مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويمفاهيم

في الإسناد المالكي عند علماء الصحراء (6) إجازة أحمد بن عبد العزيز السجلماسي لمحمد بن صالح الفلالي

اخترت أن أختم هذه السلسلة بهذا النص لدواعٍ منها:

أوّلاً: كون صاحبه سكَنَ الساقية الحمراء مدة تربو على الثلاثين سنة، حتى أخذ صفاتها وتطبع بطباعها.

ثانيا: لأن نص الإجازة فيه من الفوائد ما يغني اللبيب ليدرك فائدة الإسناد وأهميته في الممارسة الفقهية في الصحراء.

ثالثا: للأدب الجم الذي كان يتحلى به طلاب العلم، والذي أبان عنه المجيز والمجاز.

ورابعا: لأن المجيز من أحد كبار أعلام المذهب في هذا القطر من المغرب.

خامسا: لما فيها من وصل الرحم بين حواضر العلم.

بدأ العلامة محمد بن محمد بن صالح الفلالي في هذا النص بالكلام عن الظروف المحيطة بالإجازة التي كتبها له العلامة الكبير والفقيه الشهير أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي (ت: 1175هـ) وذلك مُحرّمَ 1173هـ عندما نوى العودة للساقية الحمراء فقال[1]:

“ولما أراد مالك الملك، المولى العلي الكبير، المنفرد بالتصرف والتكوين والتدبير، نقْلَنَا مِن بلادنا وأوطاننا بالساقية الحمراء بعد تحصيل ما تفضل به علينا من فنون العلوم النفيسة الغراء، على أيدي مشايخ جلة كبراء، أوَّلهُم والدي رحمه الله، وآخرهم الشيخ المذكور، وكان أكثرهم لي نفعاً وإقراءً، شاورته رضي الله عنه في الرجوع إليها، أعني الساقية الحمراء، فإني كنت قد ذهبت قبل ذلك إليها، فشارطت على تعليم الصبيان ثم رجعت إليه، فإني منذ عرفته لا أطيق مُقاماً إلا لديه، وكذا كل من فيه همة ومحبة للقراءة لا يصبر عنه إذا جلس ولو مرة واحدة بين يديه، فأذن لي على أن آتي بجمال يُحمل عليها هو وأنا معه، فنرحل إلى المشرق ليحج هو ثانياً تطوعاً، وأحج أنا مؤدّياً للفريضة، ثم نجاور المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله بالمدينة المنورة لا زالت إمدادات الخيور لديها طويلة عريضة”[2].

ثم وثق لحظة الإجازة قائلا: “وكتب لي حينئذ الإجازة بيده السعيدة، ووادعني راجياً أن لا تكون الغيبة مدةً بعيدة، وذلك في المُحرَّم فاتح ثلاثة وسبعين ومائة وألف من الهجرة الحميدة، وقد رأيت أن أكتب إجازته لي هاهنا فإن في كتابتها فوائد عديدة، منها أحبُّهَا إليَّ كَونُه يُسَمِّيني باسْمِ الوَلَدِ فيما يَكْتُبهُ لي مِنَ الأمُور السَّديدَة، ومنها ما وَصَفَني به وللهِ الحَمْدُ مِن الصِّفاتِ العَظيمَة المِقدَارِ، وهي الذَّكَاءُ والفِقْهُ والنَّجَابَةُ والبرورُ والاعتبَار، فلله الحمد والشُّكر على ما تَفَضَّلَ به عَلَيَّ من الصفات الحميدة، مع ما اعْتَرَفَ لي بِه الشيّْخُ من تحصيل العلُوم المفيدة، ومنها وهي أهمها وأعظمها نفعاً وأعمّها الاعتراف لنا بمحبته، فلقد ورد أن المرء يحشر مع أهل مودته، ومنها استفادة كيفية كَتْب الإجازة باختصار، فقد يتشوف إلى ذلك من له في العلوم همة واستبصار، ومنها التيمّن بألفاظه الميمونة، فإن البركة والخير والسر في ألفاظ أكابر العلماء أمثاله مرجوة مصونة، ومنها بيان ما أجاز فيه من الفنون وتفصيله، فيحصل لمريد بيان ذلك معرفته وتحصيله،ومنها تحقيق اتصال السند، فإن بذلك يتحقق عند أهل العلم المستند، فإنهم قالوا من لا سند عنده في العلوم، كمن لا نسب له، فقعد مجهول غير معلوم، ومنها حصول دعاء الشيخ المجيز للتلميذ المجاز، ففي دعاء الشيخ للتلميذ في آخر إجازته من الخيور والبركة ما لا نهاية لمفازته، ومنها معرفة تاريخ الإجازة الموضوع عند ختامها، فإن معرفة التاريخ من إكمال الفوائد وإتمامها، فقد يدّعي معاند حاسد أن إجازة الشيخ لم تقع في حياته، فإذا قوبل تاريخها بتاريخ وفاته حصحص الحق ووضح البيان بظهور كونها في حياته وليس الخبر كالعيان، وهذا على بركة الله نص الإجازة السعيدة المختصرة المفيدة:

(الحمد لله مجيز من استجاز، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي من استند إليه فاز، وعلى آله وصحبه وحملة الدين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، هذا وإن الولد الأبر، الذكي المعتبر، الفقيه النجيب، المحب الحبيب، سيدي محمد بن محمد بن صالح السجلماسي نجارا، الصحراوي منشئاً وداراً، طالما تعاطى مع العبد كاتب هذه الحريفات كئوس المباحثة في علوم كثيرة، حتى ظفر منها بحمد الله بنفائس خطيرة، نفعنا الله وإياه بها، وزاده وإيانا من المعارف التي ننال الرضى بسببها، ثم إنه لما عزم على الترحال، وتجشم البين وإن شق عليه وعلينا لكنه مقتضى الحال، قاده حسن الظن إلى استجازة هذا العبد الفقير، فلم يكن بدّ من إجابته مع أني لست من أهل هذا الشأن لا في العير ولا في النفير، فأجزته بكل ما تصح لي وعني روايته، وكل ما تحصلَت لدي درايته من مقروء ومسموع ومجاز، وبكل ما ألفته من منثور ومنظوم وإن كان لا يطلق عليه اسم التأليف إلا بطريق المجاز، بالشرط الذي تقرر له الاعتبار عند نقلة الأخبار، موصياً له بتقوى الله في جميع الأحوال، والتحري لدينه وعرضه في الأفعال والأقوال، ومؤكداً عليه في الدعاء لي ولشيوخي ووالدي وجميع الأحباب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله ومن انتمى إليه من الآل والأصحاب، وكتب عبد الله تعالى أحمد بن عبد العزيز غفر الله له، وبلغه من رضوان أمله، آمين، في أوائل المحرم الحرام فاتح ثلاثة وسبعين ومائة وألف) “[3].

[1] تجد هذا النص في المعسول (6/37).

[2] المعسول (6/38).

[3] المعسول (6/39)

ذ. وديع أكونين

  • باحث بمركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراوي بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق