِيِّ وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن اسْتِعْمالٍ لُغَوِيٍّ وَ اخْتِيارٍ وَ إِرادَةٍ وَ مُشارَكَةٍ مَقامِيَّةٍ في بَثِّ الْكَلامِ وَ اسْتِقْبالِهِ. وقَدْ عَرَّفَ السُّهَيْلِيُّ صِفَةَ الْفِطْرَةِ الْكَلامِيَّةِ وصِفَةَ الْمُشارَكَةِ الْمُتَكَلِّمِيَّةِ بِقَوْلِهِ: «الْكَلامُ صِفَةٌ قائِمَةٌ بِنَفْسِ المُتَكَلِّمِ يُعَبِّرُ لِلْمُخاطَبِ عَنْهُ بِلَفْظٍ أَوْ لَحْظٍ أوْ خَطٍّ … ». فالْمُتَكَلِّمُ بهذا المعْنى مُعَدٌّ لإِرْسالِ الْكَلامِ واسْتِقْبالِهِ إِعْدادًا فِطْرِيًّا، ومُزَوَّدٌ بِأَدَواتٍ إِرْسالٍ واسْتِقْبالٍ مَرْكوزَةٍ في نَفْسِهِ وقائِمَة عِلَلُها في عَقْلِهِ وحِسِّهِ

ـــــــــــــ

يُنظرُ التفصيلُ في كتاب: من ظَواهر الأشباه والنّظائر بين اللغوياتِ العربيّة والدّرس اللّسانيّ المُعاصر/أ.د.عبد الرحمن بودرع، نشر حَوْلِيّات الآداب والعُلوم الاجتماعيّة، جامعة الكويت، 1426-2005م، ص:27-28

*************************

الحلقَة الرابعَة

أَ وَ لاَ تَرى أنّ الإنسانَ الذي تحكمُه المَقاماتُ والظّروفُ ومَثاراتُ المَعاني، لا يستطيعُ أن يُفْصحَ عن مَعانيه وصوره الذّهنيّةِ ودلالاته المُعْرِبَة عن حاجاتِه إلاّ بلُغةٍ ذاتِ قَواعدَ وضَوابطَ وقُيودٍ، فإذا أخلَّ بتلكَ القَواعد والضّوابِطِ والقُيودِ اختلَّ الكَلامُ واضطرَبَ، والْتَبَسَ المَعْنى على السامعِ وضاعَ المُرادُ المَقْصودُ من الكَلام. فالإنسانُ لا يقولُ وهو يُفكّرُ، ولا يُفكّرُ وهو يَقولُ إلاّ إذا ثَقِفَ لُغَتَه وعَرَفَ شُروطَ تَركيبِها وأساليبَ السَّلامَةِ من اللّحنِ والتَّلْبيسِ و الإحالَة.

وهذا الشّرطُ النّحويُّ الصرفيُّ التّركيبيُّ هو الذي يتحكّمُ في طُرُقِ إخْراجٍ المَعاني من الذّهن، فَلا يُفصِحُ المتكلّمُ عَن مَعانيه غُفْلاً وإنّما يُفصحُ منها على ما قَبِلَ الانتظامَ في سلكِ التّعبيرِ السَّليمِ الذي ينضبطُ إلى القَواعدِ ويلتزمُ بشُروطِ سَلامةِ القَولِ.

وإذا سألْتَ عن هذه القَواعدِ فإنَّها تكوّنَت في نفْسِه بفعلِ تَكْرارِ الجُملِ السَّليمَةِ والنّصوصِ الصَّحيحَة، حتّى أصبَحَت كالمَلَكَةِ الرّاسخَةِ في نفسِه، يصدرُ عنها عندَ كلّ تعبيرٍ.

*****************

الحلقَة الخامسَة:

ما زالَ الكلامُ مُسترسِلاً في الرّدّ على من ادّعى أنّ الكَلامَ يقومُ بالاحتياج المعنويّ و أنْ لا دَخْلَ لقواعد اللغةِ في إقامته وبنائه وتنسيقِه؛ فالمُجادلُ يتصورُ عبارَاتِ اللغةِ ألفاظاً ومراتبَ فيها تقديم وتأخير وكَفى وأنّ المتكلّمَ كلّما أراد أن يُقدّمَ قدّمَ وكلّما أراد أن يؤخّرَ أخّرَ، بحسبِ ما يعنّ له من غير دَخلٍ لقواعد اللغة، ولكنّه ينسى أو يتناسى أن الإسنادَ بنية عَميقةٌ تشدّ أركان العبارات. ولولا الإسْنادُ والتركيبُ لانهار بنيان العبارَة ولَمَا ساغَ تقديمٌ ولا تأخيرٌ ولا حذفٌ ولا ذكْرٌ :

فالنظمُ والتّركيبُ والإسنادُ أولاً، ثمّ يأتي التفاضُل بين العبارات بالتقديم والتأخير والذكرِ والحذف …

والحَقيقَةُ أنّ الرّجمَ بعَصا “الاحتياج المَعنويّ” ليسَ طريقةً سديدةً في الاستدلالِ العلميّ والحِجاجِ العقليّ ؛ فكلّما اعترَضَ معترضٌ كررَ المُجادلُ الكلمةَ نفسَها، وهذا ما يُدْعى بالدَّوْر المُغْلَق أي الكَلام الذي يَدورُ حولَ نفسِه دَوراً مُغلَقاً .

هذا، وإذا سلّمْنا بأنّ اللغةَ أداةٌ للتواصُل والتعبيرِ عن الأفكارِ والأحاسيسِ والحاجاتِ اليوميّة ، فإنّ اللّجوءَ إليْها ليسَ خبْطَ عَشْواءَ وليسَ اعتسافاً للطّريقِ وإنّما هو إعمالُ فكرٍ في طريقةِ التعبيرِ ؛ لأنّ للتعبيرِ طرُقاً ومَسالكَ لولاها لَما عَبَرَ المتكلّمُ تلكَ المَسالكَ، ولَما عبَّرَ عَمّا في نفْسِه، وهذا أوضَحُ من أن يُستدلَّ عليْه. وبه يُرَدّ على حكايَةِ “الحاجةِ المعنويّة” المُهلهلةِ التي لا يحكمُها ضابطٌ.

*********************

الحلقَة السادسَة:

ثُمّ بعدَ ذلِك؛ يبدو أن القولَ بخلوّ اللغة من القَواعد ضربٌ من العَبَث لأنه نفيٌ للعلم أصلاً : علم اللغة وعلم النحو في القَديم والحَديثِ، ومَن يُريدُ إثباتَ ظاهرةٍ جزئيةٍ هي جزءٌ من كلّ، إنّما يُحاولُ عبثاً ويَتعامى عن التراكم المعرفيّ الذي أثبَتَه العُلَماءُ قديماً وحَديثاً في الشرق والغربِ، وضربٌ من الهَذيان المعرفيّ.

حتّى المَدارس التّداوليّة في اللسانيّات العربيّة والغربيّة على السّواءِ، تُقيّدُ الوَظائفَ التّداوليّةَ بقيود تركبيّة ، فإذا اختلّت القواعد التّركيبيّة تعذّر بيانُ المَعاني والمَقاصدِ والمَقاماتِ، والأمرُ نفسُه يُقالُ عن اللسانيّات التّوليديّة في اتّجاهها الدّلاليّ الذي يَذهبُ إلى مركزيّةِ الدّلالة واشتقاقِ التّركيبِ، لا يُتصوَّرُ قيامُ مَعانٍ دلاليّةٍ خارجَ الإطارِ اللّغويّ المَضبوطِ بضَوابطَ تركيبيّة ، فكيفَ يَدّعي المُجادلُ وحدَه دونَ غيرِه خلوَّ اللغة والاستعمالِ اللغويّ من القَواعدِ، فهَب أنّنا أسْقطنا الجانبَ التنظيميّ التّركيبيّ الذي يشدّ البنيانَ اللّغويّ من حيثُ الألفاظ و تراكيبها وروابطها، فماذا سَيبْقى؟ بل مَعْنى ذلك أنّه سينهارُ كلّ شيء، وسنلجأ إلى نظامٍ تواصليّ آخَر هو الإشارات أو غيرها

***********************

الحلقَة السابعَة:

قد يقولُ القائلُ: إنّ مسألة الحاجةِ المعنويّة تتحكّمُ في التواصُل اللغويّ ولا حاجةَ للمتكلّمِ إلى قَواعدِ نحوٍ أو صرفٍ، وإنّما يُختصَرُ الأمرُ كلُّه في مسألة انتِقاءِ الألفاظِ. والجوابُ عن ذلِك أنّ انتقاءَ لفظ دونَ لفظ إنّما يدخلُ في باب المناسَبَة المعجميّة، وحسْبُ، وهذه المُناسبةُ لا تُسقطُ عن المتكلّم وجوبَ التقيّد بقواعد الإسناد السّليم والتّركيب الصّحيح، سواء عليْه أقدّم وأخّر أم حَذَفَ وذَكَرَ…. فهو مُلزَمٌ في جَميع أحوالِ الكَلامِ وأوضاعِه بالقواعد على كلّ حالٍ، ولا يُغني الاحتياجُ عن لزوم القَواعد، وإلاّ انحلَّ العَقْدُ الذي بين المتكلّم والمُخاطَب وفُقدَ التّفاهُم والتواصُل.

أما حكايةُ الاحتياج فيعلمها الخاصّ والعامّ ، ولنا في كُتُب التناسُب عند المفسرين مثل الإسكافيّ وابن الزّبيرِ الغرناطيّ وغيْرِهما مَغْنى وكفايَة، وهم أنفسُهم يشترطونَ في المناسَبَة المَقامية تناسُباً آخَر هو التناسُب النحويّ أو التّركيبيّ

وهكذا فإنّ حكايةَ الاحتياج المعنويّ مسألةُ مألوفة تتّصلُ بحاجةِ الإنسان إلى التّعبيرِ عن حاجاتِه المادّيّة والنّفسيّة… وليسَت نظريّة من النّظرياتِ، ومَن ادّعى أنّ حكاية الاحتياج نظريّةٌ فقَد افْتَرى وزَعَمَ الإتيانَ بجديدٍ، بينَما هو أتى بلفظٍ أجوفَ أو مصطلَحٍ ليسَ تحتَه إلاّ حاجة اللفظ إلى المَعْنى وحاجة المَعْنى إلى اللفظِ المُناسبِ، وقَد هُرِعَ الناسُ في زَماننا هذا إلى لَفْت الأنظارِ بكثرةِ المُصطلحاتِ والألفاظ، والحقيقَة أنّ الحاجةَ المعنويّةَ ليسَت نظريّة ولا قضيّةً ولا شيْئاً من الأشياءِ الجَديدَة، إنّما العبرةُ برغبة الإنسانِ في التواصُل والتعبيرِ، وانتقائه اللفظَ المناسبَ أو التركيبَ المناسبَ المضبوط بالقَواعد والقُيود، ولو خرَقَ المتكلّمُ القَواعدَ لتعذّرَ على مُخاطَبيه أن يَفهموه ولكانَ أقرَبَ ما يَكونُ إلى مَن يُحدّثُ نفسَه ويهذي هذَياناً، فلينظرْ هل سيُسعفُه ذلِكَ في تبليغه مَعْناه الذي يَحْتاجُ إليه، وهذا ما تيسَّرَ ذكْرُه من أدلّةٍ وبَراهينَ هي أنْفى للشّبهَةِ وأبلَغُ في الإبانَةِ.

******************

وختمتُ مُحاورَةَ صاحبي في الرّدّ على ادّعائه الإتيانَ بنظرية الاحتياج المعنويّ بقولي له : أنت لم تأتِ بنظرية اسمُها الاحتياج المعنوي، ولكنّك نثرتَ خواطرَ متفرقةً في نقد النحو العربي، وفي الطّعنِ على النّحويين، ويحسُن بك أن تعودَ إلى صنفيْن من المراجع لاستكمال هذه الخواطر وتطويرِها بدلاً من أن تُبدئَ وتُعيدَ وتنتهي إلى العبارَة نفسِها، وهي قولُك: فتبيَّنَ أنّ الكلامَ يحكمُه الاحتياج…، عليْك بدلاً من الجدالِ الذي لا ينتهي أن ترجعَ إلى صنفيْن أو ثلاثة أصناف من المراجع:

– أولاً كتب نقد النحو ، فقَد أنجِزَت في نقد النحو العربيّ وما فيه من علل على اختلافها عَشرات المَراجع ، منها ما اتبَع المنهَج الوصفيّ التّيسيريّ، ومنها ما استمدّ من مناهج الدّرس اللغويّ الحَديث…

– ثانياً كتب اللسانيات الحَديثَة، خاصّة المتعلّقة بنظريات الدّلالَة والمدارس والاتجاهات التي تربط استعمالَ اللغة بالوَظيفَة ، ومن هذه المَدارس الوظيفيّة والتّداوليات وغيرها،

– ثالثاً كتب حديثة جدا في نظرية الدلالة التوليدية التي تنتقد التركيبية التوليدية وتميلُ إلى أنّ الدّلالة مركز البنية اللغوية أمّا البنية التّركيبيّة فليسَت إلاّ مشتقّةً من الدّلالَة، وهذه نظريّة متطوّرة صاحبُها هو راي جاكندوف [2002م] من خلال بحثه: الدّلالة مَشروعاً ذهنياً 

Foundations of Language, Brain, Meaning, Grammar, Evolution 

Oxford University Press, 2002

يتعيّنُ عليك قبلَ أن تتحدّث في ما دعوتَه بنظرية الاحتياج أن تتأمّل في إسهام اللسايات الحديثَة في تطوير الاهتمام بالدّلالَة وإقامَة اسس نظرية للدلالَة، وهي نظرية سجّلَت تقدّماً هاماً في فهم المَعْنى وكيفية تَوليده أو إنتاجه، فتلك النظرية اجتهَدَت وما زالَت، في وضع مَبادئ نظرية لرصد القواعد المتحكّمَة في تنظيم المَعاني وترتيب المدلولات…

اجتهادٌ ثانٍ يُمكن أن نوسّع فيه النّقاشَ حول المَعْنى وهو الوظائف التداوليّة التي تُسنَد إلى مكونات الجملة، وأنّ هذه الوَظائفَ المتعلقَة بالمَقام والمَقاصد والمُخاطَب هي التي تحدّد نوع الكلمات التي يُركّبُ منها التركيبُ، ونوع الرتَب التي تُرتَّبُ عليْها تلك الكلمات

في هذا الإطار يُمكن أن نتحدّث عن نظرية المَعْنى أو ما دعوتَه بنظرية الحاجَة إلى التعبير عن الدّلالة، أمّا أن تأتي بخواطر متفرقة وملاحَظات حول النصوص وتقول في خاتمة كل مثال مثّلْتَ به أو شاهدٍ زعمْتَ أنّه استدْللْتَ به: « فتبيَّن أنّ الحاجة المعنويّةَ هي التي تتحكّم 

في القول وليس القواعد » فهذا كلامٌ سطحيّ ساذجٌ لا يستحقّ أن يُنعَتَ بالنّظريّة، وأنصحُك ألاّ تنسبَ إلى نفسِكَ أنّك أنشأتَ نظريةً ، لأننا ابتُلينا في زماننا هذا بأنّ كلّ مَن قيّدَ خواطرَ وتوسّع فيها سَمّى ملحوظاته بالنظرية وهذا أمرٌ مثيرٌ للاستغراب 

********************

وختمْتُ مُحاوَرتي لَه بالرّدّ على زَعمٍ زَعَمَه، قالَ فيه: «من المعروف أن اللغة العامية مستوى متدَنٍّ من اللغة العربية ،إلا أن المتحدثين بها يتحدثون بها ويتفاهمون فيما بينهم عن طريقها مع افتقارها إلى القواعد وعلامات أمن اللبس …» وأتى بكلامٍ ركيكٍ جداً ليُمثّلَ به على القُدرةِ السّريعةِ على التّفاهُم بالعامّيةِ، وعلّقَ على مثالِه المصنوعِ، بقولِه: «هذه قصة […] يقولها العامِّي ،وهو لا يعرف القواعد، وهي قصة تفتقر إلى القواعد وعلامات أمن اللبس، وهي قصة مفهومة أوردتها لأبرهن على أن اللغة تقوم على الاحتياج المعنوي ،لا على القواعد.» هكذا …

فأجبْتُه بما يَلي :

هذا الكَلامُ العامّيّ الطّويلُ الذي جئتَ به للتّمثيلِ على زعمِكَ كلامٌ عربيّ نالَه بعضُ التحريف التركيبي والصوتي، أي إن خروجَه عن القَواعد ظاهرٌ، ولكنّه خروج محدودٌ، ولو جئتَ بجمل عاميةٍ أخرى ابتعَدَت 

عن القَواعد لرأيتَ أنّها لا يفهمُها إلاّ المتكلمون بتلك العامّية، وكلّما اقتَرَبَت العاميةُ من الفصيحةِ اتّسَعَت قاعدَةُ الفاهمينَ الذي يتلقّونَ جُمَلَها بالقَبول، فالمقياسُ في قَبول الكَلام الاقترابُ من الفصيحَة، أمّا البُعدُ عنها فيحصرُ اللهجةَ في متكلميها المَعْدودينَ المَحْدودين، فالعربيّةُ معيارٌ ضابطٌ لأنّها لغةٌ مضبوطةٌ بالقَواعد، والنتيجَةُ أنّ ما كانَ مضبوطاً بالقَواعد تيسّرَ التواصُلُ به لأنّ اللغةَ المنظّمَةَ بالقَواعدِ ميثاقٌ بين متكلِّميها 

ثمّ إنّكَ تنطلقُ في سؤالك أو في استنكارِك، من منطلقات خاطئة؛ إذ تجعَلُ العربيّةَ لغةً والعامياتِ لغاتٍ أجنبيّةً عنها غريبة عنها كلّ الغَرابَة لا يربطها بها رابطٌ ، وكأنّ الناطقينَ بالعربيّة قومٌ والناطقين بالدّوارِج قومٌ أجانبُ، هذا هو الخطأ بعيْنه لأنّ تنظرُ إلى الأمورِ نظرةً آليةً ميكانيكيّةً متصلّبةً ، والحقيقةُ أنّ الدّوارِجَ متفرّعةٌ عن العربيّة،أصابَها انحرافاتٌ صوتيّةُ وصرفيّةٌ وتركيبيّةٌ، ولو كانـَت الدّوارِجُ والفَصيحةُ فصيلَتَيْن لغويتَيْن متباعدَتَيْن كلّ البُعد لَما فَهمَ العَوامّ نشراتِ الأخبارِ وخُطَبَ الجمعَة والأحاديثَ النبويّةَ

ثمّ إنّ بليغَ المَعْنى لا يكونُ إلاّ بلغةٍ ذاتِ قَواعدَ وذاتِ نَسَقٍ وذاتِ نظامٍ ، ومَن ركبَ لهجةً عاميةً من غير قَواعدَ فقَد بلّغَ معناه مُشوَّهاً غيرَ مُكتمل وغيرَ سويٍّ لأنّ القَواعدَ النحويّةَ والصرفيّةَ والمعجميةَ المركوزةَ في نفوسِ المتكلّمينَ والمُستخْرَجَةَ على شكلِ قواعد نحويّةٍ مبسوطة في كتب النّحويين الأوائل، هذه القَواعد هي التي تيسّرُ تبليغَ المَعْنى سليماً مُعافىً مكتملاً، وهذا لا سبيلَ إلى إدراكه إلاّ لمن نمرَّسَ بقراءَة النّحو والصّرف والبلاغَة وعلوم العربيّة عامّةً ؛ لأنّ علومَ العربيّة هي القَنوات التي تنظّمُ مَسالكَ تبليغ المَعْنى.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق