مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

فى ذكر أصحاب التناسخ من أهل الأهواء وبيان خروجهم عن فرق الإسلام

يقول عبد القاهر البغدادي في كتابه “الفرق بين الفرق”:
«القائلون بالتناسخ أصناف:
 صنف من الفلاسفة، وصنف من السُّمَنيَّة، وهذان الصنفان كانا قبل دولة الإسلام.
 وصنفان آخران ظهرا في دولة الإسلام؛ أحدهما: من جملة القدرية، والآخر من جملة الرافضة الغالية.
     فأصحاب التناسخ من (السمنية) قالوا بقدم العالم، وقالوا أيضا بإبطال النظر والاستدلال، وزعموا أنه لا معلوم إلا من جهة الحواس الخمس، وأنكر أكثرهم المعاد والبعث بعد الموت. وقال فريق منهم بتناسخ الأرواح في الصور المختلفة، وأجازوا أن ينقل روح الإنسان إلى كلب، وروح الكلب إلى إنسان. وقد حكى فلوطرخس[1] مثل هذا القول عن بعض الفلاسفة. وزعموا أن من أذنب في قالب ناله العقاب على ذلك الذنب في قالب آخر، وكذلك القول في الثواب عندهم. ومن أعجب الأشياء دعوى السمنية في التناسخ الذي لا يعلم بالحواس، مع قولهم إنه لا معلوم إلا من جهة الحواس.
     وقد ذهبت (المانوية) أيضا إلى التناسخ وذلك أن مانيا [2] قال في بعض كتبه: (إن الأرواح التي تفارق الأجسام نوعان: أرواح الصديقين، وأرواح أهل الضلالة. فأرواح الصديقين إذا فارقت أجسادها سرت في عمود الصبح إلى النور الذي فوق الفلك فبقيت في ذلك العالم على السرور الدائم. وأرواح أهل الضلال إذا فارقت الأجساد وأرادت اللحوق بالنور الأعلى رُدت منعكسة إلى السفل، فتتناسخ في أجسام الحيوانات إلى أن تصفو من شوائب الظلمة ثم تلتحق بالنور العالي).
     وذكر أصحاب المقالات عن سقراط وأفلاطون[3] وأتباعهما من الفلاسفة أنهم قالوا بتناسخ الأرواح على تفصيل قد حكيناه عنهم في كتاب الملل والنحل.
     وقال بعض اليهود بالتناسخ وزعم أنه وجد في كتاب دانيال أن الله تعالى مسخ بختنصر في سبع صور من صور البهائم والسباع وعذبه فيها كلها ثم بعثه في آخرها موحدا.
     وأما أهل التناسخ في دولة الإسلام فإن البيانية والجناحية والخطابية والراوندية من الروافض الحلولية كلها قالت بتناسخ روح الإله في الأئمة بزعمهم.
     وأول من قال بهذه الضلالة (السبئية) من الرافضة لدعواهم أن عليا صار إلها حين حل روح الإله فيه.
     وزعمت (البيانية) منهم أن روح الإله دارت في الأنبياء ثم في الأئمة إلى أن صارت في بيان بن سمعان.
     وادعت (الجناحية) منهم مثل ذلك في عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر.
     وكذلك دعوى (الخطابية) في أبي الخطاب، وكذلك دعوى قوم من (الريوندية) في أبي مسلم صاحب دولة بني العباس. فهؤلاء يقولون بتناسخ روح الإله دون أرواح الناس، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
     وأما أهل التناسخ من (القدرية) فجماعة منهم: أحمد بن خابط[4]؛ وكان معتزليا منتسبا إلى النظام، وكان على بدعته في الطَّفرة وفي نفي الجزء الذي لا يتجزأ وفي نفي قدرة الله تعالى على الزيادة في نعيم أهل الجنة أو في عذاب أهل النار، وزاد على النظام في ضلالته في التناسخ.
     ومنهم أحمد بن أيوب بن بانوش، وكان تلميذ أحمد بن خابط في التناسخ، لكنهما اختلفا بعد في كيفية التناسخ.
     ومنهم أحمد بن محمد القحطي، وافتخر بأنه كان منهم في التناسخ والاعتزال.
     ومنهم عبد الكريم بن أبي العوجاء[5] وكان خال معن بن زائدة، وجمع بين أربعة أنواع من الضلالة؛ أحدها: أنه كان يرى في السر دين المانوية من الثنوية. والثاني: قوله بالتناسخ. والثالث: ميله إلى الرافضة في الإمامة. والرابع: قوله بالقدر في أبواب التعديل والتجوير. وكان وضع أحاديث كثيرة بأسانيد يغتر بها من لا معرفة له بالجرح والتعديل، وتلك الأحاديث التي وضعها كلها ضلالات في التشبيه والتعطيل، وفي بعضها تغيير أحكام الشريعة وهو الذي أفسد على الرافضة صوم رمضان بالهلال وردهم عن اعتبار الأهلة بحساب وضعه لهم ونسب ذلك الحساب إلى جعفر الصادق. ورفع خبر هذا الضال إلى أبى جعفر محمد بن سليمان عامل المنصور على الكوفة فأمر بقتله، فقال: (لن يقتلونى، لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحللت بها الحرام وحرمت بها الحلال وفطّرت الرافضة في يوم من أيام صومهم، وصوَّمتهم في يوم من أيام فطرهم).
     وتفصيل قول هؤلاء في التناسخ أن أحمد بن خابط زعم أن الله تعالى أبدع خلقة أصحابه سالمين عقلاء بالغين في دار سوى الدنيا التي هم فيها اليوم، وأكمل عقولهم وخلق فيهم معرفته والعلم به وأسبغ عليهم نعمه.
     وزعم أن الإنسان المأمور المنهي المُنعَّم عليه هو الروح التي في الجسم، وأن الأجسام قوالب للأرواح. وزعم أن الروح هي الحي القادر العالم، وأن الحيوان كله جنس واحد.
     وزعم أيضا أن جميع أنواع الحيوان محتمل للتكليف، وكان قد توجه الأمر والنهي عليهم على اختلاف صورهم ولغاتهم، وقال: إن الله تعالى لما كلفهم في الدار التي خلقهم فيها شكروه على ما أنعم به عليهم، فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به وعصاه بعضهم في جميع ما أمرهم به، فمن أطاعه في جميع ما أمره به أقره في دار النعيم التي ابتدأه فيها، ومن عصاه في جميع ما أمره به أخرجه من دار النعيم إلى دار العذاب الدائم وهي النار، ومن أطاعه في بعض ما أمره به وعصاه في بعض ما أمره به أخرجه إلى الدنيا وألبسه بعض هذه الأجسام التي هي القوالب الكثيفة وابتلاه بالبأساء والضراء والشدة والرخاء واللذات والآلام في صور مختلفة من صور الناس والطيور والبهائم والسباع والحشرات وغيرها على مقادير ذنوبهم ومعاصيهم في الدار الأولى التي خلقهم فيها، فمن كانت معاصيه في تلك الدار أقل وطاعاته أكثر كانت صورته في الدنيا أحسن، ومن كانت طاعاته في تلك الدار أقل ومعاصيه أكثر صار قالبه في الدنيا أقبح.
     ثم زعم أن الروح لا يزال في هذه الدنيا يتكرر في قوالب وصور مختلفة ما دامت طاعاته مشوبة بذنوبه، وعلى قدر طاعاته وذنوبه يكون منازل قوالبه في الإنسانية والبهيمية، ثم لا يزال من الله تعالى رسول إلى كل نوع من الحيوان، وتكليف للحيوان أبدا، إلى أن يتمحض عمل الحيوان طاعات فيُرد إلى دار النعيم الدائم وهي الدار التي خلق فيها، أو يمحض عمله معاصي فينقل إلى النار الدائم عذابها.
     فهذا قول ابن خابط فى تناسخ الأرواح.
     وقال أحمد بن أيوب بن بانوش: (إن الله تعالى خلق الخلق كله دفعه واحدة)، وحكى عنه بعض أصحابه أن الله تعالى خلق أولا الأجزاء المقدرة التي كل واحد منها جزء لا يتجزأ، وزعم أن تلك الأجزاء كانت أحياء عاقلة، وأن الله تعالى كان قد سوّى بينهم في جميع أمورهم؛ إذ لم يستحق واحد منهم تفضيلا على غيره ولا كان من أحد منهم جناية يؤخَّر لأجلها عن غيره. قال: ثم إنه خيَّرهم بين أن يمتحنهم بعد إسباغ النعمة عليهم بالطاعات ليستحقوا بها الثواب عليها؛ لأن منزلة الاستحقاق أشرف من منزلة التفضيل، وبين أن يتركهم في تلك الدار تفضلا عليهم بها، فاختار بعضهم المحبة وأباها بعضهم، فمن أباها تركه في الدار الأولى على حاله فيها، ومن اختار الامتحان امتحنه في الدنيا، ولما امتحن الذين اختاروا الامتحان عصاه بعضهم وأطاعه بعضهم، فمن عصاه حطَّه إلى رتبة هي دون المنزلة التي خلقوا فيها، ومن أطاعه رفعه إلى رتبة أعلى من المنزلة التي خلق عليها، ثم كررهم فى الأشخاص والقوالب إلى أن صار قوم منهم أناسا وآخرون صاروا بهائم أو سباعا بذنوبهم، ومن صار منهم إلى البهيمية ارتفع عنه التكليف. وكان يخالف ابن خابط في تكليف البهائم. ثم قال في البهائم: إنها لا تزال تتردد في الصور القبيحة وتلقى المكاره من الذبح والتسخير إلى أن تستوفي ما تستحق من العقاب بذنوبها ثم تعاد إلى الحالة الأولى، ثم يخيِّرهم الله تعالى تخييرا ثانيا في الامتحان؛ فإن اختاروه أعاد تكليفهم على الحال التي وصنفاها، وإن امتنعوا منه تُركوا على حالهم غير مكلفين. وزعم أن من المكلفين من يعمل الطاعات حتى يستحق أن يكون نبيا أو ملكا فيفعل الله تعالى ذلك به.
     وزعم القحطى منهم أن الله تعالى لم يعرض عليهم في أول أمرهم التكليف؛ بل هم سألوه الرفع عن درجاتهم والتفاضل بينهم، فأخبرهم بأنهم لا يتصفون بذلك إلا بعد التكليف والامتحان وأنهم إن كلفوا فعصوا استحقوا العقاب فأبوا الامتحان. قال: فذلك قوله: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}[6].
     وزعم أبو مسلم الخراساني أن الله تعالى خلق الأرواح وكلفها، فمنها من علم أنه يطيعه ومنها من علم أنه يعصيه، وأن العصاة إنما عصوه ابتداء فعوقبوا بالنسخ والمسخ في الأجساد المختلفة على مقادير ذنوبهم.
    فهذا تفصيل قول أصحاب التناسخ وقد نقضنا عللهم في كتاب الملل والنحل بما فيه كفاية.
[كتاب الفرق بين الفرق-عبد القاهر البغدادي-تحقيق:محمد محيي الدين عبد الحميد-مكتبة دار التراث/القاهرة-طبعة/2007-ص:275-280]

                                                                           إعداد الباحث: منتصر الخطيب

 

الهوامش:

[1] فلوطرخس أحد الفلاسفة الحكماء-مختصر الزوزني-ص:275-طبعة ليبزج/1903
[2] ماني بن ماش، ثنوي، تنسب إليه طائفة المانوية-الملل والنحل-2/244
[3] سقراط وأفلاطون من الفلاسفة الحكماء- الملل والنحل-2/239-242
[4] ذكره الذهبي
[5] خال معن بن زائدة: زنديق معثَّر-ميزان الاعتدال للحافظ الذهبي-ج2-ص:562—مطبعة الرسالة العالمية/ط1/2009
[6] سورة الأحزاب-الآية/72

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق