وحدة الإحياءمفاهيم

في أهمية الدرس المفاهيمي مقاربة أولية في المداخل المعرفية والمنهجية

لم يكن غريباً، في شيء، على فيلسوف من قامة الفيلسوف الأوروبي “جيل دولوز” اختصاره الفعل الفلسفي في واقعة صناعة المفاهيم؛ وليس من المستغرب أن تنشأ المجتمعات وتتكون الحضارات وترقى ما تكونت فيها مفاهيمها وتأصلت.

فتاريخ الأمم والمجتمعات شاهد على أن قوة مفاهيمها، في استواء بنائها، معبر صادق على ما يتمتع به عمرانها الفكري والحضاري من اتساق في مرجعيتها وانتظام في قيمها يتجليان انسجاما في مسلكيات الناس وتقاليد ممارساتهم اليومية. لذلك كان نمو المفاهيم وطول عمارتها في الأرض مرهون بمدى ازدهار حضارتها ورقي فكر أمتها ضمن سياقها وشرطها التاريخي المخصوص.مما يبوئ المفاهيم مقام الوسيط والحامل المؤَهل لمواكبة تجارب الأمم والتعبير عن تميز رؤاها للتاريخ وفلسفاتها عن الحياة.

فمن خلال أجهزتها المفاهيمية، استطاعت الأمم عَكسَ خصائص بنائها “العمراني والتصوري ” وتكثيف عناصر مدركاتها الجماعية، لتُرسخ حضورها بين الأمم شاهدةً على نفسها وغيرها، ومضطلعةً بأمانة التزكية وواجب العمران لمواجهة تحديات تطورها الاجتماعي ومسارها التاريخي. فتتخلق المفاهيم تخلقاً فاعلاً في واقعها ومؤثراً على حاملها، من خلال صيرورة تاريخية ممتدة لقرون من الزمان، تتفاعل فيها خبرات أجيال الجماعة الواحدة تفاعلاً حرّاً ومستقراً على أرض مخصوصة. فتصطنع الأمة بأجيالِها مفاهيمَها الخاصة والمتمايزة، اصطناعاً تلقائياً مستودعةً فيها خبراتها ومكثِفةً عبرها مرجعيتها وقيمها ومدركها الجماعي عن ذاتها ووظيفتها التاريخية والحضارية. ولذلك فمن التهافت القول بإمكان نشوء المفاهيم نشأة متحكم فيها، من خلال التحكم في دلالاتها أو تحوير معانيها التي يُحدثها سلطانها في الذهن والفؤاد؛ لأن التاريخ يؤكد أن نشأة المفاهيم لم تكن، في أي من لحظاتها، مكتملة وكلية.

نسعى من خلال هذه المقالة تلمس بعض العناوين الكبرى لبلورة مقاربة علمية ومنهجية أكثر عمقاً وتفسيريةً لبنية المفهوم كوحدة معرفية ومنهجية وحضارية، فاعلة في الواقع ومتأثرة به. محاولة من الكاتب استدراك جزء من الارتباك التصوري والاختلال المنهجي اللذين يَعتَوِرَان العديد من أدبيات الفكر العربي/الإسلامي. مما من شأنه إنتاج صياغات فكرية ملتبسة ومشوهة قاصرة على أن تنتشل الأمة من حالة الوهن والنكوص الحضاريين.

ستحاول هذه الدراسة الوقوف على المضامين اللغوية والمعرفية للمفهوم بما يميزه عن متشابهاته. وهو ما سيتيح للقارئ إمكانية استجلاء الأوليات الفكرية والمعرفية للمفهوم، وبالتالي اكتشاف العمق الفلسفي والمعرفي المتضمن فيه.

أولا: “المفهوم” في اللغة والاصطلاح

“المفهوم” لغة: هو كل ما وقع عليه الفهم ووعاه، بما يجعل منه معنىً سهلَ التعقل ويسيرَ الإدراك. وقد عبر الأخوند الخرساني عن هذا المعنى بقوله: “إن المفهوم، كما يظهر من موارد إطلاقه، عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري ستبعث خصوصية المعنى الذي أُريد من اللفظ بتلك الخصوصية ولو بقرينة الحكمة “، على أساس أن خصوصية المفاهيم وتفردها نابع من اعتبارها رموزاً خاصة لأشياء أو حوادث أو أفكار تجتمع على أساس خصائصها المشتركة الفريدة. وهو ما يجعل المفهوم عبارة عن بناء لفظي معني بالتعبير عن تصور واقع في الذهن تعبيرا مجردا ومكثفا للمواقف المتعددة والحوادث المتغايرة والأشياء الكثيرة.

لقد جرت عادة المهتمين بالدراسات المفاهيمية بالتمييز بين المفاهيم بحسب طبيعتها المادية أو المجردة. فـ”المفهوم المادي” عندهم تصور للأشياء لا يمكن إدراكه إلا عن طريق الحواس؛ في حين يُشير “المفهوم المجرد” إلى كل ما يكتسبه الفرد على شكل رموز أو تعميمات لتجريديات معينة.

إلا أن هذا التمييز بين مفاهيم ذات طبيعة مادية، وأخرى مجردة لا يعني بالضرورة تمييزا جوهريا، ماداما يشتركان في دلالة واحدة بوصفهما تعبيران عن الصفات والمضامين التي تميز موضوعا ما (كائنا أو كيانا أو ظاهرة) عن غيره من الموضوعات. وهو ما يقتضي ضرورة اتسام المفهوم بقدر من الوضوح يكفل له مكنة التمايز عن غيره من المفاهيم، لاعتبار اشتراط انطوائه على معان واضحة لقيم ومبادئ وأفكار، بما يساهم في تقدم المعرفة وازدهارها بتدقيق مقتضيات الخطاب العلمي رؤيةً ومنهجاً؛ وعلى العكس من ذلك، فإن غموض المفهوم مفض إلى اختلال في المعنى الواقع في الذهن، الأمر الذي يؤدي إلى ارتباك الأنساق المعرفية واختلال المنظومات الحضارية؛ لأن العجز أو القصور عن وعي معنى الشيء وإدراك عوائده المعرفية والمنهجية والتاريخية يُحدث اضطرابا دلاليا يعتور المعمار الفكري والمعرفي ويفقده وضوح الرؤية وصرامة المنهج.

فالمفاهيم الواضحة كالخريطة التي يستهدي بها المسافر. فتضمن المفهوم الواضح لمعان جلية وقيم ومبادئ واضحة شرط حاسم في تأصيل العمل المعرفي الجاد، حيث تشكل المفاهيم ذات الجذر الفلسفي المشترك أنساق معرفية منتظمة لها قدرة عالية على التفسير والتحليل؛ أما المفهوم الغامض، فهو مفهوم مشوش ما أن يدخل ضمن نسق معين حتى يربك انتظامه ويغلغل علاقاته، ليؤول في عاقبته إلى تراجعات معرفية وارتدادات حضارية . غير أن الحديث عن المفاهيم الواضحة والغامضة لا يعني الحكم على المفاهيم بالبساطة، شأنها في ذلك شأن أي تركيب لغوي؛ لأن لكل مفهوم زخمه وفلسفته ومكوناته المخصوصة .

وعلى هذا المنوال، ينسج حجة الإسلام أبي حامد الغزالي تصوره لشروط وضوح المفهوم باقتضاء ترابط تلازمي بين “اللفظ” و”العلم” و”المعلوم” في صياغة بلاغية بديعة ودلالة علمية مركزة:

“إن للأشياء وجودا في الأعيان ووجودًا في الأذهان ووجودًا في اللسان. أما الوجود في الأعيان فهو الوجود الأصلي الحقيقي؛ والوجود في الأذهان هو الوجود العلمي الصوري؛ والوجود في اللسان هو الوجود اللفظي الدلالي. فالسماء، مثلا، لها وجود في عينها ونفسها؛ ثم لها وجود في أذهاننا ونفوسنا؛ لأن صورة السماء حاضرة في أبصارنا ثم في خيالنا؛ أما الوجود في اللسان فهو اللفظ المركب من أصوات. فالقول دليل على ما في الذهن وما في الذهن صورة لما في الوجود مطابق له. ولو لم يكن وجوده في الأعيان لم ينطبع صورة في الأذهان، ولو لم ينطبع صورة في الأذهان لم يشعر بها إنسان، ولو لم يشعر بها الإنسان لم يعبر عنها اللسان، فإذاً اللفظ والعلم والمعلوم، ثلاثة أمور متباينة لكنها متطابقة متوازية .”

مع اتفاق المناطقة على أن “المفهوم” دلالة عن كل ما يمكن تصور حصوله بالقوة أو الفعل للإشارة على دلالة أو صورة متفردة ومتمايزة عن غيرها في العقل، فإنهم يختلفون بصدد تعريف المفهوم من حيث القصد، فيكون معنىً إن أُريد بوصفه صورة مقصود اللفظ؛ ويكون مفهوما إن اكتُفي بوصفه الدلالة المتحصلة في العقل . ويقع هذا قريباً مما ذهب إليه أبو البقاء حين اعتبر: “أن المفهوم هو الصورة الذهنية سواء وضع بإزائها اللفظ أم لم يُوضع؛ بينما المعنى هو الصورة الذهنية من حيث وضع بإزائها اللفظ”. وعلى خلاف “المنطوق” الدال على اللفظ، يقسم الأصوليون “المفهوم” إلى “مفهوم الموافقة” و”مفهوم المخالفة”؛ فـ”مفهوم الموافقة”: هو ما يفهم من الكلام بطريقة “المطابقة”؛ في حين يدل “مفهوم المخالفة” عن كل ما يمكن فهمه بطريق المخالفة… وقيل هو أن يثبت الحكم المسكوت عنه على خلاف المنطوق .

وقد ميز “لالاند” في معجمه بين ستة أنواع من المفاهيم بحسب الغرض منها:

أ‌. فحين يُطلق المفهوم على جميع الصفات المشتركة بين أفراد الصنف الواحد؛ أو يُطلق على جميع محمولات القضايا الصحيحة ذات الموضوع الواحد، يُسمى، آنذاك، بـ”المفهوم الإجمالي” Comprehension Totale كقولنا: الإنسان حيوان؛ والإنسان ناطق؛ والإنسان فان.

ب‌. ويُسمى المفهوم بـ”المفهوم الحاسم” Comprehension Decisoire حين يُطلق على مجموع الصفات التي يتألف منها الحد، كما الصفات التي تلزم عنها لزوما منطقيا، مثل مفهوم الإنسان باعتباره مؤلفًا من الحياة والنطق.

ج‌. ويكون المفهوم “ضمنيا” Comprehension Implicite حين يُعنى بكشف مجموع الصفات المدرجة ضمن الحد بصفاته اللازمة عنه لزوما منطقياً.

د‌. وإن قُصر المفهوم بالإشارة إلى مجموع الصفات التي يدل عليها لفظه في ذهن فرد معين أو حتى مجموعة أفراد، فإنه بذلك يكون مفهوما ذاتياً Comprehension Subjectif.

ﻫ. ومن معاني المفهوم أنه لا يطلق على مجموع الصفات المشتركة بين جميع أفراد الصنف فحسب، بل يطلق كذلك على الصفات الخاصة بقسم من ذلك الصنف على سبيل التناوب، مثل ذلك: أن المثلث يمكن أن يكون حاد الزاوية أو منفرجها أو قائمها؛ وأن الحيوان الفقاري يمكن أن يكون لبونا أو طيرا أو زاحفا أو ضفدعا أو سمكا. ويُسمى هذا المفهوم بـ”المفهوم الرفيع” Comprehension Eminente؛ والمقصود بالرفيع هنا أن المفهوم الفقاري، مثلا، لابد من أن يتضمن إحدى هذه الصفات اضطراراً.

و‌. واللامفهوم Incomprehensible هو ما لا يفهم وتقبله النفس وإن قصُرت على تفسيره،

ثانيا: الهوية المعرفية للمفهوم

يُؤكد محمد عابد الجابري أن اللغة وعاء الفكر الإنساني ووسيطه، بحيث لا يقوى الإنسان على التفكير إلا من خلال لغته. واللغة عنده نسق من العلامات البشرية الطبيعية درج على تسميتها بالكلمات، فإن سيقت الكلمات سياقات للإشارة إلى أشياء أو حوادث أو شخصيات أو أفكار في بناءات مكثفة صارت مفاهيماً.

ومادام المفهوم، معنيا بتصوير مجمل الأشياء والعلاقات في تشابكاتها، بقطع النظر عن تشخصاتها المادية المحسوسة، فإن ذلك يستدعي ضرورة الاضطلاع بتكثيف المتعدد في إطار الواحد، بغض النظر عن هويته أو طبيعته. هذه الطبيعة والوظيفة التكثيفيتين هما ما يمنحان المفهوم قوته الفكرية وطاقته التصورية .

وتأسيسًا عليه، تتبوأ المفاهيم محور وصلب عمليات التواصل اللغوي الإنساني. فهي جوهر اللغة الطبيعية كما اللغة العلمية الاصطناعية؛ لأنها هي التي تمد الفرد بالقدرة على التفريق والتمييز بين الأشياء والكائنات والظواهر ؛ لأن البنية المعرفية للمفهوم تستطيع الجمع بين صورة الشيء وهيكله بالقانون الذي يُفسر تكوينه.
وقد درج المهتمون على إطلاق “المفهوم” على مجموع الصفات التي يتضمنها التصور عن الشيء، فتصور الإنسان، مثلا، يتضمن تصور الحياة والنطق…إلخ؛ بمعنى تصور جميع الصفات التي يمكن حملها عليه. بخلاف ما يسميه د. جميل صليبا بـ “الماصدق”؛ إذ أنه يشمل جميع الأفراد الذي يصدق عليهم. ولذلك كان التناسب بين مفهوم الشيء وما صدقه تناسبا عكسيا، وكلما كان مفهوم الشيء أغنى، كان ما صدقه أفقر، والعكس وبالعكس .
لهذا، لم تكن المفاهيم مجرد ألفاظٍ كسائر الألفاظ والمصطلحات؛ كما أنها ليست مجرد أسماء أو كلمات يمكن أن تفهم/وتفسر بمرادفاتها أو بما يقرب إليها، بل هي بمثابة مستودعات كبرى للمعاني والدلالات كثيرا ما تتجاوز بناءاتها اللفظية المحدودة والمعدودة، متخطية جذورها اللغوية ومتجاوزة لها. لتعكس كوامن الفلسفة التي انبثقت عنها بما راكمته من تراكمات فكرية ومعرفية، وبما استبطنته ذاكرتها المعرفية وصانته عن الزوال والاندثار .

وعلى هذا الأساس، تقصر أقوال الشراح أو رسوم المناطقة وحدودهم عن الإحاطة بمعاني المفاهيم واحتوائها، مطابقةً أو تضمناً. عكس قدرتهم في تملك الوعي بدلالات المصطلحات والألفاظ بمعانيهما . الأمر الذي يُجدد معه تفنيد القول بعدم إمكانية إنتاج المفاهيم إنتاجا نظريا أو اصطلاحيا، فما بالك بالتحكم في مضامينها أو تحوير دلالاتها؛ لأن تعالي المفهوم وتجرده هو ما يحفظ له قدرته على تكثيف دلالاته الوجدانية والمعرفية والقيمية في بناء لفظي محدود، كما يمنحها إمكان التميز بالتحيز لنماذج وصور متفردة ومخصوصة تأبى الترادف أو التشابه . كما يعود الفضل في تميز المفهوم إلى تاريخيته التي تجعل بنائيته مخالفة ومفارقة تماما للبنائيات المفاهيمية الأخرى. فلكل مفهوم، كما يوضح الفيلسوف الفرنسي “دولوز”، تاريخا ذاتيا خاصا به .

هذه القيمة المعرفية والفكرية للمفاهيم هو ما يجعلها إحدى أهم اللبنات المركزية التي تتأسس عليها المنهجيات والنظريات، الشيء الذي ينفي عن أي عمل فكري أو علمي قيمته المنهجية والمعرفية إن لم يكن مسبوقا بتأصيل مفاهيمي يوضح مُرَادَات الكاتب وأهدافه.

ثالثا: تمييز “المفهوم” عن متشابهاته

يستدعي الحديث عن “المفاهيم” من بين ما يستدعيه، منهجيا، ضرورة تمييزه عن ما قد يختلط معه من متشابهات قد تشوش على دلالته إذا ما أُسيء إعمالها وتوظيفها بوضعها في غير موضعها الذي تقتضيه أصول المقاربة المنهجية القويمة. ولهذا درجت الأدبيات الفكرية الجادة على التدقيق الموضوعي تمييزاً للمفاهيم عن غيرها من “ألفاظ” و”مصطلحات”. وهو ما يضطرنا إلى تحرير القول في هذا الموضوع، دلاليًا ومنهجيًا، بتأكيد حدود الانفصال ومجالات الاتصال بين المفاهيم وغيرها من مصطلحات وألفاظ ومعانٍ:

1. مفارقات المفهوم والمصطلح مما يربك المرء وهو يتصفح الكثير من الأدبيات العربية/الإسلامية هذا الشيوع الهائل لخلطها بين ما يقتضيه “المفهوم” وما يستدعيه “المصطلح”. هذا الخلط ينعكس سلبا على مدى انضباط المنظومات الفكرية لمنطلقاتها الفلسفية المرجعية والمنهجية؛ لأن “المصطلح”، على خلاف “المفهوم”، لا يعدو أن يكون مجرد اسم تواضع الناس، لارتباطهم بمصلحة أو عبر حرفة أو ما سواهما، على إطلاقه لفظا بإزاء معنى أو ذات، تيسيرا للتواصل ودرءًا للنزاع. فالطبيعة المصطنعة للمصطلح هو ما يُشجع مصطنعيه على التساهل في مقايسة ومرادفة المصطلحات بعضها على بعض، عملا بمبدأ أنه “لا مشاحة في الاصطلاح”.بيد أن الأمر يقع، على عكس ذلك، بالنسبة للتعامل مع المفاهيم، فطبيعتها التاريخية الممتدة لقرون تجعل للمفهوم دلالات مجردة تتجاوز قدرات الناس في التحكم بمعانيها ودلالاتها، بما يحول دون إمكان مقاربتها وفقاً لمبدأي الترادف والتماثل. ذلك أن التماثل بين المفاهيم مُحَال، كما أن ترادفها مُربك.فإن تساهل الناس بالمقايسة بين المصطلحات للتعبير عن الشيء الواحد باعتبارها متقاربة المعنى؛ وباعتبار أنه لا مشاحة في المصطلح. فإن الوضع بالنسبة للمفاهيم يبدو أعقد وأشبك؛ لأن المشاحة كل المشاحة في المفاهيم. وحتى لو احتج بعضهم بإن المفهوم مجرد اسم من حيث وضعه الإعرابي، إلا أن وضعه الفكري والمنهجي، يجعله أشبه بالوعاء المعرفي الجامع لخصائص موضوعه، بما يُمَكّنُه من التعبير على الهوية الكاملة للشيء في مقابل قصور المصطلحات على احتوائها أو تضمنها. ولعل حساسية الوضع المفاهيمي هو ما يجعل دائرته أهم دوائر التدافع الفكري والتأثير الثقافي.

2. مفارقات المفهوم والمعنى يحدد اللغويون والمناطقة للمعنى دلالة تجعله الصورة المستقرة في الذهن بإزاء لفظ  معين أو مجموعة ألفاظ. ولذلك يُستحضر المعنى باعتباره مقصود الكلام أو ما يدل عليه كل قول أو إشارة، ومنه: دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي أو المجازي؛ ودلالة القول على فكرة المتكلم؛ ودلالة اللافتات المنصوبة في الطرقات على اتجاه السير؛ ودلالة السكوت على الإقرار؛ ودلالة البكاء على الحزن. هذا، وقد تُطلق “المعاني”، على مبادئ علم من العلوم المدونة، فنقول: المعاني الرياضية، والمعاني الفقهية .

وإجمالاً، يمكننا تعريف المعنى باعتبار ما دل عليه اللفظ، أو هو الفكرة المجردة الدقيقة الدالة على موضوع الشيء: كفكرة الحق والعدالة والخير والسعادة.

ويمكن تقسيم المعنى إلى:

 أ. “معنى مشترك” Notion Commun عند حصوله في النفس بالفطرة كالبديهيات والأوليات؛

ب. و”معنى بسيط” بوصفه الصورة الحاصلة في الذهن التي لم يتدخل الفكر في تركيبها كالمعاني البسيطة عند لوك؛

ج. وأخيرا المعنى “المجرد” وهو ما نطلق عليه اسم التصور.

وللمعاني جانبان: أولهما: ذاتي يخص مجموع الأحاسيس الشخصية والصور الذهنية والمشاعر الوجدانية التي يدل عليها اللفظ، وهي مصحوبة بإرادة الإفهام من جانب المتكلم في مقابل إرادة الفهم من جانب السامع. ذلك أنه إذا لم يرسم اللفظُ صورةً ذهنيةً واحدةً في النفس لن يتفاهم الناس. ومع ذلك فإن الصور الذهنية التي يُحييها اللفظ في النفوس مختلفة باختلاف الأفراد لاختلافهم في أصول تصوراتهم ومنازعهم، كما اتجاهات رغباتهم وميولهم. فرب لفظ أثار في ذهن شخص صوراً غير التي يثيرها في ذهن آخر. ولولا ذلك لما اختلفت دلالات الألفاظ باختلاف الأفراد، والجماعات؛ أما ثانيهما: فهو الجانب الموضوعي الدال على اللفظ من المعاني التي أقَرَّها الوضع والاصطلاح، وكًرَّسها التوظيف والاستعمال لتَصير مضامينها واحدة. كمعاني الألفاظ المدونة في المعاجم و الكتب العلمية، فهي ذات مضامين  دقيقة و دلالات واضحة، لا تختلف باختلاف الأفراد الذين يستعملونها. ومن شروط الألفاظ العلمية أن تكون مطابقة للمعاني وأن لا تختلف دلالاتها باختلاف العلماء.

ويُمحص جمال صلبيا النظر في تدقيقه الفرق بين “المفهوم” و”المعنى” مُعتبراً أن المفهومَ صورةٌ ذهنيةُ من حيث وضع لفظ بإزائها .

ومن الإشكاليات الفلسفية العويصة التي تثيرها المعاني طبيعة ومدى علاقتها بالألفاظ؟ إذ أن المشهور هو أن الألفاظ موضوعة للأعيان الخارجية، حيث تتقدم المعاني عليها؛ بمعني أن المرء قد يشعر بالأفكار تجول في خاطره من غير أن يُوَفَّق للتعبير عنها. وأن الألفاظ لا تعبر دائما عن جميع نواحي الفكر، على أساس أن الألفاظ  مجرد أصوات خارجية في حين تكمن المعاني في دواخل الذات، وليس بين الداخلي والخارجي مطابقة تامة ودائمة.. هذا، في حين يكون التعبير عنها مختلفا باختلاف الأشخاص. فحكم الألفاظ، كما يقول الجاحظ، غير حكم المعاني؛ لأن هذه الأخيرة مبسوطة إلى غير غاية وممتدة إلى غير نهاية؛ في مقابل الألفاظ وأسماء المعاني محصورة ومعدودة؛ إذ أنها موضوعة لضبط المعاني، سابغة عليها حلة اجتماعية، ومكسبة إياها صفة منطقية تُسهل التفاهم بين الناس .

وقد عبّر أبو حامد الغزالي عن “نسبة الألفاظ إلى المعاني وحدها في أربعة منازل وهي: “المشتركة”، و”المتواطئة”، و”المترادفة”، و”المتزايلة”.

فأما “المشتركة”: فهي اللفظ الواحد الذي يطلق على موجودات مختلفة، بالحدود والحقيقة، إطلاقا متساويا، كالعين تطلق على العين الباصرة وينبوع الماء وقرص الشمس، وهذه مختلفة الحدود والحقائق؛ وأما المتواطئة: فهي التي تدل على الإنسان والفرس والطير؛ لأنها متشاركة في معنى الحيوانية والاسم بإزاء المعنى المشترك المتواطئ بخلاف العين الباصرة وينبوع الماء؛ وأما المترادفة فهي الأسماء المختلفة الدالة على معنى يندرج تحت حدّ واحد كالخمر والعقار؛ وأما المتزايلة: فهي الأسماء المتباينة التي ليس بينها شيء من هذه النسب كالفرس والذهب والثياب، فإنها ألفاظ مختلفة تدل على معاني مختلفة بالحد والحقيقة .

ومن بين المشاكل التي أثارتها قضية “المعنى” هو تغيير المعنى نفسه، وقد حاول علماء اللغة رصد الأسباب التي تفضي إلى تغيير المعنى، فكان أهمها :

ـ ظهور الحاجات الجديدة، بلجوء أصحاب اللغة إلى الكلمات القديمة التي توارت معانيها فيحيون بعضها ويطلقونها على المخترعات الحديثة. فتُستعمل كلمات عتيقة للتعبير عن معان جديدة ممَّا يُغيّر المعنى؛

ـ بروز عوامل نفسية واجتماعية مستجدة، كحظر بعض اللغات وتحريمها لاستعمال كلمات ذات دلالات بغيضة أو موحية بشيء مكروه، فتُستبعد بعض المعاني لتُستخدم بدلاً منها كلمات أخرى. هذا، ويترتب على أي تغيير في المعنى تغييراً في المفاهيم، مادامت المفاهيم في جوهرها معاني مجردة. فعملية تغيير المعنى على هذا النحو عملية طبيعية لا غبار عليها. إلا أن ما علينا الانتباه إليه بهذا الصدد، هو إشكال “تحريف المعنى”، وهو أمر مغاير لـ”تغيير المعنى”، على أساس أن “تغيير المعنى” يتم بصورة طبيعية وتلقائية في أعم صوره حاظياً بقبول جماعته اللغوية؛ أما “تحريف المعنى” فيحدث تحقيقًا لمقاصد معينة ولأغراض فكرية ومعرفية عند من يمارسه متخذا صورة قسرية وافتعالية.

ويبدو أن عمق الصلة بين “المعنى” و”المفهوم” هي التي كان لها الفضل في تأميم العديد من فلاسفة الإسلام عنايتهم نحو دراسة المعاني في علاقاتها بالألفاظ. وقد تجلى ذلك بادياً في كتابات مشايخ الفلسفة الإسلامية أمثال: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن حزم والغزالي، ليشمل تراثهم العديد من الأبحاث المنطقية  واللغوية المعنية بدراسة “دلالة الألفاظ ونسبتها إلى المعاني”.

وفي هذا السياق، يمكن أن نورد كلامًا نفيسًا لابن سينا في كتابه “الإشارات والتنبيهات” حيث تطرق إلى أهم ثلاثة وجوه دلالة اللفظ على المعنى قائلاً: إن اللفظ يدل على المعنى:

ـ إما على سبيل المطابقة، بأن يكون ذلك اللفظ موضوعا لذلك المعنى وبإزائه، مثل دلالة “المثلث” على شكل المحيط به ثلاثة أضلع؛

ـ وإما على سبيل التضمن، بأن يكون المعنى حاويا للفظه مثل دلالة “المثلث” على شكل، فإنه يدل على الشكل لا على اسمه، بما يجعل الشكل جزءً من المعنى؛

ـ وإما على سبيل الاستتباع والالتزام، بأن يكون اللفظ دالا بالمطابقة على معنى، مع لزوم ذلك المعنى لمعنى آخر غيره كالرفيق الخارجي لا كالجزء منه، وإنما كالمصاحب الملازم له مثل: دلالة “السقف” على “الحائط”، أو”الإنسان” على قابل صنعة “الكتابة .”       وكما هو شأن فلاسفة الإسلام، حظيت قضايا المعنى باهتمام واضح عند الأصوليين بالنظر إلى: الارتباط الوثيق بين اللغة والمعنى من جهة أولى؛ وفهم الشرع المستمد من القرآن والسنة من جهة ثانية. فشارك الأصوليين بدورهم في تقسيم الألفاظ من حيث دلالتها ومعانيها. مع تناولهم بالبحث والتحليل والفهم والتأصيل دراسَيي الصيغ والعبارات كصيغتي الأمر والنهي في خطاب التكليف.

وإن دل هذا عن شيء، فإنما يدل على سبق علماء الإسلام لهذا الصنف من الدراسات والمعارف، بما يكشف تهافت العديد من الانتقادات الحديثة المتهمة للتراث الفكري العربي/الإسلامي بإغفاله قيمة توضيح المعاني في مقابل احتفاء رواده بالجهد التأصيلي والتقعيدي المنحصر في بناء الألفاظ وصناعتها. ومما يعجب له المرء استباقَ العديد من علماء الإسلام الردَّ على مثل هذه الادعاءات، ولعل من بين أجمل النصوص التي يمكن الرجوع إليها بصدد هذا المقام كلام نفيس للفقيه ابن جني يقول فيه:

“إن العرب كما تُعنى بألفاظها فتصلحها وتهذبها وتراعيها، وتلاحق أحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى، وبالأسجاع التي تلتزمها وتتكلف استمرارها. فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأفخم قدراً في نفوسها. فأول ذلك عنايتها بألفاظها، فإنها لما كانت عنوان معانيها، وطريقا إلى إظهار أغراضها ومراميها، أصلحوها ورتبوها، وبالغوا في تحبيرها وتحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في السمع، وأذهب بها في الدلالة على القصد. ألا ترى أن المثل إذا كان مسجوعا لسامعه فحفظه، فإذا هو حفظه كان جديرا باستعماله، ولو لم يكن مسجوعا لم تأنس النفس به، ولا ألفت لمستمعه، وإذا كان كذلك لم تحفظه، وإذا لم تحفظه لم تطالب نفسها باستعمال ما وضع له، وجيء به من أجله (..). فإذا رأيت العرب قد أصلحوا الألفاظ وحسنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا عزوبها  وأرهفوها، فلا ترى أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه منها، ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه، وتزكيته وتقديسه. وإنما المبغيّ منه الاحتياط للموعي عليه، وجوازه بما يعطر بشرة، ولا يعر جوهره، كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يهجنه ويغض منه كدره لفظه، وسواء العبارة عنه “، مثلما شغلت قضايا “المعنى” الفكر العربي الإسلامي، شغلت الفكر بفلسفتيه التحليلية وغير التحليلية (كـ: “البراغماتية” و”البنيوية” و”الفينومينولوجية”). ولا عجب أن يقرر الفيلسوف الإنجليزي المعاصر “جلبرت راي” بأن قصة “الفلسفة” في القرن العشرين كانت بالأساس قصة المعنى.
وبدوره، شيد الفكر الغربي تراثاً غنياً حول نظرية “المعنى”. وحسبنا أن نشير إلى نظريتين هامتين تطرقتا له وهما: نظرية “التحقيق” Théorie de Verficatin؛ ونظرية الاستعمال (Itulisation‘d Théorie).
إلا أن “نظرية التحقيق” هي التي باءت بعناية واهتمام المفكرين المعاصرين، بفضل اقترانها بأدبيات حلقة “فيينا” أو “المدرسة الوضعية المنطقية”، التي أسست للفلسفة الوضعية الجديدة من خلال اعتماد التجربة العلمية، وقد اشتهرت هذه المدرسة بالعديد من المفكرين (مثل: شليك، وقايزمان، وكارناب، وفايجل.. وغيرهم).

رابعا: ملامح التعاطي المنهجي مع الأجهزة المفاهيمية

منهجيًا، تستدعي المقاربة العلمية للمفهوم ضرورة تحليل بنيته الثابتة في مستوياتها المختلفة من خلال الاستجلاء الدقيق لمكوناته، بعزلها وتجريدها مما قد يعلق بها من دلالات دخيلة، من دون إهدار أصالة العلاقة المنسوجة بين مكوناته الذاتية. وهو ما يستلزم ضرورة التنقيب عن أسسه الفلسفية الكامنة ومرتكزاته المرجعية الكلية التي تشكل أساسه البنيوي الثابت مهما اختلفت. ويرتبط هذا الأمر بتثوير القدرة على إدراك مستويات المفهوم من خلال التحديد الدقيق لمكوناته المرجعية والقيمية.

هذا، وتكاد تتوزع مستويات المفهوم على الأصعدة التالية: أولا: المستوى المعرفي أو الفلسفي ويقصد به: المرتكزات النهائية والأركان المرجعية التي يمكن رد المفهوم إليها؛ وهناك ثانيا: المستوى الظاهر للمفهوم، ويقصد به: التجلي التي يتبدى فيه المفهوم في ظاهره وشكله ومؤسساته ونظمه، وكذا تتبع الكيفية التي يترك بها بصماته على السلوك الإنساني وطريقة الحياة الجماعية؛ في حين يعتني المستوى الثالث بالمسار التاريخي، ويقصد به: ضرورة دارسة المفهوم في سياقه التاريخي، مادام التاريخ أحد أهم الموارد التي تُكسب المفهوم معان ودلالات جديدة أو تؤدي إلى طمس المفهوم وإقبار معانيه الأساس .

إن الأهمية التي تكتسبها مختلف العمليات التحليلية تجعلها السبيل الأوثق لإدراك بينة أي مفهوم إداركًا دقيقًا يُجنِّب الخائض فيه أي التباس أو غموض. وكمثال على ذلك نتوقف قليلا عند مفهوم “العقل”. فإن هو طُرح بصورة أولية دون تحليل لبنيته، فإنه سرعان ما يطغى الخلاف والنزاع على متداوليه. إلا أننا إذا حللنا بنيته على أساس تعدد مستوياته فإنه سيكون للحوار دلالة إيجابية أقوى. مادام أن لمفهوم العقل ثلاثة مستويات: أولها: المستوى المعرفي الحائز على دلالات الفهم والتفكير والإدراك؛ ثانيها: المستوى الإرادي المنطوي على دلالات العزم والاختيار والقصد؛ ثالثها: مستوى الإحساس القائم على دلالات الخوف والغضب والألم والسعادة. لذلك يقع مفهوم “العقل” على وجه التقريب في ثلاث عائلات من المفاهيم هي: المفاهيم المعرفية مثل المعرفة والفهم والتفكير والإدراك؛ ومفاهيم الإرادة مثل العزم والاختيار والقصد؛ ومفاهيم الإحساس مثل الغضب والخوف واللذة والألم .

ومع التأكيد على تضمن أي مفهوم، حائز لشرطي استقراره واستقلاله، على مستويات مختلفة، فإنه لا يعني بالضرورة أنها مستويات تتبوأ نفس المقام وتتملك ذات القوة، بل هي مستويات متمايزة المواقع من المفهوم ومتفاوتة في أهميتها وقوتها، بحيث يقوم بعضها مقام الأصل لغيرها من المستويات التي لا تعدو أن تكون مجرد معاني ثانوية متفرعة عنها ومكملة لها. مما يمنح العناصر الأساس أسبقية منطقية في البنية الثابتة لأي مفهوم. وهو ما يجعل هذه العناصر متسمة بنسب عالية من التجريد إذا ما قورنت بغيرها من عناصر المفهوم .
ولتوضيح هذا الأمر نستطيع الاستعانة بفهم ديكارت للمادة؛ يذهب الفيلسوف ديكارت إلى أن الامتداد هو الصفة الأساس للمادة، لهذا يقول في كتابه “مبدأ الفلسفة”: “إن ما يكون طبيعة الأجسام ليس ثقلها ولا صلابتها ولا لونها، بل امتدادها فحسب”. وعلى هذا النحو تشكل صفة الامتداد “العنصر الأساس” في بنية مفهوم المادة، لتعقبها بعد ذلك، منطقيا، كل الصفات الأخرى من ثقل وكثافة وحركة وشكل الصفات الأخرى. بمعنى أن هذه العناصر الأخرى تلزم منطقيا عن عنصر الامتداد وليس العكس؛ وبعبارة أخرى فإن كون الجسم ذا حركة أو شكل فإن ذلك يرجع بالضرورة إلى كونه جسما ممتدا، أما كونه ممتدا فلا يفترض تحقق أي صفة أخرى سابقة عليه منطقيا .

ويبدو أن ما ذهب إليه ديكارت من وجهة نظر فلسفية يدنو مما اصطلح عليه النحويون واللغويون عند تطرقهم لأنواع المعنى في علم الدلالة مميزين بين “المعنى الأساس” و”المعنى الإضافي”. ويشكل “المعنى الأساس أو المركزي” العامل الرئيس في الاتصال اللغوي، والمجسد الحقيقي لأهم وظائف اللغة المتمثلة في التواصل ونقل الأفكار؛ إذ لا يمكن التواصل بين شخصين بلغة معينة إن هما لا يشتركان “المعنى الأساس”؛ أما “المعنى الإضافي أو الثانوي” فهو المعنى الذي تملكه الكلمة بالإضافة إلى معناها الأساس. ويمكن للعناصر الإضافية أن تتغير من عصر إلى آخر تبعًا لتغير المناخ الثقافي التي تحيا فيه لغة معينة من دون أن يطغى هذا التحول على معنى الكلمة فيغيرها تغييرا جذرياً.

ولتجنب الإشكاليات التي تطرحها مشكلة تعدد الحالات التي توجد عليها المفاهيم، يرى العديد من المهتمين إمكان نهج بعض الخطوات المعينة لسبر الأغوار المعرفية للمفهوم واستجلاءً أَيسر لمقاصده. ويمكن تكثيف أهم هذه الخطوات وتلخيصها في ما يلي:

أ‌. تعيين انتماءات المفهوم بتحديد نسبيته السياقية ومرجعيته الفكرية وأصوله الحضارية.

ب‌. تحديد المقاصد التي يرمي إلى تحقيقها أو حفظها.

ج‌. البحث في سيرة المفهوم وتطور دلالاته بالتعديل أو الإضافة أو الإلغاء، الأمر الذي يفرض على القائم بعملية تحليل بنية المفاهيم مقاربة الدلالات التي تكتسبها المفاهيم عبر مر التاريخ، وذلك بتتبع الأسباب التي قد تزيح الدلالة الأساسية إلى الهامش، وتدفع بالدلالة الإضافية إلى المركز .

د‌. استكمالاً للخطوات السابقة، إسنادًا ومقصدًا وهويةً، تبرز أهمية البحث في الوضعية الراهنة للمفهوم ببحث وتوصيف الحالة التي آل إليها المفهوم جراء عمليات التداول التي خضع لها.

ﻫ. ضرورة الوعي بالتحيزات  الكامنة في المفاهيم عند مقاربتها، بما يحول دون أن  تتحول  الدعوة إلى الاستفادة المتبادلة بين الحضارات والثقافات واستعارة مفاهيمها مماهاةً بين هاتين الحضارتين؛ وذلك من خلال إدراك النماذج المعرفية  أو الإرشادية الكامنة وراء المفاهيم الغربية، على سبيل المثال، بين مفاهيم أنتجتها سياقات فكرية وحضارية مختلفة ومتباينة، لن يسفر الإمعان في المماثلة بينها إلا إلى تجويفها من أية دلالة فكرية وكشف منهجية . أبعادها الأيديولوجية المزيفة للمدركات الجماعية  للأمم والمشوهة لمنظومة المفاهيم التي تعي العالم من خلالها .

خلاصة

تأسيسًا على ما سلف، يمكننا استجماع أهم القواعد الدلالية التي تؤطر المقاربة المنهجية للمفاهيم في ما يلي من النقاط:

1. إدراك المعنيين اللغوي والاصطلاحي لألفاظ المفاهيم بما يُساعد على تجنب مختلف عمليات الالتباس والتحريف.

2. معرفة السيرة الدلالية للمفهوم بالتمييز بين: دلالاته الأصلية؛ وكذا دلالاتها التاريخية التي اكتسبها جراء تطوره.

3. تحليل البنية الدلالية للمفاهيم بالتمييز بين عناصره الأساس والفرعية.

4. في حالة ترجمة المفاهيم، يُستحسن التنقيب وراء الدلالات الأصلية والتاريخية، مع ضرورة الوعي بأصول ومعهود الخطاب العربي، يتسنى للمترجم له اختيار المقابل الموضوعي للمفهوم الأجنبي .

5. الاعتراف بالخصوصية الحضارية والسمات اللغوية والمنطقية للغة التي تُصاغ ضمنها المفاهيم .

سعت هذه الدراسة إلى بلورةَ مقاربة أولية للتأشير على بعض المقتضيات المنهجية المفترض استحضارها عند التعاطي مع الأجهزة المفاهيمية. وهو الأمر الذي من المأمول أن يُفضي إلى تعميق الوعي بحجم الارتباك المنهجي والفكري الذي تُعانيه أغلب الأدبيات الفكرية العربية/الإسلامية في تعاملها مع المفاهيم، مما يفضي إلى بناء فكر عربي ملتبس في مضمونه ومتناقض في صياغاته. الأمر الذي يدعو إلى تفعيل منظومتنا المفاهيمية الأصلية المعبرة عن خبرتنا التاريخية في تفاعل مع العالم من حولنا، وهي المنظومة التي لا يمكننا استئناف عملية التدافع والشهود الحضاريين إلا من خلال تفعيلها بالتجديد والإحياء.

الهوامش

_____________________________________________________________

1. سعيد خالد الحسن، حول أولويات التدبر الإستراتيجي العربي. مساهمة في كتاب: التحرر العربي والنظام الدولي، دراسة وتحرير: سعيد الحسن، الرباط: منشورات مركز الدراسات والأبحاث بمؤسسة خالد الحسن، ط 1، 2010م، ص32.

2. الأحوند محمد كاظم الخرساني، كفاية الأصول، ص193.

3. صلاح إسماعيل عبد الحق، توضيح المفاهيم ضرورة معرفية، مساهمة في كتاب: بناء المفاهيم، دراسة معرفية ونماذج تطبيقية. تحت إشراف د. علي جمعة ود. سيف الدين عبد الفتاح، القاهرة: منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 1، 1998، ص33.

4. جيل دولوز وفليكس غتاري، ما هي الفلسفة. ترجمة ومراجعة وتقديم مطاع الصفدي وفريق مركز الإنماء القومي، المغرب: المركز الثقافي العربي، ط 1، 1997، ص39.

5. أبو حامد الغزالي، المقعد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، القاهرة: مكتبة الجندي، ب. ط، 1968، ص10- 11.

6. جمال صليبا، المعجم الفلسفي، لبنان: منشورات دار الكتاب اللبناني، ط 1، 1973، ص401- 404.

7. أنظر تعريفات الجرجاني.

8. لمزيد من الاطلاع أنظر: د. جمال صليبا، المعجم الفلسفي، م، س، ص405.

9. محمد عابد الجابري، العقلانية والديمقراطية وجنسية تبيئة المفاهيم، حوار أجراه معه الدكتور سعيد شبار، منشور بمجلة: قضايا إسلامية معاصرة، عدد مزدوج 24- 25، صيف وخريف 2003، ص32.

10. محمد مفتاح، المفاهيم معالم: نحو تأويل واقعي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط 1، 1999، ص6.

11. جمال صليبا. المعجم الفلسفي، م س، ص404.

12. طه جابر العلواني في مقدمة كتاب. بناء المفاهيم، دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، تحت إشراف د. علي جمعة ود. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، القاهرة: منشورات المعهد العالي للفكر الإسلامي، ط 1، 1998، ص7.

13.  المرجع نفسه، ص7.

14. مكسيم ردونسون، الإسلام والرأسمالية، ترجمة نزية الحكيم، لبنان: دار الطليعة، الطبعة 4، 1982، ص187.

15. جيل دولوز وفليكس غتاري، ما هي الفلسفة؟ ترجمة ومراجعة وتقديم مطاع صفدي وفريق مركز الإنماء القومي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1،  1997، ص41.

16. يأتي معنى اللفظ في اللغة مصدرا لفعل “لَفظَ”؛ بمعنى الرمي، فيُقال لفظ الشيء؛ أي رمى به وطرحه. أما في الاصطلاح، فاللفظ صوت أو عدة أصوات ذات مقاطع تعبر عما في النفس، وهو إما مفرد أو مركب. انظر في ذلك: د. جمل صليبا. المعجم الفلسفي. م س، ص288.

17. المرجع نفسه، ص398.

18. المرجع نفسه، ص398.

19. المرجع نفسه، ص290.

20. أبو حامد حامد الغزالي، معيار العلم في فن المنطق، بيروت: دار الأندلس، ط 4، 1983، ص52.

21. صلاح إسماعيل عبد الحق. توضيح المفاهيم… م، س، ص42.

  العلامة الحسين بن عبد الله ابن سينا، الإرشادات والتنبيهات، مع شروح  لخير الدين الطوسي. تحقيق د. سليمان دنيا، القاهرة: دار المعارف، ج 2، ط2، سنة 1983، ص139.

23. استعارة من عزوب الأسنان أي أطرافها.

24.  أبو الفتح عثمان ابن جني الوصلي، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج 2، ط 3، سنة 1976، ص216 – 218.

25. صلاح إسماعيل عبد الحق، توضيح المفاهيم… م، س، ص39.

26. هشام جعفر، نماذج مفاهيمية تطبيقية، مساهمة في الكتاب الجماعي:  بناء المفاهيم، دراسة معرفية ونمادج تطبيقية. تحت إشراف د. علي جمعة ود. سيف الدين عبد الفتاح اسماعيل، القاهرة: منشورات المعهد العالي للفكر الإسلامي، ط1، 1998، ص176.

27.  صلاح إسماعيل عبد الحق، توضيح المفاهيم… م، س، ص49.

28.المرجع نفسه، ص48.

29. المرجع نفسه، ص49.

30. صلاح إسماعيل عبد الحق. توضيح المفاهيم… م، س، ص50.

31. التحيز لغة وزن تفعل وفيها معنى الطلب، ويمكن أن نقول فيها “طلب حيز”، والحيز هو الحد، ولقد قسم الأقدمون الموجود إلى متحيز وغير متحيز، فالمحيز في الفراغ كالجوهر والجسم، وغير المتحيز ما لم يشغل حيزا في الفراغ، بل يحتاج إلى غيره ليقوم به (كالأعراض والألوان، والمعاني كالفقر والمرض والصحة، والذكاء…إلخ)، فالمتحيز بهذا المعنى ماله حيز واحد وهي صيغة تصلح لأن تكون اسم مكان أو اسم فاعل، وعلى ذلك فهو مكان محدد بسور يميزه عن غيره، أو هو شخص قام به ذلك المعنى”، انظر: د. علي جمعة، كلمة في التحيز، مساهمة في موسوعة: إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد”، تحرير: د. عبد الوهاب المسيري، القاهرة: منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، محور مشكلة المصطلح والأدب والنقد، ط3، 1998م، ص7. ويعرف د. سعيد الحسن التحيزَ بأنه: موقف الإنسان وتوجهاته وأفعاله المعبرة عن رؤيته للكون والإنسان والحياة.. فالتحيز هو موقف مبني على النظرة “المعرفية” للإنسان ومعبر عنها… أي أن التحيز معبر عن عقلية الإنسان وعاداته ومفهومه عن نفسه والحياة. الدكتور سعيد خالد الحسن. علم ال

اجتماع: مقدمة تجاوزية، الرباط: منشورات مركز الدراسات والأبحاث بمؤسسة خالد الحسن، ط1، 2010، ص46.

32. انظر في مفهوم النماذج المعرفية: طوماس كوهن، بنية الانقلابات العلمية، ترجمة سالم يافوت، الدار البيضاء: دار الثقافة، ط1، 2005.

33. في فشل المقاربة بين المفاهيم يُنظر: المفكر السوداني ذ. محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية، بيروت: مكتبة دار الهادي، ط1، 2003م، ص32.

34. يوظف د. سعيد خالد الحسن مفهوم المدرك الجماعي بما هو: “مجموعة من المبادئ المرجعية التي توجه وتميز السلوك الإنساني، وتنتقل به من المستوى الفردي الخاص، ومن بعده اليومي والزمني المحدود، إلى مستوى السلوك الجماعي العام، وإلى البعد التاريخي المطلق المتوجه من ماضي الجماعة إلى مستقبلها؛ وبما يشكل ناظما سلوكيا للوجود السياسي وللعلاقات الاجتماعية وللوظيفة الحضارية للجماعة… وهي محصلة تاريخية حضارية للخبرة والحياة الجاعية الممتدة عبر الأجيال امتدادا يتولد عنه: (أ) مفاهيم مرجعية و(ب) قيم سياسية (ج) وتقاليد مسلكية ومؤسسية معبرة عن هذه المفاهيم” لمزيد من الاطلاع يمكن الرجوع إلى د. سعيد خالد الحس. النموذج الانتفاضي، دراسة في الأبعاد الإدراكية والسياسية للانتفاضة في فلسطين. أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون العام تحت إشراف د. محمد بناني، البيضاء: جامعة الحسن الثاني/كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية. ج1، 2002، ص2.

35. سيف الدين عبد الفتاح، مقدمات أساسية حول التحيز في التحليل السياسي: منظور معرفي تطبيقي، مساهمة بموسوعة: إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، تحرير د.عبد الوهاب المسيري، القاهرة: منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، محور العلوم الاجتماعية، ط 3، 1998م، ص 28-30.

36. للباحث دراسة عن إشكالية الديمقراطية في الفكر العربي المعاصر طور النشر.

37. سيف الدين عبد الفتاح، مقدمات أساسية حول التحيز… م، س، ص52.

د. محمد الطويل

باحث بجامعة محمد الخامس السويسي-سلا.

عضو بمركز الدراسات والأبحاث بمؤسسة خالد الحسن-الرباط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق