وحدة الإحياءدراسات محكمة

فقه النوازل في الغرب الإسلامي: نوازل عبد الرحمن أبي زيد الحائك التطواني.. نماذج وقضايا

 الحمد لله المنفرد بإجراء الأحكام والنوازل كيف يشاء، الحكم العدل الذي لا معقب لحكمه ولا راد لما به أنفذ القضاء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المرسل بالإرشاد والتهذيب، وعلى آله وأصحابه الموضحين لشريعته بالمعيار والتبصرة والتقريب، وعلى من تبعهم في تبليغ الأحكام بالبيان والتحصيل، مع تحرير الأدلة وإزالة الشبه بالإجمال والتفصيل[1]

المطلب الأول: المراد بكتب فقه النوازل في الغرب الإسلامي

كتب النوازل، تعددت أسماؤها، فسميت النوازل، والفتاوى وهما الإسمان الشائعان في الغالب، ودعيت كذلك: المسائل، والأسئلة، والأجوبة، والجوابات، والأحكام، وتسمى في بلاد العجم مما وراء النهر “الواقعات”.

وهي عبارة عن مؤلفات فقهية حرر مادتها قضاة أو مفتون أو مشاورون في موضوع أحداث واقعية رفعت إليهم للبث فيها أو لبيان الحكم الشرعي فيها، على مذهب مالك طبعا في الغرب الإسلامي، أو رفعت إليهم لإبداء رأيهم في صحة أو عدم صحة تطبيق النصوص الفقهية عليها من جانب قاض أو مفت آخر.

تبتدئ كل نازلة بسؤال يختصر غالبا من طرف المفتي أو جامع الفتاوى، قد يطول حين يترك بصيغته الأصلية على ما فيه أحيانا من ضعف لغوي وتركيبي فيكون أفيد لتصوير تفاصيل النازلة المتحدث عنها، تتوالى الفتاوى في بعض كتب النوازل بحسب صدورها عن الشيخ دونما ترتيب، وتصنف في كتب أخرى بحسب الموضوعات التي تتحدث عنها تصنيفا فقهيا من عبادات أو معاملات على ما هو المعهود من كتب الفقه العامة.

وقد يموت الشيخ دون أن يؤلف فتاواه في كتاب فيقوم أحد تلاميذه بجمعها وترتيبها، وتسمى عادة مثل هذه الكتب بالنوازل أو الفتاوى المجموعة مع نسبتها دائما إلى صاحبها.

وهناك فتاوى أخرى يموت صاحبها دون أن يدونها في كتاب، ولا ينهض غيره ليجمعها فتبقى مبعثرة يحفظها تلاميذ الشيخ ومعاصروه، وتروى عنه في الفهاريس والبرامج بالسند وينقلها المؤلفون المتأخرون في كتبهم، وهذا النوع هو الغالب في النوازل الأندلسية، لاسيما بالنسبة للفقهاء المتقدمين في عصر خلافة الأمويين الذين رووا عن الإمام مالك وأخذوا عنه مباشرة في المدينة، أو أخذوا عن تلاميذه الكبار أئمة المذهب، أمثال أبناء قرطبة: يحيى بن يحيى الليثي، وزياد بن عبد الرحمن شبطون، والغازي بن قيس، وعبد الرحمن بن دينار وأخيه عيسى بن دينار وأبنائهم وحفدتهم الذين توارثوا الفقه والرياسة أجيالا عديدة وكانوا ملء سمع الأندلس وبصرها، ومع ذلك لم تدون فتاواهم في كتاب أودونت وضاعت، لكن بفضل الراوية والسند الذي يعنى به العلماء المسلمون ظلت آراء هؤلاء الفقهاء وفتاواهم محفوظة في أمهات المدونات الفقهية الأندلسية وغيرها[2].

وهنا لابد من الإشارة إلى أن كتب النوازل لم تعد فائدتها اليوم مقصورة على المشتغلين بالفقه وعلومه فحسب، بل تعدتهم إلى غيرهم من المختصين في سائر العلوم الإنسانية والدراسات الاجتماعية والاقتصادية لاسيما منها التاريخية، حتى قال بعض المؤرخين المعاصرين: “أصبح كل عمل تاريخي يتجاهل هذا النوع من المصادر عملا غير تام”[3].

المطلب الثاني: خصائص فقه النوازل في الغرب الإسلامي

لفقه النوازل في الغرب الإسلامي خصائص ومميزات يصح إجمالها فيما يلي:

  1. اصطبغت كتب النوازل في الغرب الإسلامي بصبغة المذهب الذي يتمذهب به هذا الصقع من أصقاع الإسلام، وهو المذهب المالكي، الذي يتوسع في أصلين يعدان من أهم الأصول التي يقوم عليها هذا المذهب: المصالح المرسلة وسد الذرائع، وهما لصيقان بواقع الناس وتطور الحياة وتجددها.
  2. توجد خصوصية أخرى لنوازل المغرب والأندلس، فإلى جانب الفتاوى المعهودة التي تتضمن أجوبة المفتي على أسئلة الناس، كما هو الحال في سائر الأقطار الإسلامية، هناك صنف آخر من النوازل يدعى “نوازل الأحكام” خاص بكبار شيوخ الفقه والفتوى المشاورين ـ بفتح الواو ـ لأن القضاء في هذه المنطقة الغربية كان مبنيا على خطة الشورى: يعين الخليفة أو الأمير إلى جانب كل قاض من قضاة الحواضر مشاورا أو أكثر يستشيره القاضي ـ كتابة ـ في المسائل التي ينظر فيها بين الخصوم، وقد بدأت خطة الشورى في قرطبة خلال القرن الهجري الثالث، وكان المشاور فيها واحدا، وأقدم من عرف اسمه منهم يحيى بن يحيى الليثي (ت 234ﮪ)، وهو تلميذ مالك رضي الله عنه، وعبد الملك بن حبيب (ت 238ﮪ)، وأحمد بن يحيى بن يحيى الليثي (297ﮪ)، وأحمد بن بقي بن مخلد (324ﮪ)، غير أنه لم يعرف لهؤلاء تآليف في نوازل الأحكام، وتعدد المشاورون بالأندلس في القرن الهجري الرابع فما بعده حتى بلغ عدد المشاورين في قرطبة أواخر عهد الخلافة خمسة عشر فقيها[4].
  3. الواقعية: تتميز نوازل المالكية أكثر من غيرها بصفة الواقعية فلا تهتم إلا بقضايا وقعت ونزلت بالفعل، وقد بدأ هذا الأمر منذ عهد التأسيس، حين كان مالك رحمه الله يستنكف عن الخوض في الفرضيات، ويحرص على ألا يبحث إلا في فقه المسائل التي حدثت بالفعل.

ولما سأله عراقي وأخذ يفترض له فرضيات قال له: تلك سليسلة بنت سليسة، إذهب عند أهل العراق[5].

وسأله عراقي آخر نحو هذا فلم يجبه، فقال له لم لا تجيبني يا أبا عبد الله؟ قال له: لو سألت عما ينفعك لأجبتك، وقال ابن القاسم أحد كبار أصحاب الإمام: “كان مالك لا يكاد يجيب، وكان أصحابه يحتالون أن يجيء رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها مسألة بلوى (أي حدثت وابتلي بها الناس) فيجيب فيها”[6]، وقد سلك الأندلسيون والمغاربة عموما مسلك الواقعية المالكية في نوازلهم وفتاواهم.

  1. المحلية وهي من أبرز مميزاتها، فهي لا تبقى سابحة في مطلق الفقه وأبوابه العامة، كما هو ديدن كتب الفقه، وإنما تتحدد مسائلها في المكان والزمان والموضوع، فيأتي السؤال وكذا الجواب بتفاصيل النازلة ويذكر أسماء الأطراف المعنية، حتى تاريخ النازلة أحيانا، وذلك كله “مادة خصبة وثروة لا تقدر للفقهاء والمؤرخين”[7].
  2. غزارة التأليف في النوازل: يلاحظ المتتبع النبيه تكاثر كتب النوازل المغربية ابتداء من القرن الهجري العاشر، فقد انفرد المغرب الأقصى بالنوازل بعد أن انتهت دولة الإسلام في الأندلس وهيمن الأتراك العثمانيون على المغربين الأدنى والأوسط وزاحموا فيهما المذهب المالكي بالمذهب الحنفي الرسمي للحكام الأتراك.

أما المغرب الأقصى فقد ظل مستقلا عن النفوذ التركي، فراجت فيه سوق الفقه المالكي وكتب النوازل، وظهرت بالمغرب، وفي فاس تحديدا، في هذه المرحلة بالذات ـ أكبر موسوعتين في النوازل في الغرب الإسلامي: “المعيار المعرب” لأحمد الونشريسي التلمساني الفاسي (ت 914ﮪ)، والنوازل الكبرى أو المعيار الجديد للمهدي الوزاني الفاسي (ت 1342ﮪ) وكذا نوازله الصغرى التي ألفها قبل الكبرى والمسماة “المنح السامية في النوازل الفقهية”. ومنها سنقتبس بعض نماذج نوازل الحايك التطواني إن شاء الله تعالى.

المطلب الثالث: فقه النوازل في شمال المغرب الأقصى

وحيث كان المغرب الأقصى كله قد اشتهر بفقه النوازل، فقد كان لشماله القدح المعلى واليد الطولي في هذا النوع من الفقه، وفقهاؤه النوازليون أظهر من أن ينكروا وأشهر من أن يذكروا، لكن لا بأس من ذكر أسماء بعضهم أمثال: المهدي الوزاني العمراني (ت 1342 ﮪ) صاحب المعيار الجديد أو النوازل الكبرى الذي هو أكبر موسوعة في الغرب الإسلامي، ذيل بها على المعيار للونشريسي، وصاحب النوازل الصغرى المسماة “المنح السامية في النوازل الفقهية”، وصاحبهما هو آخر المفتين الكبار المؤلفين في النوازل وأحمد ابن عرضون الغماري الشفشاوني (ت 992ﮪ) الفقيه النوازلي الكبير صاحب كتاب “الأجوبة”، وعبد العزيز بن الحسن الزياتي الغماري (ت 1055ﮪ) صاحب كتاب “الجواهر المختارة فيما وقفت عليه من النوازل بجبال غمارة”، والذي كان موضوع رسالة جامعية بالسربون في باريس، وعلي بن عيسى العلمي الشفشاوني (ت 1127ﮪ) قاضي الشاون وابن قاضيها صاحب “نوازل العلمي” التي طبعتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية في جزأين، والفقيه العلامة أحمد بن محمد الرهوني التطواني (ت 1373ﮪ) قاضي تطوان ووزير العدل صاحب كتاب في فقه النوازل يسمى “الجواهر الثمينة في تصيير وهبة أولاد مدينة” والكتاب الماتع النافع “نتائج الأحكام في نوازل الأحكام” كلاهما له، وأبو زيد عبد الرحمن بن محمد الحايك التطواني (ت 1237ﮪ) صاحب النوازل المشهورة التي جمعها تلميذه قاضي تطوان سيدي المامون أفلال الحسني، وغير هؤلاء كثير.

ويكفي أن نعلم أن شطر كتاب النوازل الصغرى للمهدي الفاسي هي نوازل تطوانية، قال:…وأضفت إليها ما عثرت عليه من قبلي ممن مضى وغبر، كالشيخ التاودي، والشيخ الرهوني، والشيخ سيدي عبد الرحمن الحائك التطواني، والفقيه سيدي العربي الزرهوني وأضرابهم، نفعنا الله بهم، وحشرنا في زمرتهم”[8].

أ. ترجمة قاضي تطوان أبي زيد عبد الرحمن الحايك

هو الفقيه العلامة المفتي النحوي أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الحائك المصمودي التطواني، ولي قضاء تطوان ثلاث مرات، وكان كثير النسخ والتأليف، له مؤلفات منها:

  1. إعراب مختصر خليل، في مجلدات يوجد بعضها.
  2. شرح شواهد المكودي في الألفية
  3. حاشية على وثائق ابن سلمون
  4. النوازل الفقهية (التي نحن بصددها).
  5. مختصر شرح النصيحة الزروقية
  6. أربعون حديثا من رواية الأئمة الأربعة، ونسختها الوحيدة محفوظة بالخزانة العامة بتطوان رقم 483، بخطه رحمه الله. توفي رحمه الله بتطوان عام 1237ﮪ – 1828م[9].

قال فيه وفي نوازله صاحب شجرة النور الزكية: “له فتاوى غاية في التحرير جمعها تلميذه المامون إجلال* الحسيني قاضي تطوان، وبعضها منقول في نوازل الشيخ المهدي الوزاني”[10]، وحلاه المهدي الوزاني في نوازله بوصف “العلامة النوازلي”[11] بالعلامة الفهامة”[12] و”بالفقيه المحقق”[13]، وكان يسأل من كافة أنحاء المغرب وسئل من رباط الفتح كما في النوازل الصغرى للوزاني[14].

ب. نوازل الحايك

نوازل أبي عبد الرحمن الحايك جمعها تلميذه القاضي سيدي المامون وأفلال الحسني ـ قاضي تطوان ـ كما ذكر ابن مخلوف في شجرة النور والمهدي الوزاني في النوازل الصغرى ـ وقد تقدم ذكر ذلك ـ ولا تزال نسخة منها عند بعض حفدة الحايك بتطوان[15]، ولكنهم أضناء بها، وقد حاول الفقيه داود الحصول عليها من ورثته فلم يفلح، واستطاع شيخنا العلامة الفقيه المحقق محمد بوخبزة التطواني الحسني أن يلقي عليها نظرة عند حفدته ولكنه لم يمكن من تصويرها[16].

غير أن الكثير من هذه النوازل ضمنها المهدي الوزاني “معياره الجديد” أي النوازل الكبرى و” المنح السامية في النوازل الفقهية” أي النوازل الصغرى هي قيد التحقيق من طرف أحد الأساتذة الباحثين، فقد حدثني الأستاذ الدكتور محمد التمسماني الإدريسي ـ صديقنا وبلدينا ـ أن الأستاذ مصطفى اغزيل مشتغل الآن بتحقيقها في رسالة جامعية في دار الحديث الحسنية بالرباط، ولا أدري كيف تمكن صاحبها من الحصول عليها؟!

المطلب الرابع: نوازل الحايك قضايا ونماذج

لقد خلف أسلافنا في المغرب ثروة فقهية كبيرة ولاسيما في فقه النوازل الذي برز المغاربة فيه وبرعوا، ليقيموا بذلك الدليل على أن الفقه الإسلامي ثابت راسخ بأصوله وقواعده، متحرك متجدد باستخراجاته واستنباطاته، صالح للتطبيق في كل زمان ومكان، يسع الحياة وأحداثها المتلاحقة في مختلف الأوقات والأحوال.

ولقد كان الفقيه النوازلي العلامة أبو زيد عبد الرحمن الحايك التطواني علما على رأسه نار في هذا الميدان، ولكن لا يسع ضيق الزمن على استيعاب نوازله وفتاواه، فاكتفى بلمعة منها في بعض أبواب الفقه لتعليل الحشاشة لا لإرواء الغلالة.

أ. في نوازل الطاهر والنجس

أول نازلة في كتاب “النوازل الصغرى” للمهدي الوزاني كانت منقولة من نوازل الحايك، وهذا فيه دلالة كبيرة، قال الوزاني: “نوازل الطاهر والنجس: سئل الفقيه سيدي عبد الرحمن الحائك التطواني عن العنكبوت إذا وقعت في طعام مائع وماتت فيه، هل تنجسه أم لا؟

فأجاب: بأنها لا تنجسه لأنها لا نفس لها سائلة.

قال: ثم وقفت على نص الخطاب عليها في أول فصل الطاهر بأن ميتتها طاهرة وإن كانت فيها رطوبة”[17].

فأنت ترى أنه أفتى بأن المائع لا ينجس، اعتمادا على أصل فقهي وهو: ما لا نفس له سائلة لا ينجس الطعام المائع، كالذباب، والزنبور، والنمل، والنحل، والحلزون، وغير ذلك.

ب. في العبادات

وسئل عن واقعة وقعت بتطوان: وهو أن عروسا بكرا افتضها زوجها قرب رمضان، فبقي الدم معها في أيام رمضان من افتضاضها، فاختلف الناس في صيامها.

فأجاب: إن صومها صحيح لأن هذا الدم ليس بدم نفاس، لأنه لم يخرج بالولادة، ولا دم حيض لأنه لم يخرج بنفسه، بل بسبب الافتضاض، قال: وقد تردد من تردد من أعيان طلبة الجبل، والله أعلم[18].

فقد تردد في هذه الواقعة والنازلة بعض أعيان طلبة الجبل ـ كما قال ـ أي علماؤه فحاروا في الجواب وقاس بعضهم دم الافتضاض على دم الحيض والنفاس في بطلان صيامها، فرد العلامة الحايك هذا القياس الفاسد واستمسك بالنصوص التي تبطل الصيام للحائض والنفساء فقط.

ج. في نوازل الذكاء

سئل الحايك عن الدابة التي لا يؤكل لحمها هل تذبح إذا أيس منها؟

فأجاب: إنها تذبح كما في المتن ـ يقصد متن خليل ـ وأصله لابن القاسم، فإنه قال: ولو كان لرجل دابة فأيس من المنتفع بها على كل وجه فذبحها، أحب إلي من تركها، ابن رشد: استحب ذلك لأن في ذلك راحتها، وقد قيل: أنها تعقر ولا تذبح لئلا يشكك الناس في جواز أكلها[19].

فأنت ترى أنه أفتى بجواز ذبحها باعتبار أن الأمور بمقاصدها، وفي ذبحها راحة لها، ثم أورد قول أشهب أنها تعقر ولا تذبح، وأخذ هذه المرة بأصل سد الذرائع عند المالكية، يعني حتى لا يعتقد الناس إباحة أكلها.

د. نوازل الضحايا

وسئل أبو زيد الحائك عن أضحية ساقطة إحدى الخصيتين، كذلك خلقها الباري جل علاه.

فأجاب: بأنها لا تجزئ[20]، وذلك نشدانا للكمال في الأضحية، قياسا على النص في منع الأضحية العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء، ومدار الأمر على النقص ونشدان الكمال، ولذا أفتى بأن الخصي من الغنم لا يجزئ.

ﻫ. نوازل النكاح

وسئل عن الهارب بالمرأة للفساد إذا أراد أن يتزوجها هل حرمت عليه أم لا؟ فأجاب: إن فيها خلافا مذكورا في المعيار وغيره، والذي يظهر من نظم عمل فاس: التحريم قال:

وأبدو التحريم في مخلل          وهارب سيان في محقق

والمخلل، هو من يخلل المرأة أي يفسدها على زوجها حتى يعارفها فلا تحل للمخلل، قال: وقد أفتى الونشريسي بأن الهارب إذا خطب المهروب بها بعد هروبها لا يجوز تزويجها له من أب ولا غيره، لأنه غير كفء، لفسقه، وذلك حق الله، وبه يعلم أن المشهود عليه أعلاه، لا يتزوجها، والخلاف المذكور إنما هو في التأييد لا في التزويج، وهبه أنه فيه فالراجح المنع، والسلام[21].

فأنت ترى أنه أخذ في هذه النازلة الحادثة بتطوان بأصل عظيم من أصول المالكية، وهو سد ذريعة الفساد، وإفساد البنات على آبائهن، والنساء على أزواجهن، وفي ذلك تدمير وتخريب للأسر المسلمة، فكان الفقه السليم أن يعامل الجاني بنقيض قصده، فيمنع من الزواج بها، ثم إنه غير كفء لها، والكفاءة في الزوجين شرط عند المالكية كذلك، فهو غير كفء لها لفسقه وتعديه على حقوق الله تعالى.

وسئل عن يتيمة زوجها وليها لبادية وهي غير بالغ دون سبب. فأجاب: إنه نكاح فاسد يجب فسخه قبل الدخول وبعده، ما لم يطل بعد الدخول… وإذا فسخ النكاح، فالفسخ فيه بطلاق[22].

فأنت ترى في هذا انصافا للمرأة وأيما إنصاف، فلا يحق للولي إكراهها على السكن بالبادية وتزويجها بالإجبار إذا لم يخش عليها الفساد، فالبكر تستأذن كما في الحديث، ولذلك حكم بفساد هذا النكاح ووجوب فسخه.

وسئل أيضا عمن أراد الانتقال بزوجته من حاضرة إلى بادية، وكان غيره قد أفتى بجواز نقلها. فأجاب: أفتى الشيخ أبو القاسم الغبريسي وأبو علي بن قداح وبعض شيوخنا بعدم خروجها حيث يكون عليها معرة أو مضرة، وبه أقول، فتخرج إن كانت تقدر على مشاق البادية وكانت لا معرة عليها لعدم عراقتها في الحاضرة، أو كانت سكنتها من قبل، وإلا فلا، والسلام[23].

فانظر إلى كيفية الفتوى حسب الحال، إذ لا يمكن لحضرية، عريقة في الحضر أن تتحمل مشاق البادية إضافة إلى المعرة التي تلحقها بسبب ذلك، وقد راعى الفقيه المحقق الحايك هذا الأمر عملا بقوله، صلى الله عليه وسلم: “رفقا بالقوارير”.

وسئل عن هاربة عن زوجها مشتكية ضرره، وأنه أسقط يدها بضربة، أو امرأة جاءت على دار أبيها مع زوجها زائرة وتعاصت عن الرجوع إلى دارها؟ فأجاب: إن كان الزوج تناله الأحكام فهو من أفراد قول ابن سلمون ما نصه:

وسأل ابن حبيب سحنونا عن المرأة تشتكي أن زوجها يضربها، وبها أثر ضربة ولا بينة لها على معاينة ضربها، فقال: إنه يسأل عنه جيرانها، فإن قالوا: إن مثله لا ينزع عن ظلمه، قيل: فإن سمع الجيران الصياح منها ولم يحضروا ضربه إياها، فقال لاشك في هذا أنه يؤدب وجوابه ما قال ابن عرفة في المعيار؛ ومضمنه أنها لا ترد إلى زوجها وأنها تطلق عليه.

ووقع السؤال عما يظهر من الجواب ونصه: الحمد لله، للزوجة المذكورة أن تطلق نفسها وتفارق الزوج، لما ثبت من تكرار إضرار الزوج المذكور بها وإساءته لها بالضرب والشتم، قال في المتن: ولها التطليق بالضرر[24]. وهذا ما يسمى اليوم في بعض مدونات الأحوال الشخصية بالتطليق للضرر.

– طلاق الغائب الذي طالت غيبته

سئل أبو زيد عبد الرحمن الحائك التطواني عن بعض تجار تطوان، ذهبوا للتجارة في البحر فانقطع خبرهم، بحيث لا تدرى حياتهم من مماتهم.

فأجاب: الصواب فيهم أنهم محمولون على الموت[25]. وعلى هذا بنت مدونة الأحوال الشخصية المغربية في الفصل57 جاء فيه: “إذا غاب الزوج في مكان معروف مدة تزيد على سنة بلا عذر مقبول، جاز لزوجته أن تطلب إلى القاضي تطليقا بائنا”[26].

وقد استمر العمل القضائي ممثلا في غرفة الأحوال الشخصية بالمجلس الأعلى على تطليق من غاب عنها زوجها فوق السنة، سواء كان لعذر مقبول، أو غير مقبول، إذا لم يلتزم الزوج بالنفقة.

و. نوازل الضر والاستحقاق

– حصانة الأطباء والبياطرة في ذلك الزمان في مواجهة الغير:

وسئل العلامة الحايك عن بيطار خصى بغلا فمات، فشهد من له معرفة بالبيطرة أنه عارف بذلك وغيره، ومن الحذاق فيه، فأفتى غيره أنه لا ضمان عليه لقول ابن سلمون: ومن فعل فعلا يجوز له، من طبيب، وصانع، وشبيههما، على وجه الصواب وتولد منه هلاك نفس أو ضياع مال فلا شيء عليه.

فأجاب: أنه صحيح دليله معه[27]. وعلى هذا جرى العمل إلى يوم الناس هذا، وحتى في التقنين الوضعي الوطني والدولي، فلا ضمان على الطبيب والبيطري ولا غرم عليهما إلا إذا تعمدا الإهمال وقصرا في الأمر.

إذ لو لم يكن لهؤلاء هذه الحصانة التي تيسر لهم القيام بمهامهم لتعطل الطب والبيطرة وسائر أمثال هذه الصنائع، وقد وصل فقهاؤنا إلى هذه الرتبة من النظر، في وقت كانت فيه القوانين الدولية والأوربية تعتبر الطبيب والبيطري ضامنين في كل الأحوال.

ز. نوازل الإجارة والكراء

وسئل أيضا عن صاحب فندق ضاع ما في بيوته فضمنه قاضي الوقت. فأجاب: لا ضمان عليه باعتبار أن الأمتعة مما يغاب عليها، والناس محتاجون للفنادق غاية، إن كانوا يعتمدون على صاحب الفندق في حفظها ويتركونها من غير حارس لأجله، والفندق بابه مفتوح[28].

قلت: وهو أمر غير ممكن اليوم، إذ الضمان أصبح واجبا على صاحب الفندق ذلك أن الناس يحطون في الفندق أمتعة في غاية النفاسة والقيمة، وقد أقر القانون المغربي بوجوب الضمان في الفصل 88 من ظهير 12 غشت 1913 (قانون الالتزامات والعقود).

ح. نوازل الدماء والردة

سئل رحمه الله عما يذكره الخطباء في الأعياد من حديث: “من أعان على قتل مسلم ولو بسطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله.

فأجاب: أنه ضعيف جدا عند ابن حجر والمنذري وبالغ ابن الجوزي فحكم بوضعه وتبع أبا حاتم فيه، وقال الإمام أحمد: ليس هذا الحديث بصحيح وأنه موضوع، فتحرم روايته إلا ببيانه ويحرم العقل به مطلقا[29].

قلت: وفي هذا إلجام لألسنة من يزعم من المتأخرين أن علماء المالكية ـ لاسيما النوازليين منهم لا علم لهم بالحديث وإنما وكدهم، قال: وقيل وما روى خليل، بل بلغ الأمر ببعض المتعصبين في تطوان إلى أن قال لي:

 ـ في بعض المجالس التي ذكر فيها حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم ـ ليس في المذهب المالكي حديث أصلا، إنما هو ابن عاشر وخليل، وهذا هو الدليل النقلي عندنا لا غير.

وفي فتوى الحايك هاته: رد على مثل هؤلاء الجهلة أدعياء الفقه، والحايك وغيره من فقهاء الأئمة الأعلام أولى بمالك منهم، لأن مالكا هو مؤسس مدرسة الحديث بالمدينة، ومؤلف الموطأ أول كتاب في الحديث وفي نوازل الدماء والردة كذلك.

سئل العلامة الحائك عن امرأة سبت النبي، صلى الله عليه وسلم، وبنته فاطمة، رضي الله عنها، فأجاب: لابد من بيان ما سبت به، فإن كان تنقيصا أو استخفافا بحقه، صلى الله عليه وسلم، قتلت على المشهور حدا[30].

قلت: هذا مستغرب من العلامة الحايك، لاسيما وأن فقهاء المالكية عرفوا بالتشدد في فتاوى الردة والدماء، ولكني لما رجعت إلى “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” للقاضي عياض اليحصبي السبتي وجدته قيد ذلك بالتوبة، ولعل في كلام الحائك نقص حذف.

قال عياض: “قد قدمنا ما هو سب وأذى في حقه، صلى الله عليه وسلم، وذكرنا إجماع العلماء على قتل فاعل ذلك وقائله، وتخيير الإمام في قتله أو صلبه.

ثم أعلم أن مشهور مذهب مالك وأصحابه وقول السلف وجمهور العلماء قتله حدا لا كفرا، إن أظهر التوبة منه، ولهذا لا تقبل عندهم توبته، ولا تنفعه استقامته، وحكمه حكم الزنديق ومسير الكفر في هذا القول، وسواء كانت توبته على هذا بعد القدرة عليه والشهادة على قوله، أو جاء تائبا من قبل نفسه، لأنه حد وجب، لا تسقطه التوبة كسائر الحدود”[31].

وعلى هذا ينبغي توجيه كلام العلامة الحايك وتقييده بالتوبة، فيكون الساب يقتل حدا لا كفرا إن أظهر توبته في مشهور مذهب مالك.

انظر العدد 19 من مجلة الإحياء

فقه النوازل في الغرب الإسلامي: نوازل عبد الرحمن أبي زيد الحائك التطواني.. نماذج وقضايا

الهوامش

  1. من خطبة كتاب النوازل الصغرى المسماة “المنح السامية في النوازل الفقهية”، للفقيه العلامة محمد المهدي الوزاني المتوفى 1342ﮪ، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، (1412ﮪ/1992م).
  2. نظرات في النوازل الفقهية للدكتور محمد حجي، ص: 170-171-172، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط (1420ﮪ/1990م).
  3. التاريخ المغربي ومشاكل المصادر: نماذج النوازل الفقهية، مقال للأستاذ محمد مزين بمجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، العدد الثاني، 1985م، وانظر مقال: “عطاء التراث الفقهي”، للدكتور عبد العزيز التمسماني خلوق، بمجلة دار النيابة، 1086م.
  4. نظرات في النوازل الفقهية، ص: 33- 34.
  5. قرأت هذا الكلام مرارا، وغاب عني مصدره الآن.
  6. ترتيب المدارك للقاضي عياض، 1/191، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي وسعيد أعراب وآخرين، (1965- 1983).
  7. وقائع أندلسية في نوازل القاضي عياض، مقال للدكتور محمد بنشريفة، بمجلة دعوة الحق، العدد 264، شعبان/رمضان المعظم 1407ﮪ، أبريل/ماي 1987م.
  8. النوازل الصغرى، 1/10.
    1. هو تصحيف، بل هو أفلال بالفاء كما في نوازل المهدي الوزاني، 1/121.
  9. انظر الأعلام للزركلي، 3/333، دار العلم للملايين، بيروت، ط 7، 1986م.
  10. شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد بن محمد بن مخلوف، 1/375، ط دار الفكر، بيروت.
  11. النوازل الصغرى، 1/107.
  12. المصدر السابق، 1/256.
  13. المصدر السابق، 4/394.
  14. المصدر السابق، 2/328.
  15. انظر: محاضرات في تاريخ المذهب المالكي للدكتور عمر الجيدي، ص: 108، مطبعة النجاح الجديدة.
  16. حدثني بذلك يحفظه الله في بيته بتطوان.
  17. النوازل الصغرى، 1/12.
  18. المصدر السابق، 1/265.
  19. المصدر السابق، 1/319.
  20. المصدر السابق، 1/357.
  21. انظر المصدر السابق، 2/130.
  22. المصدر السابق، 1/142.
  23. المصدر السابق، 2/131 بتصرف.
  24. النوازل الصغرى، 2/336-337.
  25. النوازل الصغرى، 2/464.
  26. مدونة الأحوال الشخصية مع آخر التعديلات، عبد العزيز توفيق، طبعة دار الثقافة الدار البيضاء.
  27. النوازل الصغرى، 3/541.
  28. المصدر السابق، 4/106.
  29. المصدر السابق، 4/370.
  30. المصدر السابق، 4/390.
  31. إتحاف أهل الوفا بتهذيب كتاب الشفا، لعبد الله التليدي، ص: 527، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 1، (1421ﮪ/2000م).
Science
الوسوم

د. توفيق الغلبزوري

أستاذ التعليم العالي بكلية أصول الدين

جامعة القرويين-تطوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق